عبثية البحث عن حل لقضية عادلة
الموقع الأصلي:
ولو أعملنا الفكر قليلاً في ما يتجنبه الناس لوجدنا أن هذا هو حال العرب منذ أن قرروا أن يبحثوا عن “حل” لقضية فلسطين كأنها معضلة تبحث عن حل بنبرة معذبة: “أريد حلاً”. ومسعى البحث عن “حل” يعني إقناع “إسرائيل” بتغيير موقفها، وهذا لا يعني إجبارها أو محاربتها أو التضييق عليها أو استنزافها أو غيره، بل التأثير فيها بالذات بعد أن اقتنع من اقتنع بفشل الوسائل السابقة. ولكي تغير موقفها ويكون التأثير فيها باتجاه “الحل”، لا بد من افتراض أن تسعين في المائة من أوراق هذه اللعبة بيد أمريكا. ولا بد أيضاً من الافتراض أن أمريكا تريد “حلاً” لقضية فلسطين. وبعد ما لا يحصى من المشاورات والوفود والمؤتمرات والانتفاضات والحروب وغيره انتهت الولايات المتحدة إلى قناعة مفادها أن “الحل” غير ممكن من دون دولة فلسطينية. ولكنها وصلت الى هذه الاستنتاج بتواز مع وصول “إسرائيل” إلى القناعة نفسها. ومفادها تخليص ل “إسرائيل” من العرب كعبء ديموغرافي. و”إسرائيل” طبعا تعيِّن وتحدد المعادلة بحيث تعني التخلص من أكبر عدد من العرب على أصغر مساحة ممكنة من الأرض يتم الانسحاب منها. والعرب طبعا يرفضون مثل هذا “الحل”، ومن يقبل منهم بمثل هذا “الحل” لا يستطيع فرضه. خصوصاً أن هذا البعض يقارب ما يدعي أنه “حاجة إلى حل” من منطلق: “أننا هزمنا وكل ما تقدمه “إسرائيل” لنا كثير علينا”، وأنه لا حاجة للعرب ولا بد من الحديث مباشرة مع أمريكا و”إسرائيل”. وطبعاً يردف هذين الادعائين بالسؤال المحرج ضد من يعارض: “وما بديلك؟”. وأذكر أنه إبان النقاش على اتفاقيات أوسلو كان هذا السؤال المحرج هو سلاح الدمار الشامل ضد خصوم أوسلو. وأذكر انه عندما كان أحدهم يوجه لي السؤال بعد تبيان مخاطر هذا الاتفاق، “حسنا، فما بديلك؟”. كنت أجيبه: ألا توقعوا اتفاق اوسلو، هذا هو بديل التوقيع: عدم التوقيع. فمن يقوم بفعل فيه هذا الانقلاب الاستراتيجي هو الذي يجب أن يعطي المبررات، وليس من يعارض هذا التغيير. لقد ثبت ان توقيع اتفاق أوسلو كان كارثة حقيقية للشعب الفلسطيني. ولا استطيع أن أثبت أنه لو لم يوقع لتطور الوضع بشكل أفضل، فهذا من علم الغيب. ولكن يمكن بسهولة الإثبات ان وضع الفلسطينيين قبله حمل آفاقاً أوسع للنضال ولفرض الشروط على “إسرائيل”. وبرأينا المتواضع لا يوجد “حل” لقضية فلسطين، بمعنى التوصل الى حل بعد البحث عنه ثم العثور عليه، فلا يوجد حل ضائع ينتظر من يجده. والمسألة ليست عبقرية في التخريجات على الورق بحيث يخرج عدم الاتفاق بصورة اتفاق. وليست المسألة حلاً لمعضلة رياضية. هذه قضية تحرر من الاحتلال. وهي لا تحل، بل تنتهي مع زوال الاحتلال، ولا تنتهي مع بقاء أي نوع من الاحتلال أو الاستيطان. أو هي قضية “ابرتهايد” وفصل عنصري، وهذه لا تحل، بل تعالج بمساواة كاملة لا يحصى بعدها الناس ديموغرافيا. ولا بد من اختيار استراتيجية النضال من اجل التحرر. أما في سياق موازين القوى الحالية فلا ينتج سوى تخريجات للمعتدلين، أو مكرمات لهم، أو