صراع الاستراتيجيات والاولويات في السياسة الغربية
الموقع الأصلي:
من الطبيعي ان تكون اولوياتهم مرتبطة باوضاعهم المحلية اولا، واطفاء النيران المشتعلة علي مقربة من مصادر الطاقة خصوصا في الشرق الاوسط. والخلاف علي الاولويات يمثل جانبا من الصراع الخفي في الدول الغربية، خصوصا بعد ان تعمقت القناعة لدي الكثيرين بان ما تراه واشنطن ضمن الاولويات قد يؤثر سلبا علي القضايا الاستراتيجية، ويؤدي الي توسيع دائرة الخسارة لتشمل اوروبا كذلك. فالتعاطي مع قضايا الشرق الاوسط في مجال الطاقة مثلا والامن، لا يمكن ان يحدث بمنأي عن جانب آخر جوهري، يرتبط بالهويات الايديولوجية للفرقاء خصوصا في مجال الدين. فنشر الكارتونات المسيئة للدين في السويد مثلا، يمكن اعتباره حدثا منفصلا عن تطورات الحرب في العراق او الحرب ضد الارهاب او القضية الفلسطينية او صفقات السلاح العملاقة مع المملكة العربية السعودية. ولكن هل يمكن هذا الفصل من الناحية الواقعية؟ وهذا يقود الي تساؤل آخر: هل يمكن فصل الصراع الايديولوجي عن مضامين الاستراتيجيات والاولويات في التفكير الغربي؟ في الاسبوع الماضي تحدث السفير البريطاني لدي الولايات المتحدة، السير ديفيد مانينج، الساعد الايمن سابقا لرئيس الوزراء السابق، توني بلير في مجال السياسة الخارجية، حول الاستراتيجيات الغربية، بلغة تتسم بشيء من الصراحة، وتعكس عصارة تجربة امتدت 35 عاما من العمل الدبلوماسي المتواصل. ربما لا يتوقف الكثيرون عند مقولات كبير الدبلوماسيين البريطانيين، خصوصا في هذه الاوضاع التي اصبحت لغة الجنرالات الامريكيين هي التي تهيمن علي الاجواء، وتعوق النقاش الذي لا يتلاءم مع ما لديها من اطروحات. ولكن ربما دفعت التطورات الاخيرة التي حدثت في العراق، خصوصا ما يبدو من تحرك بريطاني للبدء بسحب القوات من البصرة، واحتواء التركة الثقيلة التي خلفها توني بلير وراءه، الكثيرين للامعان في مقولات السفير البريطاني لدي واشنطن. مقولات السير ديفيد مانينج اتسمت بالكثير من الحذر والدبلوماسية، ولكنها مع ذلك دفعت صحيفة التايمز لتلخيص ما قاله بجملة واحدة جعلتها عنوانا عريضا لمقال متميز في عددها الصادر يوم الجمعة 14 ايلول (سبتمبر): دبلوماسية العضلات لم تعد تنفع الغرب ، مؤكدا ان الحرب وحدها لا يمكن ان تقاوم الارهاب ، مضيفا انه لا يكفي الاهتمام بالارهاب وعملية السلام في الشرق الاوسط... بل علينا البحث عن طرق لبناء الجسور ومد اليد للآخرين . تأتي كلمات هذا المسؤول البريطاني الكبير متزامنة مع عدد من التطورات المهمة. أولها انتهاء مرحلة حكم بلير وبدء حكم غوردون براون واحتمال حدوث تغيرات في شكل العلاقة بين لندن وواشنطن، ثانيها صدور تقرير الجنرال ديفيد بترايوس الذي اعاد شيئا من الثقة لسياسة بوش الاخيرة المعروفة بـ سيرج التي ادت الي زيادة عدد القوات الامريكية في العراق بـ 30 ألفا. هذا التقرير تفاوتت الآراء حوله، وحول صدقيته وواقعيته وحياديته، وما يمكن ان يؤدي اليه علي صعيد السياسة الامريكية في