في 17 أيار 1977 في العاشرة مساءا، زاحمت جمهور مئات في القاعة في الطابق الارضي لقلعة زئيف في تل ابيب، وهي قلعة حركة حيروت. كان يفترض أن استطلع هناك كمراسل سياسي لـ "معاريف" السقوط التاسع لمناحيم بيغن في منافسته في رئاسة الحكومة. كان شيئا ما رتيبا، ومُملا. نجحت آخر الامر في تغطية أكبر قصة سياسية وأهمها في اسرائيل منذ اقامتها.

أعترف بأنه في اللحظة التي أعلن فيها حاييم يافين بـ "انقلاب" وتوج مناحيم بيغن رئيسا قادما للحكومة، اصطكت ركبتاي وخفق قلبي. بدا بيغن آنذاك انسانا صارما ومتطرفا، وكمن سيُغلب الديكتاتورية في الدولة ويقود اسرائيل الى حرب، والى مغامرات والى ورطات سياسية. وكان ايضا مريضا، بعد ذبحة صدرية، وبالاضافة الى كل ذلك، كان بلا أية تجربة وزارية وادارية (ما عدا كونه وزيرا بلا حقيبة). تعالى الله، زُعزع كثيرون مثلي، من أين أتينا؟.

نحن نعلم من أين أتينا. بدا وهْم جزء من المخاوف والتخويفات وصفع من أطلق ذلك، وتحقق جزء. تكشف بيغن عن ديمقراطي ممتاز، ربما يكون أكبر الديمقراطيين بين رؤسائنا للحكومات. وقاد اسرائيل الى سلام مع أقوى دولة معادية آنذاك، وهي مصر، مع زيادة مواقفه مرونة. وقضى على القوة الذرية للعراق، وكان ذلك عكس المغامرات. وبادر الى خطة اعادة بناء الأحياء وأنعش مكانة أبناء "اسرائيل الثانية".

من جهة ثانية، قاد اسرائيل، بوحي من وزير دفاعه شارون، الى كارثة حرب لبنان الاولى، التي تعقدت واستمرت وطلبت ضحايا كثيرا – كان هو واحدا منهم – ولم يكن يملك قوة معارضة شارون. في الحقيقة أن أمراضه أخلّت بأدائه عمله في فترات مهمة في اثناء ولايته.

لم تكن الحكومات التي رأسها حتى آب 1983، مع عدم المبالغة، مثالا يُحتذى للادارة السليمة والجيدة لشؤون الدولة الجارية عامة، وشؤون الاقتصاد خاصة. وقد تحدث هو نفسه عن "الفساد" فيها. أسهم عدم تجربته الادارية والوزارية في ذلك بالتأكيد. نجحوا في القضاء على التضخم الهائل الذي ولدته سياسة حكومته الاقتصادية، ذلك الذي بلغ رقما قياسيا بارتفاع جدول الغلاء بنسبة 445 في المائة في 1984، نجحوا في ذلك في 1985 فقط، في ايام حكومة الوحدة، حينما كان وزير المالية اسحق موداعي ورئيس الحكومة شمعون بيرس.

يُعرض بيغن اليوم، من بُعد زمني، كرئيس حكومة ناجح، بل مثالي، مساوي لدافيد بن غوريون. نشتاق الى زعيم مثله. الأشواق مفهومة وبخاصة على خلفية شخصيات وسلوك رؤساء الحكومة في العقد الأخير، لكن توجد فيها مبالغة ما وشيء من الاصلاح النوستالجي للماضي. تدلنا نظرة باحثة بلا هوى الى فترة بيغن وعمله على انه كان زعيما كبيرا، قوي الحضور، ذا رؤيا، واعتزاز يهودي وروح صلبة، كذاك الذي يناسب الاعتماد عليه، لكنه كان بقدر أقل من ذلك رئيس حكومة ناجحا يفترض أن يُدير دولة. فالى جانب اجراءاته الكبيرة التي ستسجل في التاريخ – السلام وقصف المفاعل الذري – فشل في اخرى وفي ادارة الدولة في مجالات مختلفة.

بيد أن الأهمية الجوهرية للانقلاب لم تكن في أن بيغن والليكود توليا السلطة آخر الامر. بقيت هذه الحادثة نقطة تاريخية تُذكر لا أكثر. كانت أهميته في أنه أنشأ وثبّت اجراءا ديمقراطيا سوّيا في اسرائيل، كمقبول ومفهوم ضمنا في كل دولة حرة. هذا يعمل الى اليوم، وهذا هو الانقلاب الحقيقي.

حتى 1977، ولمدة عشرات السنين سيطر على اسرائيل حزب واحد – مباي في تناسخاته المختلفة. بدا امكان أن يضربه حزب آخر في الانتخابات بسبب اخفاقاته وأن يرثه في ادارة الدولة، وهو عمل روتيني في كل ديمقراطية، بدا خياليا تماما. إن لب المنافسة في السلطة في دولة ديمقراطية، الذي هو مكافأة الناخب وعقوبته للمنتخبين، اقتُلع من اسرائيل آنذاك.

غيّر انقلاب 1977 الوضع. أصبح الحزب التاريخي الحاكم شديد الفساد الى أن أصبحت فكرة عزله حقيقية فجأة. ساعدت على ذلك تغيرات اجتماعية ونهضت أعجوبة تبديل السلطة، وهي تحيا وما زالت تحيا. لكننا لم نبلغ الى نظام حاكم ثنائي الحزب أو ثلاثي الحزب كالمطلوب، لكن مبدأ المكافأة والعقوبة السياسيين، الذي يرفع ويخفض الاحزاب الحاكمة على حسب أعمالها، يعمل. في السنين الثلاثين منذ 1977 استُبدلت الاحزاب الحاكمة أو رؤساء الحكومة (عندما وجدت انتخابات شخصية) سبع مرات. أما أي رؤساء حكومة يلدها لنا هذا الاجراء السليم فهو قصة مغايرة. - معاريف 16/5/2007 -