هل كان الجدار ـ الحجاب هو حقا المشكلة؟
بقلم: د. عبدالوهاب الافندي
2004/7/13

الموقع الأصلي:
http://www.miftah.org/display.cfm?DocId=1240


يحق للعرب، في زمن عزت فيه الانتصارات، ان يحتفلوا بالانتصار الرمزي الذي مثله حكم محكمة العدل الدولية بعدم قانونية وشرعية الجدار العازل الذي اجترحته اسرائيل نكاية في اهل البلاد المغتصبة. ولكن هذا التهليل لحكم هو تحصيل حاصل ـ هل كان هناك من يشك في عدم قانونية الجدار؟ ـ هو الوجه الآخر للهزيمة العربية، وليس فقط لان هذا الحكم فارغ من اي محتوي، ويفتقد سلطة تطبقه ذلك ان مجرد جعل الجدار محور الصراع بين اسرائيل وضحاياها هو اكبر انتصار لاسرائيل.

النخبة الاسرائيلية ابتكرت منذ بدء الصراع لعبة خلق جدران عازلة تحيط وتسيج عملية النهب المسلح التي هي لب الدولة العبرية، وتشكل في نفس الوقت حجابا وستار دخان يصرف الانظار عن الجريمة الحقيقية. هكذا شهدنا حين كان قرار التقسيم هو القضية، وقبل ذلك الكتاب الابيض لبريطانيا، ولجنة كينغ ـ كرين أو لجنة برنادوت. ثم جاءت قضية تحويل مياه الاردن، ثم الاراضي المحتلة عام 1967 ثم احتلال لبنان، ثم اتفاق اوسلو، ثم احتجاز عرفات وخارطة الطريق، واخيرا الجدار العازل.

وهكذا اصبح الجدار العازل يلهي العرب عن احتلال الضفة وحصار عرفات وقبل ذلك كان حصار عرفات يشغل الناس عن التقصير في تطبيق اتفاق اوسلو الذي كان بدوره يصرف الانظار عن احتلال لبنان. وبدوره انسي احتلال لبنان العرب اراضيهم المحتلة الاخري، بينما صار الاحتلال الجديد شاغلا عن الاحتلال الاصلي، وتشريد اهل البلاد.

ويبدو واضحا ان الاستراتيجية الاسرائيلية تتمثل في خلق مشاكل وقضايا جديدة كل يوم، بحيث تتخذ من هذه القضايا المصنوعة ستارا يحميها من اثارة القضايا الحقيقية ومواجهتها، وكل الدلائل تشير الي ان هذه السياسة ناجحة، لانه اذا استمرت الامور علي وتيرتها هذه فان كل الاجيال العربية الموجودة اليوم ستكون قد انقرضت قبل ان نصل الي مجرد التطرق لمسألة احتلال الاراضي العربية، فضلا عن التطرق الي جوهر الخلاف العربي ـ الاسرائيلي، وهو اغتصاب فلسطين وتشريد اهلها.

العرب وقعوا في هذا الفخ من حيث يدرون ولا يدرون، فالبعض شريك في هذه المماطلة والانصرافية، لانه هو ايضا لا يريد للقضايا المحورية ان تطرح، ويسره ان يلعب لعبة التمطيط الي ما لا نهاية التي اتقنتها النخبة الحاكمة في الدولة العبرية. وقد اصبح من الصعب في هذه الايام التفريق بين من ينساقون الي هذه المعارك الهامشية التي تجر اسرائيل العرب اليها باستمرار بسبب الغفلة، وبين اولئك الذين يهرولون الي هذه المعارك الوهمية تواطأ. ذلك ان الفوارق توشك ان تتلاشي بين المعسكرين ونحن نري التسابق الي تقديم الخدمات للدولة العبرية حتي اصبحت مشكلة اسرائيل اليوم هي كثرة الاصدقاء العرب لا كثرة الاعداء منهم، مما اوقع قادة اسرائيل في غاية الحرج وهم يضطرون الي المفاضلة بين حليف متلهف وآخر اكثر تلهفا علي تقديم الخدمات.

