زكريا عودة، منسق الائتلاف الأهلي لحقوق الفلسطينيين في القدس
بقلم: مفتاح
2020/9/19

الموقع الأصلي:
http://www.miftah.org/display.cfm?DocId=15453

ما نقدمه كمؤسسات قانونية وحقوقية لا يتعدى شراء وقت من محاكم الاحتلال

126 منشأة بينها 83 منزلاً تم هدمها منذ مطلع العام الحالي

قال منسق الائتلاف الأهلي لحقوق الفلسطينيين في القدس المحتلة زكريا عودة في مقابلة أجرتها معه المبادرة الفلسطينية لتعميق الحوار العالمي والديمقراطية "مفتاح" أن سياسات الاحتلال تجاه حقوق المقدسيين الاجتماعية والصحية والاقتصادية، خاصة في موضوع السكن شهدت تصعيداً خطيراً خلال الفترة الماضية، في إشارة إلى الارتفاع الكبير في أعداد المنازل التي تم هدمها سواء عن طريق طواقم بلدية الاحتلال أو عن طريق الهدم الذاتي تحت التهديد.

وأشار عودة إلى أن كل ما تقدمه المؤسسات القانونية والحقوقي في القدس لا يتعدى شراء وقت في محاكم الاحتلال بتأجيل الهدم والمصادرة والإخلاء، خاصة أن الهدم الذاتي يقع تحت طائلة الغرامة المالية العالية التي تصل إلى 90 ألف شيكل في حال هدمت بلدية الاحتلال العقار.

نص الحوار ضمن زاوية "في ضيافة مفتاح" مع الأستاذ زكريا عودة:

** بماذا تفسرون التصعيد الأخير بسياسة هدم منازل المقدسيين، خاصة ما تعلّق منها بالهدم الذاتي؟ وفي أي سياق يأتي هذا التصعيد؟

*** الحديث عن هذه السياسة، خاصة حق المقدسيين بالسكن مرتبط بأمور أخرى، ومن المهم جداً الإشارة إليها كون عمليات الهدم التي شهدنا ارتفاعاً في وتيرتها مؤخراً مرتبطة بسياسة التخطيط الحضري أو المدني الذي تتبناه وتنفذه سلطات الاحتلال في القدس المحتلة. وهنا نشير إلى أنه بعد احتلال مدينة القدس اتخذت الحكومة الإسرائيلية قرارات هدفت إلى ضم المدينة كلياً، وأحد هذه القرارات هو توسيع حدود ما تسمى ببلدية القدس من 5.5 كم2 إبان العهد الأردني إلى 71 كم2 من خلال ضمّ أراض من القرى المحيطة بمدينة القدس، وقد ترسّم ذلك كله بقانون في الكنيست الإسرائيلي صدر عام 1980، والذي تم بموجبه الاعلان عن أنَ القدس "المدينة الموحدة" هي عاصمة إسرائيل، ما شكّل بالنسبة للاحتلال "أرضية قانونية" لعملية الضم تلك. وقد ارتبط بهذا الأمر سياسة مصادرة الأراضي، حيث بات الاحتلال يسيطر على 88% من أراضي الجزء الشرقي من القدس، وترك للفلسطينيين 12% من الأراضي لاستخدامات البناء سواء للسكن أو البناء التجاري، ما أثر بشكل كبير على عملية الحق في السكن، وإمكانية البناء والحصول على تراخيص، علماً بأن عملية المصادرة للأراضي تمت لصالح المستوطنات حيث يوجد الآن خمس عشرة مستوطنة أقيمت داخل ما يسمى حدود بلدية القدس، يقطنها حوالي 215 ألف مستوطن يشكلون ثلث عدد المستوطنين في الضفة الغربية. بالإضافة إلى ذلك، فإن سياسة التخطيط الحضري، اعتمدت على ثلاثة مخططات هي: المخطط ع م 30، والمخطط الإقليمي، ثم المخطط التفصيلي 2020 الذي انبثق عن المخطط الإقليمي، والذي أصبح لاحقاً مخطط 2030، ثم مخطط 2050. والواضح من هذه المخططات جميعها أن الهدف الدائم من سياسة التخطيط هذه هو زيادة السيطرة على الأراضي، ومضاعفة أعداد المستوطنات والمستوطنين في الجزء الشرقي من القدس في مقابل تقليل أعداد السكان المقدسيين، حيث لم تأخذ تلك المخططات بعين الاعتبار وجود الشعب الفلسطيني في القدس، وهو ما يظهر على ظروف البنية التحتية وأوضاع الطرقات في القدس وأحيائها التي ظلت تعاني من الإهمال وعدم السماح بالتطوير.

