صناعة "المقدس"
بقلم: حيدر عوض الله
2007/8/13

الموقع الأصلي:
http://www.miftah.org/display.cfm?DocId=7613


ثمة أكثر من دلالة على نجاح المهرجان الذي أقامه حزب التحرير، تحت شعار "عودة الخلافة"، وكذلك على نوعية الحضور متعددة الأجيال والفئات الاجتماعية التي تشكل جمهوره. المشكلة ليست مشكلة حزب التحرير وأفكاره الإسلامية الماضوية، التي تريد إعادة إنتاج الخلافة بكامل تفاصيلها بما في ذلك هيكليتها التنظيمية والقيادية، بل هي مشكلة القوى السياسية والمدنية التي لم ينجح خطابها الدنيوي على حداثته في ملء الفراغ المدقع في الحياة الثقافية والفكرية الفلسطينية، التي تملأها باضطراد الشعوذات السياسية والدينية، وتقديس الأشكال الماضوية التي تحولت بغلافها الديني إلى مقدسات يمنع الاقتراب منها تمحيصاً أو تدقيقاً. وفي هذا السياق يتحول كل ما هو سياسي ووضعي إلى مقدس شرط إحالته إلى السيرة الإسلامية وتراثها! وهذه الإحالة المفتقرة إلى النظرة الشمولية لواقع وتعقيدات التطور السياسي للدولة الإسلامية تاريخيا، تستند إلى تخليص هذا التطور من محتواه السياسي والتاريخي وتحويله إلى أداة قياس ، لايصلح شأن الأمة وحالها إلا بالاستناد اليه. وتتجاوز هذه الإحالة للسيرة الإسلامية، الصراع السياسي الطاحن بين القوى السياسية والاجتماعية التي استعملت ذات الدين للبطش بالقوى الأخرى في طريقها إلى السلطة، منذ مقتل الخليفة الراشدي عثمان بن عفان وانقسام الأمة الإسلامية إلى تيارات سياسية وفكرية متطاحنة للوصول إلى السلطة. وبغض النظر عن طبيعة الخلافة التي يريد حزب التحرير وغيره من قوى الإسلام السياسي إحياءها، فإن السؤال الأبرز هنا هو كيف ينجح هذا الخطاب على سذاجته وخوائه الفكري والسياسي في التحشيد والتأثير في جمهور عريض، متجاوزاً المشاعر الوطنية والقومية ، بل ومتعارضاً معها، ليس في فلسطين وحسب بل وفي البلدان العربية والإسلامية؟

باقتفاء الوعي المدني، وتطوره المتناقض والمتشابك مع الهوية الدينية، إضافة إلى تأرجحه الفكري- السياسي، الذي يكاد يكون سمة ملازمة "له" بين العلمانية الخجلة والرومانسية الدينية نجد ضالتنا في أسباب ضمور الطبيعة العلمانية للفكر المدني، وتصدعه أمام موجات السلفية الدينية التي تخمد لتشتعل من جديد متجاوزة بالمطلق كل الانجازات التي حققها الفكر الإنساني في جميع مجالات تطوره. فالطبقة الوسطى التي حملت عبر مثقفيها الأسئلة المصيرية عن وجودها ودورها الوطني في تلمس الخلاص والانعتاق من رقبة التخلف الاقتصادي والاجتماعي والحضاري، وقعت مبكرة في أسر تناقضات صارخة في خطابها الفكري بجميع أبعاده، واكتسبت تعاليمها التنويرية التباسات وقعت هي نفسها ضحية لها، بحكم الطبيعة التوفيقية لهذه الطبقة ومثقفيها، وغياب مشروعها السياسي والاجتماعي المتبلور. فإذا كان عصر الأنوار هو الذي مهد الإطار الفكري والثقافي والروحي الراديكالي للثورة الفرنسية الكبرى، فإن التمهيد الثقافي والروحي للنهضة العربية الذي حاول ممثلو الطبقة الوسطى، رغم تنوعها وعدم تجانسها، إنجازه لم يكتمل، ليس بسبب قوة الاتجاهات السفلية التي وجدت نفسها مجدداً أسيرة لرؤية ماضوية غير قادرة على تقديم أجوبة مقنعة عن أسباب تراكم العجز والجهل والتخلف والقصور المزمن، وغير قادرة على تقديم مشروع يستجيب للتحديات التي يطرحها العالم المعاصر، بل بسبب انعدام القاعدة المادية- الاجتماعية لهذا التنوير، وانقلاب أبرز ممثلي هذه الطبقة الوسطى على أفكارهم، وعلى البذور العقلانية التي حاولوا زرعها في الحياة السياسية والثقافية العربية.