حلول لمشاكل “إسرائيل” المترتبة عن الاحتلال. على كل حال، لم يسعفنا تساؤلنا عن الاختفاء غير المعلن لخريطة الطريق. ولم يمهلنا جورج بوش طويلاً، فإذا بوسائل الإعلام العربية تزف لنا بشرى تعيين بلير مبعوثاً للرباعية. والرباعية هي أيضاً مثل مبعوثها مخلوق غريب عجيب بأربعة أطراف، تشمل الأمم المتحدة كعضو واحد بين دولتين ومجموعة دولية. وهي من تخريجات الهيمنة الأمريكية، ولا بد أن هذا الطاقم أيضا سوف يختفي يوما. وقد بدأ الناس فور سماع نبأ تعيين بلير بالتساؤل جديا عما يعنيه تعيينه، فهو بالتأكيد ليس موفداً عادياً. وهو ليس زيني، ولا حتى مبعوث السلام القديم روجرز. إنه توني بلير. و”النِّعَم والسِّت نعام!!” يقول الفلاحون في بلادنا عندما يسمعون بعدم اكتراث بادٍ اسم شخص لأول مرة، أو عندما يلفظ اسمه فلا يأبه أحد. و”ماذا يعني توني بلير؟”. لا شيء. موفد آخر. هو فعلا أكثر أهمية، “استقيل” وهو شاب مملوء بالطاقة والحيوية، وصديقه جورج بوش يجد له عملاً يلبي طموحاته ويملأ أوقات فراغه بشكل بناء. وسوف يكون لدينا موفد أكثر أهمية من صلاحياته. وماذا بعد؟ وماذا يريد بلير؟ يبدو أن السؤال عن الهدف أخلى مكانه في نواحينا للعملية، الصيرورة، الأداء، العملية كل شيء، أما الهدف فلا شيء. وسوف يعلن بلير عن إحباطه قريباً ويغادر من دون خبر، أو سوف يختص بتوجيه النصائح للفسلطينيين في كيفية التصرف لكسب ود “الإسرائيليين”. وهنا سوف ينجح طبعاً. كما سوف يساعد المعتدلين من الفلسطينيين على الحصول على دعم دولي ومبادرات حسن نية جزاء لهم على اعتدالهم. وسوف يساهم في تعزيز القدرة الفلسطينية على إدارة دولة ومفاوضات، كما تختص بذلك جمعيات غير حكومية عديدة تساهم في تنشئة جيل من الفلسطينيين مؤهل لقبول “الحل” والتعامل معه. ثم، وبعد اقل من اسبوع عاجلنا بوش بفكرة المؤتمر الدولي للقضية الفلسطينية.. مؤتمر، أين؟ لماذا؟ متى؟ ما الهدف؟ لا أحد يدري، فكرة صماء تماماً. لا أحد يعرف معناها وسر توقيتها. فلم يسمع عن تغير في الموقف الأمريكي يترتب عليه تفاؤل بعقد مؤتمر لتطبيق فكرة ما. المؤتمر هو فكرة أخرى لدعم “المعتدلين” العرب ولعزل “المتطرفين”. ولا بد أن يدعم من وصل الى قناعة يتفاخر بها مفادها نعم للحوار مع “إسرائيل” ولا للحوار مع شعبه.. من وصل الى قناعة من هذا النوع ويجاهر بها لا بد من أن يدعم. ولكن ماذا يهم الهدف؟ الهدف لا شيء، المهم العملية: من يحضر المؤتمر وأين يعقد ومتى؟... هذه هي الأمور المهمة. عين بلير ثم اطلقت الى فضاء الفضائيات فكرة المؤتمر الدولي. وحتى من يتمتع بموهبة التعليق بجمل جاهزة على أي شيء لم يجد ما يعلق عليه في هذه الحالة. ولو أطلق بوش فكرة ثالثة لأقسمت بالله العظيم أنها الحرب. لا بد أنه يحضر فعلاً لحرب. فمنذ فترة تحولت قضية فلسطين برعاية بوش وأفكار بلير الى دائرة علاقات عامة لإدارة الولايات المتحدة أزماتها الاخرى. كان من المفترض أن تكون قضية فلسطين الجوزة الأصلب المستعصية على الكسر، والتي تستخدم ضدها القضايا الأخرى في علاقات