** كيف أثّر هذا الواقع على حق السكن للمقدسيين.. وما أبرز التحديات والمعيقات على هذا الصعيد؟

*** كان لذلك الواقع تأثير كبير على عملية السكن والحصول على تراخيص بناء، خاصة أن الاحتلال فرض قيوداً مشددة على رخص للبناء للمقدسيين، إلى درجة بات الحصول فيها على رخصة بناء يستغرق فترة زمنية تمتد احيانا من خمس إلى عشر سنوات، بالإضافة إلى تكاليف الحصول على رخصة، حيث دلت الدراسات على أن رسوم الحصول على رخصة بناء شقة سكنية بمساحة 100 متر مربع يصل في معدلاته إلى نحو 40 ألف دولار، وللمرء أن يتخيل حجم هذه التكاليف على من يتقدم بطلب للحصول على رخصة بناء، في وقت تعتبر فيه 78% من العائلات المقدسية تحت خط الفقر، وفق إحصائيات قامت بها مؤسسات إسرائيلية. ولا يقتصر الأمر على ما ذكر سابقاً، بل أن هناك مشكلة أخرى تتمثل في طلب بلدية الاحتلال من مقدم طلب الحصول على رخصة إحضار إثبات طابو أو إخراج قيد بملكية الأرض التي سيشيد عليها منزله، علماً بأن الطابو يشكل مشكلة تاريخية كبيرة للمقدسيين أيام الإمبراطورية العثمانية، ومن بعدها الاحتلال البريطاني، وكذلك الحال في العهد الأردني وصولاً إلى الاحتلال حيث لم يكن يمنح على مدى السنوات الماضية أية تسهيل لعملية تسجيل الأراضي باسم السكان، لأن تلك الأراضي كانت مسجلة كملكية جماعية، ومنذ العام 67 وعلى مدى 53 عاماً من الاحتلال لم يسمح الإسرائيليون بفتح باب تسجيل الأراضي في القدس، ما أدى إلى صعوبة الحصول على تراخيص، أضف الى ذلك تطبيق ما يسمى قانون املاك الغائبين، وبالتالي لم يكن هناك خيار آخر أمام المواطنين الذين تضاعفت أعداد عائلاتهم، ووجدوا أنفسهم مضطرين للبناء دون ترخيص، ما عرّضهم حسب القانون الإسرائيلي لمخاطر هدم منازلهم، ولذلك حين نتحدث عن الإحصائيات والمعطيات بشأن المنازل المهددة بالهدم في القدس لعدم حصول أصحابها على تراخيص يصل إلى 22 ألف منزل، أي أن ثلث سكان القدس يقطنون في منازل غير مرخصة، وبالتالي جميعها معرّضة للهدم.

** هل من معطيات وإحصائيات دقيقة عن عملية الهدم وتسارعها خلال السنوات الثلاث الماضية خاصة ما تعلق منها بالهدم الذاتي؟

*** من المهم، أن نذكر على هذا الصعيد، التصعيد الإسرائيلي الكبير على سياسة هدم منازل المقدسيين خلال السنوات الثلاث الماضية، وتحديداً في العام الحالي والعام الذي سبقه. فحسب ما توفر لدينا من إحصائيات سجل منذ مطلع العام الحالي وحتى العشرين من شهر آب من هذا العام هدم ما مجموعه 121 منشأة، منها 80 منزلاً، ومن بينها 57 منزلاً هدمت ذاتياً على أيدي أصحابها. وللأسف أصبح الهدم الذاتي ظاهرة كبيرة حيث تجبر العائلات على هدم بيوتها بأيديها، لأنها إن لم تفعل ذلك، وحسب قوانين الاحتلال يتم تدفيع صاحب المنزل تكاليف الهدم، والتي تشمل تكاليف الجرافات التي تتولى الهدم، ونفقات أفراد الشرطة والجيش الذين يوفرون الحماية لطواقم الهدم ويضربون حصاراً وطوقاً على موقع الهدم، والتي تصل ما بين 80 – 90 ألف شيكل، ولذا يختار المواطن هدم منزله بيديه، لأنه سيكلفه مبلغاً أقل بكثير قد لا يتجاوز الثلاثة آلاف شيكل.

