لا حرية بدون ديمقراطية ولا ديمقراطية بدون حرية الموقع الأصلي:
تعتبر حرية الرأي والتعبير بحسب بعض المفكرين روح الديمقراطية، وترتبط الحرية بالديمقراطية من خلال علاقة لا انفصام فيها، ولا أحد ينكر بأنها مؤشر مهم للمستوى الحضاري للشعوب وتطورها وسعيها لحياة أفضل. لقد شكّلت حرية الرأي والتعبير مصدراً مهماً للتحولات التاريخية وتحقيق منجزات بشرية قادت إلى وجود أنظمة سياسية قادرة على الانخراط في عملية تحديث مستمرة لأدواتها، بهدف تعزيز اندماج الفئات المجتمعية المختلفة في إطار كيان سياسي ثقافي قابل للتعددية والاختلاف وقبول الآخر، لا ينكر على أفراده حرياتهم وحقوقهم. كما شكّلت حرية الرأي والتعبير مصدراً مهماً لبلورة مفاهيم حديثة مثل المواطنة وتحديد علاقة الدولة وحدود مسؤوليتها تجاه المواطن وواجبات الأخير تجاه الدولة، مما يعزّز جوّاً من التناغم بين الفئات المجتمعية المُحتكمة لسيادة القانون الذي يفضي بدوره إلى إرساء قواعد الأمن والسلم المجتمعي دون الحاجة إلى استخدام أدوات القمع في ضبط سلوكيات أفراده. إنّ تنمية المجتمع وتحقيق اندماج أفراده في عملية التحديث بشكلٍ تشاركيّ، لا يمكن لها أن تحدث إلا بانخراط أصحاب الرأي والفاعلين والناشطين في عمل جماعي يؤدي إلى خلق توعية جمعية تبرز حجم التحديات ومسؤوليات الحاضر والمستقبل. فحرية الرأي والتعبير تشكل الأداة لكل الأفراد والطبقات والفئات المجتمعية لوعي واقعهم المٌعاش والتعبير عن همومهم واحتياجاتهم وتطلعاتهم، وصولاً إلى إبداع الطرق في التحرر وتحقيق الاستقلال الحقيقي الذي يعبر عن طموح المواطن في بناء علاقة طبيعية مع نظامه السياسي ومجتمعه ومكوناته. لقد كفل القانون الأساسي الفلسطيني لجميع المواطنين والمواطنات دون تمييز، وفي نص صريح الحق في حرية التجمع السلمي والرأي والتعبير وضمن عدم التعدّي على الحريات وممارساتها، إذ يعتبر التضييق عليها بمثابة خروج السلطة التنفيذية عن التزاماتها وأهمها تكريس واجب احترام وحماية حقوق الإنسان. كما تضمنت العديد من الاتفاقيات الدولية وأبرزها العهد الدولي للحقوق المدنية والسياسية في المادة 19، والذي يعتبر الإطار الدولي الأساسي لاحترام حرية الرأي والتعبير. إنّ لكل إنسان حق في اعتناق آراء دون مضايقة ولكل إنسان الحق في التعبير، ويشمل هذا الحق حريته في التماس مختلف ضروب المعلومات والأفكار ونقلها للآخرين دونما اعتبار للحدود، سواء على شكل مكتوب أو مطبوع أو في قالب فني أو عن طريق أي وسيلة أخرى، واعتبار هذا الحق مسؤولية لا يجوز إخضاعها للقيد أو التضييق عليها إلا بما يتعرض لسمعة الآخرين أو تهديد للأمن القومي. فالإنجاز الحضاري للبشرية في العصر الحالي يتجلى في اعتراف كل الجهات الدولية بمنظومة الحقوق والحريات الإنسانية الحالية ومنها حرية الرأي والتعبير، والتي كلفت البشرية ثمناً باهظاً من الأرواح والثورات على كل أشكال الظلم والعبودية، ومنها نضال الشعب الفلسطيني ضد الاحتلال الإسرائيلي طيلة العقود الماضية لنيل حريته وانتزاع حقه في تقرير المصير وبناء دولته، والتي شكّلت الفكرة الجوهرية التي قام عليها نضال شعبي فلسطيني لاسترداد كرامته وأرضه حتى يومنا هذا، إذ لهذا الشعب لا عزاء إلا باسترداد حريته وحقوقه. ويعيش اليوم الشعب الفلسطيني استمراراً للانتهاكات بحق الرأي والتعبير داخلياً وبوتيرة متفاوتة، وخاصة في ظل تعطل العملية الديمقراطية وانسداد الأفق السياسي، وعلى الرغم من تعهد جميع السلطات التنفيذية باحترام حرية الرأي والتعبير إلاّ أنّ هناك استمراراً في الانتهاكات، ومنذ تسلم الحكومة الفلسطينية الأخيرة في العام 2019 لمهامها، تعهد رئيس الوزراء الفلسطيني الدكتور محمد اشتية بالتزام حكومته احترام حرية الرأي والتعبير وعدم المساس بها أو التضييق عليها، وفي ظل استمرار إعلان حالة الطوارئ منذ الخامس من شهر آذار لمواجهة خطر فايروس كورونا ومنع تفشيه، نشهد تزايداً في وتيرة الانتهاكات الصريحة التي تمس بحرية الرأي والتعبير والتجمع السلمي وكان آخرها احتجاز عدد ٍمن الناشطين ضد الفساد، ومن جانب آخر نشهد في الآونة الأخيرة هجوماً على ناشطين مجتمعيين عبّروا عن مساندتهم واستمرار ضغطهم لسن قوانين حديثة لحماية حقوق الأسرة. إن مثل هذه الأحداث تدق ناقوس الخطر لدى مكونات المجتمع المدني الفلسطيني من أحزاب ومؤسسات وناشطين ومدافعين عن حقوق الإنسان، الأمر الذي يتطلب تكافل الجهود في المطالبة والتأكيد على أهمية حماية الحقوق والحريات، كما ويتطلب اليقظة الدائمة لحماية هذه المنظومة من الحقوق والحريات- والتي تعتبر انجازاً فلسطينياً وجب الدفاع عنه- يقظة دائمة من قبل المجتمع المدني، بغية الحدّ من هيمنة الدولة والسلطة الاجتماعية على ممارسة المواطنين لحرياتهم في التعبير وإبداء الرأي، وخاصة في ظل هذه المرحلة الحرجة التي تتطلب عملاً تشاركياُ فاعلاُ ومستمراُ وصولاً لإرساء قواعد ديمقراطية ومساحات مدنية تضمن ممارسة حرية الرأي والتعبير دون خوف أو قيود.
http://www.miftah.org |