كممثلين لمنظمات احترافية وطوعية للمجتمع المدني في الشرق الأوسط وغرب آسيا وشمال إفريقيا، نعترف ونقدر أهمية الدور والميزات التي يمثلها نظام كفء وعادل للتجارة الدولية. هكذا كان التصور حيال ما تم من الاتفاقية التي أرست قواعد منظمة التجارة العالمية WTO عام 1994، والتي تعهدت في ديباجتها بتحقيق أهداف نتقاسمها جميعًا ومنها تحقيق مستويات أعلى من العيش والنمو الثابت الحقيقي للدخل الفعلي وتوفير العمل للجميع وتحقيق معايير أعلى من النمو الاقتصادي تتوافق مع "التنمية المستدامة." ويحق لنا في هذا الصدد أن نذكّر أنفسنا والآخرين بأن التنمية المستدامة لا يمكن أن تتحقق إلا من خلال تطبيق وإعمال متوازن للمبادئ التي تحفظ حقوق الإنسان وتراعي في الوقت ذاته الحفاظ على البيئة مع الحرص على تحقيق "النمو الاقتصادي" في عالم محدد. وإذا نظرنا إلى ديباجة الاتفاقية سنجد أيضًا أنها تدعي بأن الدول الأقل نموًا من شأنها أن تتقاسم المنافع التي يوفرها الانتاج والتجارة العالمية في السلع.
غير أننا قد لاحظنا أنه بالرغم من بعض الاستجابات التصحيحية فإن منظمة التجارة العالمية وحكوماتنا لم تكن قادرة على التصدي للمد المتزايد من انعدام التكافؤ الاقتصادي الذي يتسبب في نزع الملكية، خاصة عن أكثر الناس استضعافًا في بلادنا. إن تقدم السوق الخاص يمكن أن يخدم المصالح الخاصة، إلا أنه غير قادر على مواجهة وتلبية الحاجات الاجتماعية. والاعتماد الأيديولوجي الكبير على آليات السوق في خدمة أهداف كبيرة وكثيرة وفق ما جاء في الميثاق التأسيسي لمنظمة التجارة العالمية وأمام هذا الواقع إما أن يكون مغرقًا في السذاجة أو مغرقًا في إدعاء السذاجة.
وبالرغم من المزاعم الأكثر اعتدالاً الواردة في ديباجة الميثاق التأسيسي، فإن الانحياز الأيديولوجي الجماعي لمنظمة التجارة العالمية يستقر في صالح تعزيز الأهداف الخاصة من خلال التجارة والاستثمار، حيث تسيطر مصالح الشركات والمؤسسات. ومع ثم، فإنه لتلبية الحاجات الاجتماعية كأولوية، خاصة لمعظم الضحايا والمستضعفين، فإننا نحتاج إلى أن تقوم الدول وحكوماتها بالوفاء بالتزاماتها بحقوق الإنسان قبل أي شيء آخر. وللأسف، فإن دولنا وحكوماتنا تخفق في التنسيق بين الوزارات بما يجعل المؤسسات المالية الدولية تملي تعليقات ومهام تتعارض بشكل واضح مع التزامات القانون العام الدولي للدول نفسها والحكومات في الالتزام بتعهداتها والتزاماتها بإعمال حقوق الإنسان.
في هذا السياق، نؤكد ونشدد على أن التحرير التجاري ينبغي أن يكون وسيلة لتحقيق تنمية مستدامة وليس هدف في حد ذاته. والسياسات التي ترتكز على الأولويات الوطنية والإقليمية ينبغي أن تكون جزءًا مكملاً لخططٍ تسعى إلى تحقيق أهداف الألفية للتنمية MDGs. وبالتالي فإن الهدف لا ينبغي أن يتمثل في تحرير التجارة بل في إرساء سياسات تجارة حرة تضمن تحقيق وإعمال الحقوق الاقتصادية والاجتماعية والثقافية للجميع.
المحافظة على دور الدولة
وينبغي على حكوماتنا أن تقوم بحماية فضاءها السياسي ومرونتها في المجالات الاستراتيجية التي تتفاوض عليها في ظل اتفاقية منظمة التجارة العالمية. ففي مجال الزراعة، ينبغي أن تكون السياسات مدعمة لأهداف التنمية، وتقليل الفقر، وتأمين الغذاء، وسبل الرزق، والوصول إلى السوق من قبل جميع من يحتاجونه. فالزراعة تمثل قطاعًا استراتيجيًا لمعظم الدول تقريبًا في غرب آسيا وشمال افريقيا، حيث يعتمد أكثر من 40% من مصادر الرزق على الزراعة في هذه المنطقة. هذا إلى جانب كونها عملية تجارية تستهدف الربح، فإنها تمثل أيضًا وسيلة للعيش والرزق حيث تكون المهن البديلة مفقودة في عدد من الدول. وبالرغم من أن المنتجات الزراعية لا تمثل الصادرات الرئيسية للدول العربية، فإنه لابد من التعامل معها كقطاع استراتيجي رئيسي بناءًا على المعطيات التي توضح أعداد الذين تعتمد حياتهم على هذا القطاع.