وتشير المعطيات التي لدينا، إلى أن العام 2019 سجل العدد الأكبر من هدم المنازل، بينها عدد كبير هدم ذاتياً. حيث تم هدم ما مجموعه 238 منشأة، من بينها 189 منزلاً، ومن بين هذه المنازل كان هناك 58 منزلا هدمت ذاتياً من قبل أصحابها، وبالتالي شكّل الهدم الذاتي ما نسبته 50% أو أكثر من مجمل عمليات الهدم. أما في العام الحالي، فقد وصل عدد المنازل التي هدمت حتى نهاية آب 2020 ما مجموعه 120 منزلاً، أي أنه لا زال ينتظرها شهور أربعة قد تشهد مزيداً من عمليات الهدم الذاتي والتي باتت شبه يومية.

وهنا، لا بد أن نذكر أنه منذ العام 2004 ولغاية العام 2019 المنصرم تم هدم حوالي ألف منزل، وتهجير 3167 شخصاً، من بينهم 1704 أطفال، وبالتالي، فإن الأطفال والنساء هم ضحايا سياسة الهدم ، وضحايا سياسة التهجير وما تتركه من تأثير نفسي سيء على أصحاب المنزل، وهنا أذكر مثالاً على هذا التأثير ما حدث قبل أكثر من أسبوع يتعلق بعائلة أبو صبيح من سلوان والذي اضطر إلى هدم منزله بيديه كيف أن طفله خاطبه بقوله:" أنت الذي هدمت المنزل وليس اليهود". لقد شاهد هذا الطفل والده وعمه وهما يهدمان شقتيهما حتى لا يتكبدا رسوم الهدم. وبرأيي ما جرى ويجري من تطبيق لهذه السياسة إنما هو جزء من سياسة التهجير – الترانسفير الصامت، وهي استراتيجية الكيان الإسرائيلي منذ عام 48، طبقت آنذاك على شعبنا هناك، وتطبق اليوم في القدس والضفة الغربية، وتستهدف في محصلتها تغيير التركيبة السكانية والجغرافية لفلسطين بشكل كامل، ولمدينة القدس بشكل خاص، وإيجاد أغلبية يهودية مقابل أقلية عربية فلسطينية.

** كيف يخدم الهدم الذاتي الاحتلال ويجمّل صورته، وهل يعفيه هذا من مسؤوليته القانونية كمحتل؟

*** في الواقع، له أكثر من أثر نفسي واجتماعي على العائلة خاصة على النساء والأطفال، وعلى جميع سكان الحي المتضرر بشكل عام. فالهدم الذاتي يوفر جهداً على الاحتلال الذي عادة ما يتولى عمليات الهدم، لكن الأبعد من هذا هو أنه يعطي صورة وانطباعاً بأن من يهدم بيته وكأنه ارتكب خطأ، لأنه شيد بيته دون ترخيص، وبالتالي قام بالهدم، وعليه فهذا يخدم الاحتلال فيما لو أنه هو الذي تولى عملية الهدم، كما يعطي انطباعاً بأن هذا الاحتلال لم يقم بعملية الهدم. لكن هذا في القانون الدولي لا ينفي المسؤولية القانونية الدولية على الاحتلال، لأنه لم يعط ترخيصاً للبناء، ولا يسمح للناس بالبناء، بينما يدفعّهم تكاليف الهدم.