العراق. ثالثها: انها جاءت في وقت تشعر فيه النخبة الفكرية والمثقفة في بريطانيا باستبعادها من السجال الدائر حول قضايا جوهرية تتعلق ببريطانيا ومستقبلها وموقعها في اوروبا والشرق الاوسط والعالم. رابعها انه ناقش قضايا كانت المؤسسة السياسية والعسكرية البريطانية غير متحمسة للتعاطي معها بهذا النمط والصراحة. من هنا اكتسبت تصريحات السير مانينج قدرا من الاهتمام، خصوصا انه من اقدم الدبلوماسيين وأقربهم الي دوائر صنع القرار البريطاني علي الصعيد الخارجي، خصوصا في ما يتعلق بالعراق والحرب والعلاقات مع امريكا والحرب ضد الارهاب والتعاطي مع الظاهرة الاسلامية. لعل من اهم ما جاء علي لسان السير مانينج طرح مشروع متميز يدعو الي عقلنة الانفاق عموما، واعادة النظر في جدوي الموازنات العسكرية الهائلة لمواجهة تحديات فكرية وايديولوجية تنطلق من مجموعات اسلامية قد يختلف المسلمون حولها كهويات سياسية ومجموعات ارهابية، ولكن ما يطرحه اصحابها كذرائع لما يمارسونه قد لا يكون مثيرا للجدل بالدرجة نفسها. ولذلك طرح سؤالا مهما مفاده: كم مدرسة يمكن تشييدها لتدريس الاسلام المعتدل بتكلفة حاملة طائرات واحدة؟ معتقدا ان الانفاق الهائل في الجانب العسكري لا يوازيه انفاق من نوع آخر لاعادة تشكيل المدارس الدينية المتهمة بتفريخ التطرف الذي يؤدي الي الارهاب، وان دبلوماسية حاملات الطائرات لم تحقق نجاحات تذكر حتي الآن، فلم تقض علي الارهاب ولم تنجح في تأمين الامن والاستقرار في البلدان المعنية سواء في الغرب او العالم الاسلامي. انه طرح جريء بدون شك، خصوصا انه يأتي في مقابل ما طرحه الجنرال الامريكي في تقريره المهم لتقييم الوضع في العراق بعد شهور علي زيادة اعداد القوات الامريكية في مطلع العام. انه يطرح مشروعا موازيا يبتعد عن التحدي العسكري ويدعو الي تبني لغة التحاور والتفاهم ومد ايدي الصداقة بدلا من لغة التهديدات العسكرية والحرب. وفي ضوء هذا الطرح الذي بدأ يجد له آذانا صاغية في العالم الغربي، اقترح الدبلوماسي البريطاني ضرورة التفاهم مع ايران. فقد قال في مقابلة مع صحيفة نيوستاستمان الليبرالية: اود ان اري جهودا اوضح من قبلنا جميعا للتحاور مع ايران بشكل اوسع، حتي يكون الملف النووي جانبا واحدا فقط من ملف الحوار . وجاءت دعوته بعد يومين مما طرحه دبلوماسي بريطاني آخر حول القضية نفسها. فقد قال سلفه السيد كريستوفر مايور، السفير السابق لدي الولايات المتحدة (1997ـ 2003) في مقابلة مع القناة الاذاعية الرابعة لـ بي بي سي: أود ان اقول للرئيس (بوش) انك لن تخسر شيئا وانك ستستطيع ان تتعاطي مع القضية النووية في الوقت نفسه، وتأتي بالايرانيين الي جو التفاوض . وكان الرئيس المناوب لمجموعة دراسات العراق في الولايات المتحدة، لي هاميلتون قد اقتر ح علي ادارة الرئيس بوش اعادة النظر في طريقة التعاطي مع ايران: انكم لا تستطيعون حل المشاكل مع ايران في اجتماعين علي مستوي السفراء. انكم بحاجة لاجتماعات طويلة ومتواصلة علي مستويات عالية جدا . هذه