كذلك فإن حكوماتنا في حاجة إلى الأخذ في الاعتبار أثر المفاوضات الخاصة باتفاقية الوصول إلى السوق غير الزراعي nonagricultural market access (NAMA) على مستقبلنا الصناعي. ومن ثم ينبغي على الحكومات أن تضمن صيغة للتخفيض الجمركي تشمل الجوانب التنموية القائمة على الظروف والحاجات الخاصة لكل دولة على حدى.
علاوة على ذلك، فإن خصخصة السلع والخدمات العامة مثل الأرض والمياه، لا تتلائم مع ثقافتنا التي ترتكز كثيرًا على العقيدة والأرض. كما أنها- أي الخصخصة- غير فاعلة بالنسبة لحقوق شعوبنا في تقرير المصير: فخصخصة العناصر العامة للعيش الإنساني في منطقتنا قد أدى إلى رفع التكاليف وتعميق الفقر، ودعم الفساد وأزاح في الوقت نفسه رأسمال الاجتماعي المطلوب لتحقيق الإدارة المستقلة، كما أنه استنزف البيئة الطبيعية، وركز الثروات وخرب العلاقة بين السلطات المحلية والسكان الذين قد يكون التعاون بينهم أفضل في تحقيق أولويات تنموية ذات صلة بواقعهم المحلي يحددونها ويقررونها بشكل جماعي ومشترك.
وهذا هو السبب في ضرورة استثناء الخدمات الأساسية بما فيها التعليم والمياه والصحة والحماية الاجتماعية والطاقة من تحرير التجارة؛ وهو أمر لازم للتنمية البشرية والعدالة الاجتماعية. فالاتفاق المبدئي حول الخدمات والتي كانت جزء من جولة أورجواي، جاء متسماً على نحو نسبي بمراعاة التنمية وضمان تحقيق المرونة بالنسبة للتعامل مع الدول النامية. ووفقًا للفقرة الخامسة عشر في إعلان الدوحة، والذي يوضح ويؤكد على ما جاء في المادة الرابعة والتاسعة عشر من الاتفاقية العامة حول التجارة في الخدمات General Agreement on Trade in Services (GATS), فإن أسس التفاوض على الخدمات تتصل بزيادة المشاركة من قبل الدول النامية والتفاوض على التزامات بعينها. ومن هذا المنطلق تتوفر المساحة لحماية السياسات التنموية لبلادنا. وعلى الحكومات أن تقف معًا ومع المجموعات الأخرى من الدول النامية في رفض المقاربات الجديدة القياسية والتعاقدية متعددة الجوانب في التفاوض على الخدمات وأيضًا تضمين الخدمات الأساسية في المفاوضات.
لقد أشار تقرير التنمية البشرية للبرنامج الإنمائي للأمم المتحدة مرارًا إلى تحذيرات ضد العواقب السلبية للاتفاقية حول الجوانب المتعلقة بالتجارة من حقوق الملكية الفكريةAgreement on Trade-Related Aspects of Intellectual Property Rights (TRIPS), ، خاصة على الأمن الغذائي والمعرفة الأصلية والأمن الحيوي والحصول على الأدوية والرعاية الصحية. ولعل موجة إعادة الهيكلة الاقتصادية والمؤسسية التي جرت استجابة للسوق العالمي الآخذ في التنافس على نحو متزايد، والتفكيك المنتشر بشكل واسع لنظم الضمان الاجتماعي وانحدار معايير ومستويات الخدمات الاجتماعية كل هذا أسفر عن البطالة وعدم تأمين العمل والإخلاء والتشرد وانتزاع الأراضي وفقدان مصادر الرزق والأضرار الصحية وتدهور ظروف العمل. وهذه الظروف إنما تقود إلى انتهاكات الالتزامات الأساسية بالحقوق الاقتصادية والاجتماعية للدول ، التي يتحمل مسئوليتها صانعو القرار في دولنا.
السلع العامة: الأرض والسكن
علينا اليوم أن نواجه السؤال حول سبب تركز 70% من الفقر في دولنا في المناطق الريفية. فأراضينا الزراعية، في ظل أشكال من الحيازة أقل مساحة وأكثر تركيزاً، لم تعد بأية حال منتجة ومن ثم قادرة على تلبية الحاجات المحلية أو الوطنية، بل انها تنتج وباضطراد من أجل المستهلكين في الخارج. والمأساة أننا نستورد وبشكل متزايد ما يغطي حاجاتنا الغذائية بمعدل يفوق ما كان في أي وقت مضى.