** ما مدى ارتباط سياسة الهدم سواء ما كان ذاتياً، أو منفّذاً من قبل الاحتلال بمخططات أخرى كالضم، والاستيطان، ونهب الأراضي؟

*** في رأيي، أن هدم المنازل وعدم منح تراخيص بناء لأصحابها، والقيود المفروضة على منح التراخيص، وصولاً إلى عمليات التهجير، إنما هي حلقة في سلسلة من الحلقات الهادفة لتنفيذ الترانسفير. فمصادرة الأراضي وبناء المستوطنات، هي إحدى الأهداف التي يعمل عليها الاحتلال دون توقف. وأهداف سياسة التخطيط العنصري هذه هدفها خدمة اليهودي الإسرائيلي وليس الفلسطيني، وهي لا تعكس احتياجات المقدسيين ولا تاخذها بعين الاعتبار. كما أن هناك سياسة سحب الإقامات من المقدسيين، وإغلاق مدينة القدس، وتقييد حرية الحركة. وبعد قرار وزارة الداخلية الإسرائيلية في العام 2002 بخصوص طلبات جمع شمل العائلات، تم تجميد النظر في الطلبات المقدمة إليها، وهذا يندرج في إطار التوجهات الاستراتيجية للاحتلال. وهناك إحصائية تتحدث عن حوالي 8000 طفل مقدسي لا يتمتعون بأي وضع قانوني أو صفة قانونية، ما يحرم هؤلاء من حقوقهم الاجتماعية والاقتصادية والصحية، وبالتالي إذا هم لا يملكون إقامة وغير مسجلين في سجل النفوس في وزارة داخلية الاحتلال، فهم غير موجودين في نظر الاحتلال، وعليك أن تتخيل انعكاسات هذا الواقع الاجتماعية والاقتصادية والنفسية على ضحايا هذه السياسة. يضاف إلى ذلك سياسة سحب بطاقات الهوية الزرقاء من المقدسيين وتجريدهم من حقهم في الإقامة بمدينتهم. فمنذ العام 1967 ولغاية اليوم تمّ سحب إقامة حوالي 14650 من أًصحابها، وهي سياسة مستمرة وممنهجة. كما علينا أن لا ننسى أيضاً استهداف التعليم الفلسطيني في القدس، حيث أن هناك سياسة ممنهجة لاستهدافه منذ الأيام الأولى للاحتلال، وهناك تصعيد ومحاولة سيطرة على العملية التعليمية برمتها، وقد ازدادت حدة في العام 2011، يوم ان بدأوا بتحريف المناهج الفلسطينية ومحاربتها، ثم ساروا في العام 2015 خطوة متقدمة بتطبيقهم المنهاج الإسرائيلي المطبق في الداخل الفلسطيني عام 48، إدراكاً منهم بأن استهداف التعليم ومحاولة الاستحواذ عليه كأحد اهم الآليات لتعزيز الوطنية الفلسطينية، وبالتالي لم تتوقف محاولتهم للسيطرة على النظام التعليمي وتغيير المنهاج الفلسطيني وأسرلته في خطوة يمكن أن نصفها بأنها احتلال للعقل والتفكير لدى الإنسان الفلسطيني المقدسي. كذلك نشهد أيضاً استهدافاً لوجود المؤسسات الفلسطينية في القدس، حيث تم منذ العام 2000 ولغاية اليوم إغلاق 47 مؤسسة مقدسية بشكل كامل، بالإضافة إلى منع العشرات بل المئات من الأنشطة، بما في ذلك الأنشطة الثقافية والفنية، كان آخرها في شهر آب المنصرم من هذا العام حيث تم اقتحام مؤسستين ثقافيتين فنيتين هما مركز يبوس الثقافي، ومعهد إدوارد سعيد للموسيقى ومصادرة ما فيهما من أجهزة وملفات، فبالتالي هي سياسة تكمل بعضها، وتستهدف القدس والوجود الفلسطيني فيها.

** في حال رفضت طلبات الترخيص المقدمة من قبل المواطنين لدى بلدية الاحتلال، ما هي الإجراءات التي تتبعها سلطات الاحتلال بحقهم؟ وما مصير العائلات التي تفقد منازلها؟