مهما يكن فان النتيجة واحدة، وهي ان الجميع منهمك هذه الايام في المعارك الدون كيشوتية مع طواحين الهواء التي تبتدعها اسرائيل، مما يعني ان اسرائيل لاتخسر ابدا، لانها تجر العرب تحديدا الي المعارك التي لن تؤثر خسارتها في شيء ـ وهكذا مثلا نجد اسرائيل شغلت العرب والعالم عشرين عاما بالجدل حول ضرورة انسحابها من الاراضي اللبنانية. وفي هذه الاثناء قامت اسرائيل بنهب معظم اراضي الضفة الغربية لمستوطناتها، وضمت الجولان وهودت القدس ودمرت الاقتصاد الفلسطيني، و طبعت مع معظم الدول العربية المهمة سرا او جهرا.

واليوم يبدو انه تنتظر العرب عشرون عاما اخري من الجدال حول الجدار، وماذا كان من الاصح ان يسمي جدارا او حاجزا او عازلا (معركة الاسماء والمسميات كانت ايضا معركة طويلة حول اشياء مثل الكيان الصهيوني وخسرناها كذلك)، وما اذا كان شرعيا ام لم يكن الخ. وفي هذه الاثناء يكون ما بقي من الضفة قد تحول الي مستوطنة كبيرة، بينما سيجبر من بقي من الفلسطينيين علي الاختيار بين الهجرة والعمل كخدمة في المستوطنات.

واذا كان من الضروري تجنب هذا السيناريو، فان علي العرب ان يعيدوا النقاش الي نقطته الاساسية وهي شرعية وجود اسرائيل من الأساس.

العرب تخيلوا ـ منذ ايام مبادرة روجرز مرورا بقمة فاس عام 1981 ـ ان الاعتراف بشرعية اسرائيل يعتبر حلا عقلانيا للقضية الفلسطينية لعدة اسباب، ابرزها واهمها ان العرب قد هزموا امام اسرائيل ولم تعد لهم طاقة بها. ومن الاسباب ايضا ان المجتمع الدولي شرقه وغربه يعترف بوجود اسرائيل، ولا قبل للعرب بمحاربة العالم كله. العقلاء اعتقدوا كذلك ان الاعتراف باسرائيل (او التلويح به) سيجعل المجتمع الدولي ينحاز الي مطالب العرب المتواضعة في استعادة الجزء الذي فقدوه من ارض فلسطين تحديدا لانهم كانوا يرفضون الاعتراف باسرائيل، وبالتالي تتم تسوية الصراع مع اسرائيل وترتاح الدول العربية المحرجة امام شعوبها لعجزها عن مواجهة اسرائيل، والمحرجة امام حلفائها الغربيين لاضطرارها للتظاهر بالاستمرار في هذه المواجهة.

ولكن هناك نقطة غابت علي المهرولين، مفادها ان الاعتراف بشرعية اسرائيل، وهي دولة قامت علي النهب المسلح للاراضي، يجعل من الصعب المماراة في شرعية غنائمها اللاحقة. بل بالعكس ان لاسرائيل حجة اكبر في احتلال الضفة الغربية والجولان منها في نهب الاراضي التي استولت عليها عام 1948. ذلك ان معظم الاراضي التي استولي عليها اليهود قبل عام 1948 انتزعت من مواطنين مدنيين عزل، لم يبادر احد منهم اليهود بحرب، إلا دفاعا عن ممتلكاتهم، بل ان الغالبية لم تدافع عن ديارها ومزارعها اولا لان الاستعمار البريطاني لم يكن يسمع بذلك، وثانيا لان الدول العربية المجاورة اخذت علي عاتقها ذلك. اما عام 1967 فان دولة اسرائيل ( الشرعية بحسب عرب اليوم) دخلت في حرب فرضت عليها بزعمها، وغنمت ما غنمت من اراضي من تلك الحرب، وهي علي الاقل لم تشرد غالبية سكان هذه الاراضي عمدا كما فعلت من قبل.

