أي حكومة لفلسطين في وضع الحصار والاختناق والاقتتال؟
الموقع الأصلي:
نحن اليوم أمام صورة مغايرة لا تشرّف فلسطين ولا تستحقها ولا تليق بها. لا أصفها بأكثر من ذلك. وأقول هذا والأسف يغمرني، بل والألم يعْتصِرني،أنا الذي أوقفتُ فكري وقلمي على قضية فلسطين العادلة طيلة ما يناهز 15 سنة، بلغت فيها مقالاتي وما جاء في كتبي ما يعدّ بآلاف الصفحات مسندا قضية فلسطين وناصحا ومقترحا الحلول. ومع ذلك ما أزال مؤمنا اليوم كالأمس بقدرة شعب الجبارين على اجتياز محنته. إذ “دوام الحال من المحال”. “واشتدّي أزمة تنفرجي”. في وضع الحصار والتجويع والتقتيل والاختلاف يجري بين القيادات الفلسطينية جدال بيزنطي على شكل حكومة الإنقاذ التي تفرض الظروفُ الصعبة القاسية المسارعة إلى تحقيق مشروعها: أتكون حكومة سياسية مؤلفة من حماس وفتح وممثلي فعاليات سياسية أخرى؟ أم حكومة أطلِق عليها اسم حكومة الوحدة الوطنية؟ أم حكومة تعديل لحكومة حماس بتغيير لون طِلائها الخارجي؟ أم حكومة مستقلة عن الفعاليات السياسية والعسكرية والتي يمكن تسميتها بحكومة اللامنتمين؟ أم حكومة اللاسياسيين الخبراء في فن الحكم ويُدعوْن ب “التنوقراط” كما يُدعوْن بالخبراء الإداريين؟ أم حكومة الكفاءات من الاختصاصيين البعيدين عن كل لون من الطيف الفلسطيني؟ واحتد الحوار حول هذا الإشكال البيزنطي دون أن يخرج من نفقه المظلم. وطال الحمل بالحامل أزيد من أمد الحمل. وقد يولد المولود مُجهَضا مبتلى بعيوب “الخِلقة” (بكسر الخاء). أقول عن هذا الجدال إنه بيزنطي وأضيف أنه سابقٌ لأوانه. فبداية النظر في تشكيل الحكومة تفرض أن يكون للحكومة المُتوقع تشكيلها برنامج سياسي متفق عليه. وبدون ذلك فالحديث عن شكل الحكومة غير معقول قبل الاتفاق على برنامجها وتحديد مستقبل فلسطين وأي فلسطين؟ وحدود الدولة وعلاقتها ب”إسرائيل”؟ وهل يتحقق مشروع الدولة الفلسطينية بالمفاوضات أم بالمقاومة؟ وهل تكون الحكومة أصلا حكومة مفاوضات؟ ومن يفاوض “إسرائيل”؟ أو هل تكون حكومة ترفض المفاوضات وتبقى تحت الحصار من المجتمع الدولي ويقتصر نشاطها بالتالي على تصريف الشؤون الإدارية اليومية إن استطاعت إلى ذلك سبيلا؟ في جميع ألوان وأشكال الحكومة لا بد من أن يتخذ الرئيس الفلسطيني محمود عباس (أبو مازن) بوصفه سلطة الرئاسة الدستورية قرارات صعبة قد تكون لها عواقب وخيمة أقلها أن يزداد النسيج الفلسطيني تمزقا بما يتسع معه الخرق على الراقع. الرئيس الفلسطيني هو قطب الرحى في كل عملية سياسية، وهو رمز الوحدة الوطنية. وبدونه لن تخرج القضية الفلسطينية من مأزقها المنظور، لأنه فعلا واقع منظور برؤية العين، ولا يمكن لأية فصيلة فلسطينية أن تنكره. الرئيس الفلسطيني يحظى بثقة المجتمع الدولي، ويُستقبل في العواصم العالمية استقبال رئيس الدولة. وهو الورقة الرابحة في اللعبة السياسية الفلسطينية، وعُمْلة فلسطين القوية. ومن الجناية الآثمة على قضية فلسطين أن يطلق البعض لسانه باتهامه أو التشكيك في قيمته أو المطالبة باستقالته. ولو لم يكن أبو مازن موجودا في هذه المرحلة الصعبة لكان من الواجب البحث عنه (حتى لا أقول “واجب خلقه”). بكل موضوعية أزعم أن القول إن حكومة الوحدة الوطنية هي الحل غير جدي. فعلى أية أرضية تقوم الوحدة الوطنية المفتقدة أو تقوم عليها هذه الحكومة المقترحة؟ ستكون هذه الحكومة إذا قدّر لها أن تقوم حكومة ألوان من الطيف الفلسطيني لا يجمع أعضاءها إلا توزيع المناصب الوزارية بينهم. وستكون سفينة نوح فيها من كل زوجين اثنين قابلة للانفجار في كل آن. وكيفما كان لون الحكومة فلابد أن تلتزم حماس بأن تضمن لها ثقة المجلس التشريعي الذي تملك فيه الأغلبية، وأن لا تتقدم بملتمس رقابة يُطيح بها ليعود تشكيل الحكومة إلى مربع الصفر، أو إلى ما يُسمّى بالدور والتسلسل. وهو عبث لا ترجى منه فائدة ولا يمارسه العقلاء بمقتضى الحكمة القائلة: “أفعال العقلاء تصان عن العبث”. كم أنا آسف لأن الأحداث صدّقت ما كتبته على صفحات هذه الجريدة منذ أشهر خلت عندما أسفرت نتائج انتخابات المجلس التشريعي عن فوز حماس بالأغلبية، وأصبحت بذلك القوة السياسية المؤهلة لرئاسة الحكومة وتسلم أغلبية حقائبها. فقد أعربت آنذاك عن مخاوفي على مصير القضية الفلسطينية وتوقعتُ دخولها في المسار الصعب، ونصحت الإخوة في حماس على صفحات هذه الجريدة بأن يظلوا في خندق المقاومة قوة ضاغطة ولا ينغمسوا في حمأة السياسة السياسوية. لست سعيدا ولا أفتخر بكون الأحداث أتت بما توقعته. وسأظل أقدم النصيحة للإخوة الفلسطينيين عامة والإخوة في حماس خاصة سائلاً هؤلاء أن يعملوا ليكونوا جزءا من الحل، لا أن يكونوا المشكلة المستعصية على الحل. واقتراحي للخروج من المأزق هو أن يتولى الرئيس الفلسطيني رئاسة الحكومة كما هو الحال في النظام الرئاسي، وأن يرأس عملية الإشراف على المفاوضات، على أن تعطى للمفاوضات حقيبة خاصة يشرف عليها وزير دولة كما يقولون في المشرق وإنجلترا، أو كاتب دولة كما يقال في المغرب وفرنسا. ويمكن أن تتمثل فيها حركتا حماس وفتح بشخصيات غير بارزة في المشهد السياسي ومن يقبلون توجه الرئيس الفلسطيني في حل مشكلة النزاع “الإسرائيلي” - الفلسطيني. وإذا لم تقبل حماس المشاركة في هذه الحكومة فليُقبل عذرها، وليُتعامل مع موقفها بالاحترام والتقدير. وسيكون ذلك جريا على سنة حركات المقاومة التي دأبت عبر العالم على الالتزام بالابتعاد عن المعترك السياسي إلى ما بعد تحقيق التحرير وجلاء قوات الاحتلال. contact@abdelhadiboutaleb.com www.abdelhadiboutaleb.com - الخليج الاماراتية 30/10/2006 - http://www.miftah.org |