*** كثير من الطلبات، في حالة البناء بدون ترخيص، يستغرق النظر فيها سنوات طويلة ثم ترفض ويتخلل ذلك فرض مخالفات مالية باهظة جدا بحق أصحابها. وحسب الاحصائيات المتوافرة لدينا، فإن معدل الرخص التي يتم إصدارها للمقدسيين في الجزء الشرقي من المدينة هو 100 رخصة سنوياً فقط بالرغم من الكثافة السكانية العالية لدى المقدسيين، وتضاعف أعدادهم طيلة سنوات الاحتلال. فبعد أن كان عدد السكان في القدس عشية احتلالها 67 ألف نسمة، هم اليوم أكثر من 375 ألفاً، ويشكلون ما نسبته حالياً من التعداد الإجمالي للسكان نحو 40% داخل ما يسمى بالحدود البلدية للمدينة. والشيء الوحيد الذي يقدم لهم هو الهدم وتشريد العائلات وحرمانها من الحق في السكن، بالإضافة إلى غياب الدعم المفترض أن يقدم لهذه العائلات من قبل الجهات الرسمية الفلسطينية، رغم الضائقة الشديدة التي تعانيها العائلات المتضررة جراء هذا الفقدان لمساكنها، وتردي أوضاعها الاقتصادية بعد أن كانت استنفدت كل مداخيلها لاستصدار رخصة بناء. أما من يهدمون منازلهم ذاتياً، وفي ظل غياب الدعم المقدم لهم، فقد بدأوا مؤخرا بتوجه جديد يقوم على رفض تنفيذ الهدم بأيديهم باعتبار هذه السياسة جريمة يقترفها الاحتلال وعليه تحمل مسؤولياته إزاءها، بالرغم من الضغوط الاقتصادية الشديدة التي تنشأ من قيام الاحتلال هو بتنفيذ عمليات الهدم، والتي تكبّد أصحاب المنازل رسوماً تتراوح ما بين 80 – 90 ألف شيكل. وبالرغم من بعض المبادرات والجهود الرسمية و السلطة الوطنيه الفلسطينية سواء وزارة القدس ومحافظة القدس، ومسؤول ملف القدس، إلا أن هذه الجهود غير كافية لدعم المتضررين، وبالتالي يمكن القول بأن هناك تقصيراً واضحاً من قبل الجهات الرسمية في دعم القدس وصمود أهلها إلى درجة بتّ تستشعر فيها بأن الحفاظ على القدس أصبح مجرد شعار لا ينعكس بشكل عملي على استراتيجيات وخطط وموارد تدعم المواطنين ووجودهم في مدينتهم.

** كيف ترى دور مؤسسات ومنظمات حقوق الإنسان المحلية والدولية؟ وما الدور الذي يمكن أن تقوم به على صعيد المساعدة القانونية أو الضغط لوقف سياسة الهدم؟

*** هناك عدد من المؤسسات القانونية والحقوقية التي تقوم بمتابعة هذه الانتهاكات خاصة سياسة الهدم وما ينفذ من مخططات، والقيام بتوعية المواطنين حول إجراءات الاحتلال، وتقديم الدعم القانوني للمتضررين، لكن المشكلة في كل العملية، حيث يتم الدعم القانوني ضمن السقف الإسرائيلي. فالمحكمة إسرائيلية، والقوانين إسرائيلية، وكذلك القاضي والمدعي العام الإسرائيلي. وجدير الإشارة هنا إلى أنه جرى نقاش قديم بخصوص التوجه إلى هذه المحاكم في الأيام الأولى للاحتلال، وما إذا كان هذا التوجه صحيحاً ومفيداً وبشكل خاص إلى المحكمة العليا الإسرائيلية، مع إدراكنا بان ما يمكن أن نقدمه كمؤسسات قانونية وحقوقية لا يتعدى مجرد شراء وقت من محاكم الاحتلال بتاجيل الهدم والمصادرة، وتأجيل الإخلاء، فبدلا من هدم البيت في غضون سنة أو سنتين نؤجله إلى خمس أو عشر سنوات، ومثال ذلك قضية الشيخ جراح التي لا تزال في المحاكم منذ أربعين عاماً رغم إخلاء ثلاث عشرة عائلة، وكذلك الحال في قضية البستان حيث استطاع الدعم القانوني المحافظة على وجود المواطنين في منازلهم هناك، وبالتالي هناك خدمات قانونية، وهناك إنجازات قليلة جداً، لأن النظام القضائي والقانوني الإسرائيلي هو نظام غير موضوعي وموجّه سياسياً، وله أهداف سياسية لتحقيق غايات سياسية.