ارتبطت السياسة بالوعي العام العربي والشرقي عموما بشخصية الخليفة، الأمير، السلطان وأخيراً بالرئيس في مؤسسته، وهذا الارتباط التاريخي والمتوارث كاللغة لمفهوم السياسة في وعي العامة يشكل الامتداد الطبيعي لتاريخ مليء بالاستبداد والقمع الجسدي والنفسي لدى الحكام على اختلاف تسمياتهم واختلاف مظاهر الماكينة الديماغوجية التي غذت احتكار الحاكم للسياسة، وكلنا نعرف تاريخ الصراع الدموي الذي حدث داخل الدول الإسلامية منذ نشوئها وحتى زوالها، هذا الصراع السياسي الذي تغلف على الدوام بالدين، باعتباره الغلاف الذي يمكن ان يستقطب "العامة" والتي كانت على الدوام ضحية بدورها لهذا الصراع سواء كانت في الجهة المنتصرة أو الخاسرة. والمفارقة التي تعيد استحضار نفسها على الدوام، عثور تلك الأطراف المتصارعة في الدين على ما يعزز حججها في الصراع السياسي على الحكم أياً كان شكل النظام السياسي الحاكم. لم تنفصل السياسة إذن، في هذه المنطقة كنشاط اجتماعي، عن الدين، وكل الساسة الذين مروا عن هذه المنطقة، أياً كانت سياساتهم، أكدوا هذه التبعية، باعتبارها مفتاح ديمومة الحكم، وتحييد العامة عن الانخراط والمشاركة في الحياة السياسية.

فالسياسة العربية الإسلامية استفادت من وحدة النبؤة والقيادة السياسية في شخص "النبي محمد"عليه السلام، أي وحدة الإلهي والوضعي، وتحولت هذه المصادفة التاريخية الى حقيقة تعيد إنتاج نفسها على الدوام في شخص الخليفة أو الحاكم. ولم يكن بإمكان أي من المعارضات السياسية لشخص الحاكم أن تؤتي ثمارها، إلا بالارتكان الى الجانب الديني، وليس إلى إدارته السياسية والاقتصادية للبلاد. لهذا ليس من قبيل الصدفة أن تنأى أحزاب الأصولية الدينية المعاصرة في برامجها عن كل ماله علاقة بالحياة الدنيوية كالفقر والبطالة والتعليم وحقوق النساء وقضايا حقوق الإنسان، والديمقراطية، وتركن إلى الأبعاد الدينية بالمعنى الوجودي والأخلاقي. لقد كافحت القوى السياسية السائدة على مدار العقود المنصرمة لتحييد الإنسان، الجماهير من برامجها السياسية واكتفت بمشاركتها السلبية في الصراع السياسي لتحطيم العدو السياسي ليس إلا، مؤججة فيها المشاعر الدينية وهذه المرة، بعد تشويه هذه المشاعر وتوظيفها بطريقة تمكنها من الوصول الى سدة الحكم. لذا كان العداء شديداً للنظريات الاجتماعية والأنظمة السياسية التي تتعارض مع احتكار السياسة، وتنزلها من عليائها الميتافيزيقي الى الحياة اليومية.فالسياسة تتحول هنا الى دين فيما يتحول الدين نفسه الى سياسة.

وبالعودة الى حزب التحرير في فلسطين الذي ينمو كما نمت حركة حماس في ظل عجز وتردد الثقافة المدنية والوطنية على تنوع اتجاهاتها ومصادرها الفكرية، تتكرس مخاطر تحول حزب التحرير من قوة لا تكترث في الوقت الراهن بالاحتياجات الوطنية السياسية والمجتمعية الراهنة لصالح خطاب عابر للوطنية والقومية من خلال فكرة الخلافة ، إلى قوة سياسية تشتبك مع النظام السياسي والاجتماعي القائم وتكفره، مما قد يعيد إنتاج نموذج غزة في إطار توزيع أدوار تمليه "الأممية الإسلامية" انطلاقاً من العداء التاريخي لمفهوم الدولة الوطنية والفكر المدني. - مفتاح 13/8/2007 -

http://www.miftah.org