درويش وحيفا وحماس
بقلم: معن البياري
2007/7/19

الموقع الأصلي:
http://www.miftah.org/display.cfm?DocId=7478


كان تساؤلا في محله ذاك الذي تعلق بضعف صوت المثقفين الفلسطينيين بشأن الذي جرى في الشهور الماضية من اقتتال مروّع بين حركتين فلسطينيتين، ثم انقلاب واحدة على أخرى وعلى أجهزة السلطة الوطنية في قطاع غزة في عملية دموية ملعونة، والمقصودون هنا كتّاب الأدب والمشتغلون بالإبداع الفني والنقد الثقافي. وكان مأمولاً، ولا يزال، أن يكون لهم صوت أكثر وضوحاً، وأن يبرز لهم ثقل ما في فسيفساء اللوحة الفلسطينية المتنوعة المواجع وذات الأوجه المتعددة الخراب. كان طيّبا أن كتّابا من هؤلاء كتبوا وانتقدوا وصاحوا، وكان طيّبا أكثر لو حاول الجسم الثقافي الفلسطيني جمع أشلائه ولملم تنويعاته وحساسياته وأصدر وثيقة، أو مدونة، وطنية تقف على القاسم الجوهري وتذكّر بالوجهة الأصوب للبوصلة الفلسطينية، وقد صار توهانها شديد الوضوح. وفي ما كان مرتقبا سماع دعوة إلى مبادرة كهذه، وجدنا أنفسنا أمام سجال رديء بين مثقفين وأهل سياسة ومشتغلين بالعمل المدني والوطني، تخللته رثاثة بائسة ومناوشات سقيمة، انشغل بما إذا كان مستساغاً ووجيهاً أم لا، من باب وطني، قدوم الشاعر محمود درويش إلى حيفا لإحياء أمسية شعرية، وما إذا كانت دعوته من كتلة سياسية معيّنة استثماراً سياسياً وانتخابياً من جانبها لزيارة الشاعر الكبير في منافسة مع تجمع سياسي آخر.

بصراحة، كان غريبا جدا أن يأخذ هذا الكلام كل تلك المساحة في صحف فلسطينية وعربية، وأن يذهب بعضهم إلى نقد الأمسية الشعرية ويحتفي آخرون بها، وكان مستنكرا التشويه الذي عمد بعضهم إليه للزائر الكبير وزيارته مدينته الأولى، والسخرية منها للانتقاص من قيمته، وهو الذي حقَّ له أن يوصف بأنه أيقونة الوطنية الفلسطينية، وراح نفر قليل يسأل السؤال المضحك عن الزيارة لماذا تتم في هذا الوقت بالذات، وآثر نفر آخر التذكير بأن الزيارة تتم بتصريح ليومين من وزارة الحرب “الإسرائيلية”، وكأن محمود درويش آثر هذا التصريح على آخر غيره يسّره خالد مشعل أو محمود عباس أو عمرو موسى. بإيجاز، كان نقاشا نافلا خرج بعض المتورطين فيه عن اللياقة أحيانا، فيما كان يمكن أن يذهب إلى قضية الوطن الفلسطيني المحتل وسياق العلاقة بين عموم شعب أرض واحدة، لا سيما أن درويش ينتسب إلى كل هذا الشعب في كل مطرح في داخل الوطن وخارجه. وإذا جاز لبعضهم أن يسوءه ما نسب لدرويش في وصف خصوم زيارته من أهل الحسابات الشخصية العابرة بأنهم “صبية وأولاد صغار وأنصاف مثقفين يملأهم الغيظ والغيرة”، فإن هؤلاء بالغوا حين وصف أحدهم أجواء انتقاد خطابهم بأنها “ستالينية”.