أما الأمر الآخر الذي تقوم به هذه المؤسسات والمنظمات، فهو المناصرة والضغط، حيث تعمل بشكل كبير مع المرجعيات الدولية، ومع هيئة الأمم المتحدة، ومؤسسات حقوق الإنسان، ونقدم لها التقارير ونشارك في المؤتمرات بتقارير عن سياسة الهدم، كما نعمل مع الاتحاد الأوروبي وحكومات الدول المختلفة، والبعثات الدبلوماسية الدولية والمؤسسات الدولية في فلسطين وفي مدينة القدس، وبالتالي عملية الضغط القانوني الدولي مهم جداً، لأن مشكلتنا في النهاية سياسية، وحلها سياسي، وهو إنهاء الاحتلال. ولكن بالرغم من كل ما يحدث، فإن المجتمع الدولي سواء دول الاتحاد الأوروبي، أو باقي دول العالم لم تتحمل مسؤوليتها بالشكل اللازم والمطلوب، وهناك تقصير من المجتمع الدولي نتيجة للضغط الإسرائيلي وسياسات الاحتلال.

** كيف أثّر قانون القومية العنصري على الزيادة المضطردة في أعداد المنازل المهددة بالهدم، وكذلك قرار الإدارة الأميركية، فيما يتعلق بالاعتراف بالقدس عاصمة لإسرائيل؟

*** سواء قرار القومية، أو سياسة الإدارة الأميركية الحالية منذ العام 2017، تركا تأثيراً واضحاً على هذا الصعيد. فقانون القومية في بند أهدافه يؤكد على أن القدس موحدة بأغلبية يهودية هي عاصمة الكيان الإسرائيلي، وهي عاصمة الدولة اليهودية، وبالتالي هو قانون أكد على سياسة الضمّ والسيطرة الإسرائيليتين، كما أعطى الحق واعترف بحق تقرير المصير للشعب اليهودي، ولم يعترف ولم يقر، ولن يعترف بحق الشعب الفلسطيني بتقرير مصيره. كما اعتبر الاستيطان قيمة أخلاقية، وجميع هذه البنود عززت من سياسة الاحتلال في السيطرة والضم وفي البناء الاستيطاني ارتباطا بعمليات الهدم، بالإضافة إلى سياسة إدارة ترامب، حيث اعترفت الإدارة الأميركية بأن القدس موحدة هي عاصمة إسرائيل، واتخذت قراراً بنقل السفارة الأميركية من تل أبيب إلى القدس، كما أوقفت دعمها للأونروا، ودعم مستشفيات القدس، وإغلاق قنصليتها في القدس المحتلة، والتي كانت تاريخياً تمثل اعترافاً أميركياً بأن القدس محتلة، ما أعطى الضوء الأخضر للحكومة الإسرائيلية كي تمعن في التصعيد، وزيادة هدم المنازل وبناء الوحدات الاستيطانية.

