تحدث الأحداث في غزة في موعد يقرب من انقضاء اربعين سنة على حرب الايام الستة. تناولتها وسائل الاعلام بتوسع ووزنت خيراتها بازاء لعناتها. أشار كثيرون الى أنها منحتنا هدية مسمومة وهي المناطق المحتلة. أشعل الاحتلال حرب يوم الغفران، ومزق المجتمع الاسرائيلي، وعزز الحركة القومية الفلسطينية ودفعنا الى مكانة مضطهِدين. وأشار آخرون الى أن النصر في الحرب حسّن مكانتنا في العالم، وأدخل في قلوب جيراننا بدء الاعتراف بأنهم لن يقتلعونا من هنا، وعجّل الهجرة الى البلاد ومكّن من الحلف الذي عُقد بين اسرائيل والولايات المتحدة.

جميع المزاعم صحيحة. المقايسة بين الايجاب والسلب متعلقة بالنقطة الزمنية التي تجري فيها: فلو أجريناها في وقت يقرب من انقضاء الحرب، لكانت تميل بلا ريب الى جانب الايجاب، لكن يصعب علينا الآن أن نُلخصها بموافقة اجماعية. كيف نُقدر نتائج الحرب بعد عدة عشرات من السنين؟ من هو الحكيم الذي يعلم.

إن العِلم بأن محكمة التاريخ تُغير قراراتها بلا انقطاع محرج جدا، لكن الأكثر إحراجا هو "لو" و"لولا أن". أمثلة: ماذا كان سيكون لو ضبطنا أنفسنا عن الخروج الى الحرب، ولو امتنعنا عن احتلال الضفة الغربية، ولو سلّمنا فورا يهودا والسامرة الى الفلسطينيين، ولو امتنعنا عن اقامة مستوطنات، ولو ضممنا جميع المناطق فورا، ولو وافق اسحق شمير على "اتفاق لندن" بين بيرس وحسين، ولو أجرينا تفاوضا في اتفاقات اوسلو بوعي أكبر، ولو فهم براك أن عرفات غير قادر على استجابة مبادرة كلينتون، ولو ضبطنا أنفسنا ولم نسقط السلطة الفلسطينية، ولو منعنا حماس المشاركة في الانتخابات.

إن مُجيبي اسئلة كهذه بصوت واثق يؤمنون بقدرتنا على السيطرة على سير التاريخ ويقللون من قوة حركات كبيرة تسوقنا مُرغمين. في مقابلتهم المتشككون الذين هم كما أرى الأكثرية التي تزداد، يشعرون أننا نستطيع القليل فقط. لا نستطيع أن نؤثر في الاجراءات التي تحدث في العالم العربي، وفي نسبة نمو السكان في ايران، وفي سوء أوضاع الشعوب العربية، وفي أسعار النفط، وفي فساد الدول التي تستخرج هذا السائل، وفي الصراع بين الأصولية والحداثة والعداء بين أهل السنة والشيعة.

لسنا قادرين حتى على التأثير في المجتمع الفلسطيني الخاضع لإفضالنا. ولسنا نستطيع أن نُعجّل نضجه ولا نعرف كيف ستؤثر خطوة نخطوها، الى هنا أو هناك، في قدرته على أن يُصاغ وأن يصبح محادثا مستقرا وثقة. يوجد لهذا التوجه المتواضع آثار في المستوى النفسي والمستوى التطبيقي: إنه يخفف عن الضمير الجماعي لانه يغتفر لنا ذنب اخفاقاتنا. لماذا نشعر بمشاعر الذنب، اذا كنا لا نعلم ماذا كان سيحدث لو سلكنا سلوكا مغايرا؟ وهو ايضا يقترح علينا أن نمتنع عن مبادرات سياسية تظاهرية، لأننا لا نعلم ماذا ستُحدث. اذا فشلنا في الماضي في التنبؤ فلماذا ننجح في ذلك الآن؟.

ولما كان الأمر كذلك، فانه يحسن السلوك على حسب نظرية الضرورات، التي تقترح مواجهة الاسئلة المُلحة لا الاسئلة الكبيرة. سلك اسحق شمير هذا السلوك وعاب عليه المراقبون السياسيون، لكن يبدو أن تصوره البراغماتي والدفاعي كان له أساس يقوم عليه. قد يكون أفضل من سياسة شمعون بيرس المحمومة والإبداعية. تتغلغل معرفة ذلك الى القيادة الوطنية، ولهذا لم يعد يوجد سياسي يتجرأ على الحديث بالصيغة الفصيحة التي كانت مقبولة هنا الى ما قبل عدد من السنين. دُفن الشرق الاوسط الجديد بعيدا في الارض ومعه أُخرجت كلمة "جديد" من القاموس السياسي. أهلا وسهلا في عصر المحافظة. - يديعوت 18/6/2007 -