ضاعف من بؤس هذه الثرثرة أن النواب الفلسطينيين الثلاثة (بحسب رجاء بكرية التي لا تحبّذ الصفة العربية لهم ولفلسطينيي الداخل) في الكنيست، من التجمع الوطني الديمقراطي الذي يتزعمه الدكتور عزمي بشارة، أنهم تعمدوا عدم حضور أمسية درويش في قاعة “الأوديتوريوم” في حيفا، ليس موقفا من درويش كما أوضح “التجمع”، بل تجاه الجبهة الديمقراطية للسلام والمساواة التي يرأسها النائب في الكنيست محمد بركة، ونظمت مع مجلة “مشارف” الأمسية وأشرفت عليها. وكان دالا تنويه صحف عبرية إلى أن درويش انتصر على شيمون بيريز، حيث غاب النواب الفلسطينيون في الكنيست عن جلسة تنصيب الأخير رئيسا للدولة العبرية وآثروا حضور الأمسية، وقد تواقتتا معا. وكان جميلا لو وجد “التجمع” و”الجبهة” في حضور درويش بين شعبه في الكرمل مناسبة لفض الزعل الذي بينهما، والبحث عن الكثير الذي يجمعهما بدل ترك الخلافات تتسع، وبدل بناء مواقف على كلام مؤسف نسب لبركة ضد زميله بشارة. وقد أكد درويش عدم تفريقه بين الحركة الإسلامية (حضر نوابها الأمسية) و”الجبهة” و”التجمع”، وقال إنه شاعر الجميع.

أما حركة المقاومة الإسلامية حماس، فالبادي أن شواغل أخرى صرفتها عن المشاركة في الموسم الكلامي (هل انتهى؟) بشأن أمسية حيفا، غير أن أنصارا لها راحوا في الإنترنت ينعتون محمود درويش بأنه “شاعر دايتون”، جرياً على الكلام الذي صار معهودا عن تابعية فلسطينيين كثيرين للجنرال الأمريكي القبيح، وكأنه كان على درويش أن يبارك ما قامت به الحركة المذكورة في قطاع غزة من ممارسات، ومن فرض لأمر واقع، ومن صراع على سلطة ووزارات فيما الطنين في الآذان لشعارات مقاومة الاحتلال. كان إعلاناً صريحاً شجاعاً من درويش أن ينتقد وبشدة مسلك حماس. وأن يقول في مبتدأ أمسيته، والتي مثلت شيئا من عودته الرمزية إلى مساقط شبابه، إن الشعب الفلسطيني الذي استعصى على أعدائه استئصاله سيعرف كيف يضع حدا لجنون أبنائه. وأن يكشف عن ألمه من الاقتتال الدامي بين حماس والأجهزة الأمنية الفلسطينية في غزّة، وكان تعبيرا في محله قوله “يا لنا من ضحايا في زي جلادين”.

يصرح محمود درويش بوضوح، لصحيفة “هآرتس” (للأسف ربما؟)، أن ما حدث في غزة تعبير عن أفق مسدود، وأنه لا توجد سلطة فلسطينية، ويحارب بعضهم بعضاً على أوهام، يريد كل واحد الإمساك بزمام الحكم فيما كل شيء وهم. ويوضح أن صعود حماس يخيفه من الناحية الثقافية وليس السياسية، لأنهم يؤمنون بالديمقراطية لمرّة واحدة، ويضيف أنه لأن الدم ساخن والجروح نازفة يصعب الحديث عن حوار، وإذا اعتذر أفراد حماس آخر الأمر عما فعلوا في غزة، وصحّحوا نتائج المعركة، سيمكن الحديث عن حوار. وبهذا الرأي الذي لا يكتفي بالتلميح الذي في نص “يوميات” الذي نشره الشهر الماضي، يكون محمود درويش قد أطلق زفرته الخاصة بما يجري، وهي على أهميتها غير كافية، إذ لا يزال من لزوم ما يلزم أن ينطلق حوار ثقافي فلسطيني غني ومتعدد وينفتح على أفق وطني، ويختتم بوثيقة تجهر بالجوهري والواجب، تنحاز إلى فلسطين، كل فلسطين، لا إلى حماس ولا لفتح، لا للتجمع الوطني الديمقراطي ولا للجبهة الديمقراطية للسلام والمساواة، تنسينا النقاش البائس الذي دار حول محمود درويش في حيفا، وتعلن أنها كارثة تعصى على الاحتمال أن يقتل فلسطيني فلسطينيا آخر من أجل وهم سلطة ووزارة. - الخليج 19/7/2007 -

http://www.miftah.org