** كيف ساهم جدار الفصل العنصري في تسريع وتيرة التهجير القسري للمقدسيين، وفي احتدام الصراع الديمغرافي؟

*** منذ قيام دولة الاحتلال في العام 48 والسياسة الديمغرافية هدفها الحفاظ على أغلبية يهودية، والاستمرار في تهجير الفلسطينيين من خلال تعزيز الاستيطان وتكثيفه، وتجريد الفلسطينيين خاصة المقدسيين من حقهم في الإقامة، وتقييد حرية حركة تنقلهم. وجزء من التحديات التي تواجهها مدينة القدس ومواطنيها هي ما يسمى بالمخطط الإسرائيلي المعروف ب"القدس الكبرى" حيث يعملون عليه منذ سنوات. وتشمل المخططات الإسرائيلية بهذا الشأن توسيع حدود المدينة لتضم من الجنوب تجمع مستوطنات غوش عتصيون، ونحن نتحدث هنا عن ثلاث عشرة مستوطنة، ومن الشرق مستوطنة معاليه أدوميم ومخطط E.1، لبناء حوالي 3600 وحدة استيطانية وفنادق ومراكز تجاريه وخدمات اخرى، جاري العمل حالياً لبنائها حتى تربط معاليه أدوميم بمركز القدس، وبالتالي تفصل شمال الضفة عن جنوبها. ومن الشمال جفعات زئيف وكوخاف يعقوب. وحسب هذا المخطط وارتباطاً ببناء جدار الفصل العنصري، فقد قامت الحكومة الإسرائيلية بُعيْد التوقيع على أوسلو مباشرة بإغلاق مدينة القدس من خلال الحواجز العسكرية التي أٌقيمت على مداخل القدس كافة، ثم شرعوا في العام 2005 ببناء الجدار، حتى أصبحت القدس اليوم محاطة بهذا الجدار، وتم عزل ثلاثة تجمعات سكانية فلسطينية من الشمال كفر عقب، وسمير أميس، ومن الشرق مخيم شعفاط، عناتا، وضاحية السلام، ومن الجنوب الولجة، وبات حالياً خلف الجدار نحو 140 ألف نسمة، وهي تجمعات مهملة طيلة الوقت ولا تتمتع بأية خدمات أو ببنية تحتية، وهناك توجه لفصل تلك الاحياء عن مدينة القدس. في حين تم في العام 2018 وضع مشروع قرار للكنيست يشمل بندين الأول يتعلق بتغيير نسبة التصويت في الكنيست من أجل تغيير الوضع القائم في القدس، وحسب هذا القانون المعمول سابقا فإنها تحتاج الى نسبة 50% من اعضاء الكنيست لتستطيع تمرير أي قانون، لكنهم رفعوا النسبة حالياً إلى ثلثي عدد الأصوات من أجل أي تغيير محتمل لوضع مدينة القدس، وفي حال جرت أية مفاوضات حول القدس، يجب الحصول على ثلثيْ الأعضاء. أما البند الثاني، فهو تغيير حدود مدينة القدس التي أٌقرت عام 1980 في محاولة لتغيير هذا القانون ليصبح جدار الفصل العنصري هو حدود ما يسمى ببلدية الاحتلال في القدس، ما يعني عزل التجمعات الثلاث آنفة الذكر، وقد جرت عدة نقاشات حول الجهة التي ستدير هذه التجمعات سواء عبر مجالس محلية، أو أن تدار من قبل ما يسمى ب"الإدارة المدنية" التابعة لجيش الاحتلال، لكن المخطط يقضي بعزلها وإلغائها من حدود ما يسمى ببلدية القدس، وإذا تمت هذه العملية، فإننا سنصبح 20% من إجمالي عدد السكان في مدينة القدس بعد أن كنا 40%، وهذا هو المخطط الاستراتيجي الذي اقترحته لجة "غيفاني" للحكومة الإسرائيلية في سبعينيات القرن الماضي، حيث شكّلوا في حينه هذه الجنة وطلبوا منها وضع استراتيجية سكانية للقدس، وكانت توصياتها أن الفلسطينيين يجب أن لا يكونوا أكثر من 22% الى 24% من تعداد سكان القدس، وبالتالي هذا هو هدفهم الذي اشتغلوا عليه عشرات السنين من أجل تغييره، وهم ما يعملون عليه حاليا من خلال شبكة الأنفاق والشوارع التي تربط مركز المدينة وتجمع المستوطنات لتسهيل حركة الانتقال منها وإليها، وربطها ببلدية الاحتلال في القدس.

** على ضوء ما ذكرت من انعكاسات لسياسات الهدم خاصة على الأطفال والنساء. هل سنشهد في المرحلة القادمة زيادة في مستويات العنف الداخلي في الأسرة؟

*** بالتأكيد، هذه السياسات خاصة المتعلق منها بالسكن وهدم المنازل، يتأثر بها الأطفال والنساء أكثر من غيرهم. وحسب بعض الدراسات التي تؤكد على زيادة العنف في الأسرة، فإن زيادة الضغط على الرجال من قبل الاحتلال سيؤدي إلى زيادة العنف ضد النساء والأطفال، وقد أدى ذلك إلى ارتفاع نسب الطلاق خاصة بين الأزواج الشابة. فمشكلة السكن وعدم توفره لصعوبة الحصول على ترخيص بناء، بالإضافة إلى أجور السكن المرتفعة في القدس حالياً والتي تصل إلى ألف دولار شهريا يصعب توفيرها، يشكل عاملاً ضاغطاً اقتصادياً ونفسياً، يدفع بالازواج إلى السكن خارج جدار الفصل، وخارج الحدود البلدية المصطنعة للقدس ما يعرضهم لفقدان حقهم في الإقامة بموجب قانون ما يسمى ب"مركز الحياة"، وهناك الالاف من المقدسيين الذين فقدوا حق الإقامة لأنهم سكنوا في أحياء خارج الجدار، أو في مناطق مصنفة ضفة غربية سواء في رام الله أو بيت لحم، ما أثّر على حياتهم الاجتماعية، كما أثّر على النسيج الاجتماعي، والسلم الأهلي، وبتنا نسمع حالياً الكثير من الإشكاليات، ومن زيادة كبيرة في العنف لا يوليها الاحتلال أية أهمية، بل ربما يدفع إليها كما هو الحال في الداخل الفلسطيني عام 48، علماً بأن كثيراً من المشاكل التي تحدث هنا ذات علاقة وصلة بمشكلات الملكية والتنظيم.