عامة. فباتت بفضل بعض المبادرين في “صناعة القضية” و”عملية السلام” و”العملية” دائرة علاقات عامة تستعرض من خلالها الولايات المتحدة أنها تعير قضية العرب الاولى اهتمامها، وأنها لا تخاطب العرب بحاملات الطائرات والبوارج فحسب، وأن لديها “حلا” لقضية فلسطين حالما تفرغ من حل دولة العراق، وحالما تنتهي من تحضير حصار إيران تمهيدا لصفقةٍ أو لحرب. وتجد من يتجاوب معها بالإشادة بالجدية الأمريكية هذه المرة، وبتمنية النفس أن الضغط على “إسرائيل” قادم “خصوصاً وانها فقدت أهميتها الاستراتيجية”، وفي اسوأ الحالات علينا انتظار الانتخابات الأمريكية المقبلة. والظرف الفلسطيني مؤات طبعا لخطاب أمريكي من هذا النوع، فمن يرفض الحوار مع شعبه ويرى “حلاً” في آخر النفق، وضوءاً في آخر النفق الطويل الذي يسمى ال “عملية”، ونفقا في آخر الضوء، يتم جره من جديد إلى وعود من نوع إعلان مبادئ. بعد اتفاق أوسلو، بعد مرور أكثر من عقد يجري مرة أخرى الحديث عن إعلان مبادئ. فعلاً أمر لا يصدق، ولكن هذا ما نسمع. أما على الأرض، فإن الشرط الذي يجب أن يحترمه “المعتدلون” هو أولاً، عدم الحديث مع حركة حماس، وثانياً أن “يكافحوا الإرهاب” بجدية. سوف يصاغ إعلان المبادئ بتعابير وبأسلوب يحتمل التأويل لأنه يصعب الاتفاق على ما سميت في أوسلو قضايا الحل الدائم. فماذا يبقى من أمور يمكن تقديمها كدعم للمعتدلين: بعد أخذ ورد واستنزاف آخر ذرة مما تبقى سوف تنسحب “إسرائيل” تدريجياً إلى خطوط ما قبل الانتفاضة الثانية، اي إعادة بسط السلطة نفوذها على مناطق “أ” و”ب” في الضفة الغربية، ثم مبادرات حسن نية أو “مكرمات” “إسرائيلية” أخرى ربما تصل حد أمور رمزية الطابع. وتأمل “إسرائيل” أن تتوسع أوساط المستفيدين من حسن أخلاق الدولة المحتلة هذا. وهي الدولة التي يعتبر إذنها بدخول فلسطيني، ليس الى مناطق الخط الاخضر بل الى الضفة الغربية، بادرة حسن نية، ويتم تناسي أن هذا الواقع، أي واقع طلب الإذن منها يعني عدم سيادة السلطة حتى على المناطق التي تديرها في الضفة الغربية، وتأكيد سيادة الاحتلال. ولا يفترض أن يكون لأحد مانع من أن يطلب لمواطن فلسطيني مشرد وعالق على الحدود العراقية العودة الى الضفة او دخولها، (فماذا تعني كلمة العودة هنا؟؟) ولكن المشكلة هي في تفسير ذلك سياسياً كتنازل “إسرائيلي” وكمكرمة تساعد “المعتدلين”، وهو في الواقع ممارسة “إسرائيل” لصلاحيتها كدولة احتلال. هنا يتم ليس فقط فرط القضية الفلسطينية الى مطالب عينية تقدم الى دولة الاحتلال، بل تتم مقايضة هذه المطالب وما يترتب عليها من تعزيز مكانة من يحصلها من القيادة الفلسطينية كأنه “نائب خدمات” في برلمان دولة، ويقوم هو بوساطة بين جمهوره والدولة، ومقايضة هذا كله مقابل تفكيك المشروع الوطني إلى مطالب واقعية من دولة الاحتلال، وتنافس أمام الشعب الفلسطيني ما الذي يفيد في تقديم الخدمات الاعتدال، أي تقديم المشروع الوطني مقابلها أم تحصيلها، من خلال النضال لتطبيق المشروع الوطني؟ - الخليج 2/7/2007 - http://www.miftah.org |