اذن السؤال هو، لماذا يكون نهب الاراضي عنوة حلالا بلالا قبل عام 1967 وحراما منكرا بعدها؟ الحجة العربية هي بالطبع ـ كما كانت منذ ايام خلافة معاوية ـ هي القبول بحكم الضرورة، والقبول بالامر الواقع. ولكن التعلل بالضرورة هو اساسا حكم لا اخلاقي، وبالتالي يجعل من الصعب المجادلة من موقع شرعي واخلاقي. فاذا كانت امارة معاوية شرعية للضرورة، فلماذا لا تكون امارة يزيد كذلك؟ واذا كان الحكم الديكتاتوري مقبولا للضرورة في سورية والسعودية ومصر، فما الذي يجعله حراما في العراق؟ واذا كان الاستيلاء علي حيفا شرعيا وعلي القدس الغربية، فلماذا تصبح الجولان والقدس الشرقية اراضي محتلة يجب تحريرها، اذا كان المحتل واحدا ووسيلة الاحتلال والاغتصاب هي نفسها؟

ان الطريقة الوحيدة للخروج من هذا المأزق هي اعادة طرح شرعية وجود اسرائيل من الاساس علي الطاولة، واعادة التأكيد علي المباديء الدولية التي لا خلاف عليها، والتي تقول ان الاستيلاء علي الاراضي بالقوة، وممارسة التطهير العرقي كلها من المحرمات، ومن كبائر جرائم الحرب، وان المطالب العربية يجب ان تبدأ من التمسك باعادة كل الاراضي المسلوبة منذ عام 1947، ومحاكمة المسؤولين الاسرائيليين بتهم التطهير العرقي وبكل جرائم الحرب الاخري، وتعويض الفلسطينيين عن التشريد، وفقدان الممتلكات والمعاناة، وتشمل جرائم الحرب هنا الاستيطان غير الشرعي في اراضي الغير، وهي جرائم يجب محاكمة ومعاقبة كل من ارتكبها واعان وشجع عليها وخطط لها، كما ينبغي دفع التعويضات لاصحاب الارض الاصلية وكل من تضرر بأثر رجعي.

ان اتخاذ هذا الموقف المستند علي الشرعية الدولية المتفق عليها يعيد الامور الي نصابها، ويركز الجدال علي القضية الاساسية، وهي قضية النهب المسلح للاراضي وما يتبعه وترتب عليه من جرائم، ووضع النخبة الاسرائيلية في وضع الدفاع، حيث يجب ان يكونوا، وهذا يفرض علي اسرائيل ان تسارع بتقديم التنازلات والمبادرات فتخلص نفسها من ورطتها، لا ان تنظر التهافت علي رضاها من الضحايا.

ان من طبيعة الاشياء هي ان الحق لا بد ان يسود ولو بعد حين. لقد توقف النازيون عن ارتكاب جرائمهم (او اوقفوا عن ذلك) منذ عقود، ولكن المانيا ودولا اخري ما تزال تدفع ثمن تلك الجرائم، وبالمثل فان حرب البوسنة وقادة صربيا مازالوا يدفعون ثمن جرائمهم السابقة في البوسنة وكوسوفو وكرواتيا.

ولكن اسرائيل التي اطلق عليها كوميدي بريطاني مشهور من اصل يهودي صربيا بالطاقية ما تزال تمارس جرائمها في النهب والاضطهاد، ولا شك ان المطلب الاول للعرب يجب ان يكون هو ان تتوقف اسرائيل عن ممارسة جرائم الحرب اولا وقبل كل شيء، ثم تبدأ بعد ذلك المحاسبة عما سبق. ولكن العرب ظلوا يساعدون اسرائيل علي التهرب من جرائمها وعلي الاستمرار فيها، وذلك بالانسياق وراء المعارك الهامشية الانصرافية التي تجرهم اليها.

صحيح ان الحكام العرب سيجدون حرجا شديدا في مساءلة اسرائيل عن جرائمها خوفا من ان يطالبوا باثبات البراءة من الاثم الاكبر وهم يلقون بحجارتهم تجاه خاطيء مثلهم، ولكن هذا مبحث اخر. وهناك من غير شك عرب ابرياء مؤهلون لالقاء الحجر الاول باتجاه اصحاب الاثم، وبدلا من التهليل لحكم دول بعدم شرعية الجدار، يجب ان يتم التركيز علي عدم شرعية من بني الجدار اصلا. - القدس العربي -

http://www.miftah.org