ومن هنا فإن الناس تترك أراضيها كمحصلة لما ينتجه هذا الواقع من حاجات ويفدون معًا إلى المراكز الحضرية وأنماط الحياة الحديثة. ولقد تم هضم التاريخ الثقافي المحلي لهؤلاء الناس في مدن تجانسية، في حين أن المؤيدين للحضر من بين صانعي القرار والسلطات غالباً ما يعتبرون هذا بمثابة أمر لا مناص من حدوثه وفي الوقت نفسه يلعنونه. وهم في ذلك يلومون دائمًا الضحايا ويقومون بإخلائهم وهدم منازلهم المتواضعة أينما استطاعوا.
إن الأحياء الفقيرة وما تمثله من فقر إنما تمثل المصادر الرئيسية للاضطراب وعدم الاستقرار. وبالرغم من كونها، أي الأحياء الفقيرة، تمثل في كثير من الأحيان حلاً لمشاكل اقتصادية تتعلق بتوفير السكن ومخرج لمشاكل تتعلق بسياسات الحكم، إلا أن ظروف العيش التي تكتنف هذه الأحياء تشكل انتهاكاً واضحاً لحقوق الإنسان. ومن ثم، فإن فهم هذا الارتباط يؤكد على الرابط أيضًا بين التجارة وحل المشكلة نحو بلوغ حقوق الإنسان ومكافحة الفقر.
الصحة والخدمات الإنسانية
لقد رحب المجتمع المدني بإعلان الدوحة الخاص باتفاقية حقوق الملكية الفكرية والصحة العامة كخطوة إيجابية تبناها المجلس الوزاري لمنظمة التجارة العالمية عام 2001. إلا أن التجربة قد أثبتت فيما بعد أن هناك المزيد والمزيد من الحاجات التي ينبغي انجازها لضمان أن تكون البلدان النامية قادرة سياسياً وفنياً على الإفادة من المرونة المتضمنة في كل من الاتفاقية والإعلان بغرض حماية حقوق مواطنيها في الحصول على الأدوية بتكاليف محتملة. ومنظمة التجارة العالمية باختيارها تجاوز ميثاق التحرير التجاري الخاص بها ولعب دور الحارس لحقوق الملكية الفكرية، تصبح مطالبة الآن بتحمل مسئولية معنوية لإرشاد الدول الأعضاء ضد اتفاقيات التجارة الحرة الثنائية ومتعددة الجوانب مع الشروط الإضافية لاتفاقية حقوق الملكية الفكرية التي تؤثر سلباً في قدرتها على الاستجابة إلى حاجات الصحة العامة بينما تحمي الحقوق المتعلقة بالملكية الفكرية. فلا ينبغي أن يموت الناس مرتين من أجل مضاعفة الأرباح للصناعات الدوائية متعددة القوميات.
حقوق الإنسان وفن الحكم
ومن الجدير بالذكر أن إعلان الألفية قد عكس بشكل واضح الاعتراف العالمي بأنه كما كان الوضع دائمًا في تاريخنا، فإن قيم حقوق الإنسان والديمقراطية تضمن السلام والأمن ودعم الكفاح ضد الفقر.
والفصل الأيديولوجي بين الخصخصة وخطط اللامركزية عن التزامات حقوق الإنسان والمعايير التوجيهية يعد دائماً أمرًا يتسم بالسخافة وعدم الشرعية وتبديد الموارد العامة، خاصة وأنها أصبحت موضة سائدة.
لقد شاهدنا حكوماتنا تتبنى موضة تأجيل القرارات المؤثرة في مصادر رزقنا ومواردنا العامة وإحالتها إلى أيدي الشركات والأسواق الخارجية. ومما يدعو للأسف، أن هذه التطورات تعكس سياسة على المستوى العالمي وهي ليست فريدة بالنسبة لحكوماتنا.
تصحيح وليس احتفال
وفي مناسبة الاحتفال بالذكرى العاشرة لتأسيس اتفاقية منظمة التجارة العالمية، فإننا نحث المنظمة ودولنا سواء الساعين إلى العضوية أو الساعين إلى تكريسها أن يقوموا بمراجعة كل ما يحيط بالتجارة الدولية وسياسات الاستثمار وقواعده وذلك بغرض ضمان اتساقها مع المعاهدات الموجودة والتشريعات والسياسات الموضوعة لحماية وتعزيز جميع حقوق الإنسان. تلك المراجعة ينبغي أن تتناول موضوع له الأولوية القصوى وهو أثر سياسات منظمة التجارة العالمية على معظم القطاعات المستضعفة في المجتمع داخل منطقتنا، وأيضًا على البيئة.
