غزة ليست قبيلة تعيش قبل ستة عشر قرناً ويقول ابنها أنا من غزة، ان غزت غزوت.. إنها جزء عضوي وحيوي من نسيج أمة، ومن صلب قضية وشعب لا تنفع معه خصخصة الدم، أو الجغرفة السياسية والأيديولوجية التي تقسّم العرب أعراباً وليس عربين فقط. وغزة لا تقبل التصغير إلى “غزيّة” كيف يمكن لعاقل أن يصدق بأن العرب بأسرهم عاجزون عن اقتراح صيغة كي لا نقول اجتراح معجزة لحل هذا اللغز الفلسطيني؟
لقد قيل للفلسطيني سواء كان في نابلس أو غزة اذهب أنت وربك وقاتلا، ثم تقاعد ربع مليار عربي عن الحياة وليس عن القتال فقط. نشعر بخجل من النفس ومن الآخر ونحن نتابع هذا المسلسل الدرامي الحي بالبث المباشر، حجاج يعودون في توابيت بيض وأطفال يموتون على العتبات وعند المعابر وقتل لا يتوقف، لا ينفع معه تفسير آخر غير ما نسب إلى النازية التي عرفت الإبادة بأنها خير طريق إلى السلام.
إن إدخال الموت على هذه الصورة إلى المألوف اليومي هو أول السطر في كتاب الرماد، والأنكى من القتل والتشريد والحصار من الجهات الخمس هو بث ثقافة سياسية جديدة خلاصتها أن من يقع تحت سنابك الخيل أو جنازير الدبابات عليه أن يلقى مصيره وحيداً، فما من استغاثة تصل وما من يد تمتد إلى الغرقى في بحر من دمائهم. ويبدو أن المعادل القومي في هذه المرحلة السوداء من تاريخنا هو فك الارتباط بين أصحاب المصير الواحد مقابل فض الاشتباك مع أعداء تاريخيين تمدد مفهوم الاستيطان لديهم بحيث أصبح يشمل المفاهيم والرؤى والوجدان.
ما يجري في غزة يخصنا جميعاً، وليس شأناً فلسطينياً خالصاً كما يقول الذين نفضوا أكتافهم من غبار الدمار وغسلوا أيديهم من دم ذوي القربى، لهذا لا سبيل للفرار، وحكايتنا المزمنة مع الثور الأبيض سوف تبقى، ما دام التخلي قد تحول إلى قاعدة لا يشذ عنها إلا من قرروا أن الدفاع عن حقهم في الحياة يستأهل الموت.
غزة الآن غارقة في الدم والظلام، وثمة دخان يحجب الآفاق كلها، فلا يلوح في المدى المحتل غير تلك البومة الهيجلية التي لا تظهر إلا في لحظات الغسق.
نعرف أن مواصلة العزف على هذا الوتر تصيب الأصابع بالإعياء، فلا حياة لمن تنادي تلك التي تعيش في أقصى وحشة وصقيع وعتمة، حيث يعاقب مليون ونصف المليون من الفلسطينيين على جرائم لم يقترفوها، بل اقتُرفت ضدهم منذ صدّقوا أن الاخطبوط الأبيض يريد منهم ديمقراطية حقة، وليس ديمقراطية مفصلة على قياس الاحتلال، وتلائم الفقه الاستيطاني الذي يتحالف فيه الجنرال والحاخام والليل والبرد والاحتلال.
ولا بد لأمة ما أن تكون قصيرة النظر، كي تقبل بالنجاة المؤقتة حتى لو كانت على خازوق، لأن السلام الناقص هو حرب ضروس لكن في زمن الحفلات التنكرية حيث أصبح كل شيء يعني عكس محتواه.
ظلام غزة قابل للتمدد ليشمل هذه التضاريس كلها، لأن من أطفأوا الكهرباء في مستشفياتها ومساجدها ومدارسها وغرف أطفالها قد يطفئون القمر والنجوم في سماوات العرب كلها إذا استطالت يد اللص، وهي حتماً سوف تستطيل إذا استمر هذا الصمت متحالفاً بدوره مع الموت والظلام. - الخليج 23/1/2008 -