** وماذا عن انعكاسات هذا الواقع على الشباب المقدسي تحديداً..؟

*** أحد المظاهر والإشكاليات الناتجة عن الأوضاع التي يعيشها المقدسيون تمسّ فئة الشباب. فقبل سنوات كان من الصعوبة على هؤلاء الحصول على قبول في الجامعة العبرية، أو الالتحاق بوظائف وأماكن عمل. لكن في السنوات الخمس الأخيرة لوحظ بعد اغتيال الطفل محمد أبو خضير، والهبّات والاحتجاجات التي شهدتها معظم الأحياء في مدينة القدس، وارتفاع وتيرة المقاومة بعد العدوان المستمر على قطاع غزة، صدمت القيادات الإسرائيلية مما يجري، وما اعتبرته خدمات قدمتها للمقدسيين على مدى سنوات الاحتلال لم تنجح في أسرلتهم، وبالتالي استهجنوا هذه الهبات التي قاد جميعها الشباب الذين عانوا من تراكمات ممارسات الاحتلال، وما ولدته من ضغط نفسي واجتماعي على الشباب تمثل في تقييد حركتهم وانعدام فرص العمل والتوظيف أمامهم، وبالتالي ارتفاع معدلات البطالة في صفوفهم، بالإضافة إلى استهداف التعليم، وانتشار المخدرات والآفات الاجتماعية الأخرى التي لا يعمل الاحتلال على لجمها. فلجأت مؤسسات الاحتلال الى استخدام استراتيجية " تحسين ظروف المعيشه" للمقدسين ورصدت الميزانيات بتلك الحجه والتي تهدف بجوهرها تعزيز الضم والسيطره على شرقي المدينة وتعزيز ما يسمى بالسيادة الاسرائيليه عليها، والعمل على دمج الشباب وربطه بالمجتمع الاسرائيلي بمختلف الوسائل والاساليب ومنها تسهيل عملية القبول في الجامعات الاسرائيليه. ومن هنا كانت إحدى التحديات الأساسية التي واجهتها مدينة القدس هو التناقض بين محاولة الشباب المقدسي الحفاظ على هويته وانتمائه لفلسطينيته، وبين طموحاته للعيش الكريم ، في وقت غاب فيه دور المرجعيات الوطنية سواء على صعيد الفصائل والأحزاب، أو على صعيد دور الجهات الرسمية الفلسطينية التي لم تحاول بشكل جدّي سدّ الفراغ من خلال توفير برامج ومشاريع، وأماكن ترفيه للشباب تعمل على تعزيز الهوية، وتوفير فرص عمل، وبالتالي بات كثيرون يتوجهون للمؤسسات الإسرائيلية، التي كثفت حضورها في معظم أحياء القدس من خلال المراكز الجماهيرية المرتبطة مع بلدية الاحتلال، والتي تعمل بموجب أجندتها، أو من خلال دوائر الشؤون الاجتماعية التي تعمل حاليا تحت مسميات التربية الخاصة ومواجهة وحل المشاكل النفسية والاجتماعية للشباب والأطفال، في مقابل تركيز الاحتلال استهدافه للمؤسسات الفلسطينية المحلية وإعاقة عملها وإغلاقها ومنع فتح مؤسسات بديلة، وهذا أخطر ما يواجهه الشعب الفلسطيني في القدس في هذه المرحلة.

http://www.miftah.org