إن عالم التجارة والمال والاستثمار لا شك معفي من الواجبات المتعلقة بحقوق الإنسان. وينبغي على المنظمات الدولية التي تتحمل المسئوليات ذات الصلة أن تكون أكثر تحضرًا وتقدمًا وتقوم بدور بنّاء في هذا الصدد، أي حماية وإعمال حقوق الإنسان. فبمقتضى الالتزام التعاقدي تكون الدول والحكومات المشاركة في منظمة التجارة العالمية ملتزمة بضمان الانسجام بين حقوق الإنسان والسياسات الاقتصادية الداخلية والخارجية، وكذلك المحافظة على الشرعية الداخلية والخارجية لها. وهذه المعايير الملزمة للدولة قد نجمت عن تجربة عملية- إن لم تكن أيضًا مأساوية- لطريقة المحاولة والخطأ من قبل الحكومات وهو أمر لم يعد هناك حاجة إلى تكراره.
إننا كمنظمات مجتمع مدني وفيما نقوم به من رصد اتساق دولنا وحكوماتنا مع التزاماتها بمعاهدات حقوق الإنسان، رأينا إلى أي مدى تؤثر السياسات والممارسات الاقتصادية الدولية في قدرة الدول على الوفاء بالتزاماتها المتضمنة في تلك المعاهدات. ومن ثم فإننا نؤكد على حاجة حكوماتنا إلى "ضمان أن تكون مبادئ حقوق الإنسان والالتزامات المرتبطة بها مدمجة بشكل كلي في التفاوضات المستقبلية في منظمة التجارة العالمية." ومن ثم فإننا ندعو كل دولة من دولنا أن تجري دراسة كاملة لحقوق الإنسان والآثار الاجتماعية لبرامج التحرير الاقتصادي، والسياسات والقوانين."
إننا واعين جد الوعي بأن منظمة التجارة العالمية تشكل جزءًا من إصلاح الحكم العالمي. وأن هذا الشكل سيخفق إذا كانت الاعتبارات الخاصة بالمصالح الفردية والمصالح الخاصة بالاقتصاديات الكبرى هي الدافع والمحرك الأوحد له. ولابد لمعايير حقوق الإنسان أن تشكل العملية الخاصة بصياغة السياسة الاقتصادية الدولية بحيث يمكن تقاسم المنافع الخاصة بالتنمية البشرية لنظام التجارة العالمي المتطور وبشكل متساو بين الجميع، خاصة بالنسبة لأكثر المواطنين استضعافًا.
وبالتالي فإنه ينبغي على حكوماتنا أن تقوم بقياس وتقييم مدى تماسك واتساق سياساتها التجارية على الصعيد العالمي والإقليمي والثنائي. ينبغي عليهم الوقوف بحزم في سبيل الحصول على اتفاقات تجارية متنوعة في خدمة تعميق وتقوية التجارة بين الدول العربية. ولذلك نراهم في حاجة إلى التأكيد على العوامل التي تحسن من قدراتهم على تقديم الدعم وتطوير البنية التحتية في الصناعات ذات القيمة المتزايدة والتنويع في الاقتصاديات والمنتجات، والتي ستفتح مساحة أكبر لتحقيق التكامل والمصالح العامة على المستوى الإقليمي.
وفي هذا الصدد فإن أي تحرير للتجارة إقليمي أو ثنائي يقوم على تقدير ضعيف للمصالح والمثالب إنما يعرض هذه المقومات إلى مخاطر كبيرة. ومن هنا فإن الحكومات الإقليمية في حاجة للعمل على تحقيق الانسجام بين سياسات التكامل التجاري لديها في ظل المنطقة العريية الكبرى للتجارة الحرة Greater Arab Free Trade Area (GAFTA)، وذلك قبل المضي قدمًا في التوقيع على اتفاقيات تجارة مع كتل ودول أخرى، وينبغي عليهم في هذا الصدد أن يرفضوا التوقيع على اتفاقات التجارة الحرة مع الاتفاقية حول الجوانب المتعلقة بالتجارة من حقوق الملكية الفكرية بالإضافة إلى منظمة التجارة الحرة الإضافية وشروطها التي تحد من المرونة التي يتمتعون بها.
إننا نؤكد مجددًا على أن تحرير التجارة لابد أن يفهم كوسيلة لحسن العيش الإنساني وليس كهدف في حد ذاته. ولقد أعلن مؤتمر فيينا العالمي لحقوق الإنسان 1993 أن تعزيز وحماية حقوق الإنسان إنما يشكل المسئولية الأولى للحكومات. ويظل هذا التأكيد فعال إلى يومنا هذا، كما هو الحال مع ضرورة التزام الدول بذلك قبل أية اعتبارات خاصة أخرى.