الدعوات تؤكد عددا من الامور: ان هؤلاء الساسة توصلوا الي قناعاتهم الحالية بعد ان ادركوا عدم جدوي الاعتماد علي القوة وحدها، ثانيا انهم اصبحوا اكثر اقتناعا بخطر استراتيجية الحرب ليس علي البلدان الاخري فحسب، بل علي امن بلدانهم ايضا. ثالثا ان الظروف تغيرت لغير صالح منطق الحرب، وبالتالي فالاصرار عليها سوف يزيد الوضع تعقيدا. رابعا ان الاعوام الستة الاخيرة التي اعقبت حوادث 11 ايلول (سبتمبر) اكدت ان العنف يؤدي الي العنف، وان من الضروري طرح خيارات سياسية بموازاة الحرب العسكرية، لكي لا تسد المخارج امام المحاربين، فتصبح العمليات الانتحارية البديل الوحيد امامهم. مع ذلك هناك تحفظات كبيرة علي سعي بعض الساسة الغربيين التدخل المباشر لدعم طرف اسلامي علي حساب آخر، والانحياز لـ الاسلام المعتدل ضد الاسلام المتطرف . فهذا التدخل من شأنه اضعاف الطرف الذي يبدو متحالفا مع الشيطان ، وافشال اية مبادرة للخروج من عنق الزجاجة. ففي ضوء تجارب العقود الاخيرة، أصبح من غير المقبول الدخول في تحالفات مع الولايات المتحدة ضد اطراف اسلامية بشكل مباشر بذريعة دعم الاسلام المعتدل. وما جري الاسبوع الماضي في الانبار يؤكد خطر هذا المنحي. فقد استهدف الارهابيون الشيخ عبد الستار الريشاوي، بعد عشرة ايام من اجتماعه مع الرئيس جورج بوش في مدينة الانبار. كان ذلك الاجتماع الذي اعلن فيه الرئيس الامريكي دعمه للمجموعات التي تسلحها لمواجهة مسلحي القاعدة بمثابة قبلة الموت التي حسمت مصير الريشاوي. ويخطيء من يعتقد ان الامريكيين راغبون في حماية حلفائهم او قادرين علي ذلك. وما تزال قصة الفيتناميين الشماليين الذين تحالفوا مع الامريكيين في الحرب الفيتنامية درسا لمن يريد ان يعتبر. ففي العام 1975 هرع الامريكيون للهروب من فيتنام الشمالية تاركين وراءهم اعدادا كبيرة من حلفائهم الذين قتل الكثير منهم، بينما حاول الباقون البحث عن مكان آمن، فاصبحوا تائهين في قواربهم في اعالي البحار بحثا عن ملجأ ينجيهم من غضب الثوار ومسلحيهم. لا شك ان هناك منحيين واضحين بين المجموعات والتوجهات الاسلامية، يمكن الاصطلاح علي تسميتهما بالتطرف والاعتدال. ولكن ما هو الاعتدال؟ وما هو التطرف؟ وهل من لا يحمل السلاح بوجه الامريكيين يعتبر معتدلا؟ من خلال استقراء معاني المصطلحات التي تطلق علي النشطاء الاسلاميين، يتضح ان المتطرفين هم من يحسب علي تيار الاسلام السياسي وهؤلاء مرفوضون من الغرب سواء حملوا السلاح ام اقتصروا علي نشاطهم الفكري والايديولوجي. وبالتالي تتضح صعوبة مسايرة الغربيين في تسمياتهم ومصطلحاتهم في ما يتعلق بالتقسيمات في اوساط المجموعات الاسلامية. الامر المؤكد ان هناك رفضا غربيا لما اصطلح علي تسميته بـ الاسلام السياسي لانه يحمل مضامين حضارية مخالفة يعتبرها الغربيون تهديدا لمتبنياتهم الايديولوجية. والرفض الغربي أكبر لمن اصطلح علي تسميتهم في السنوات الاخيرة بـ المجموعات الجهادية . جاءت هذه التسمية بعد ان عم الاستياء بعد ان اصبح الوصف الاسلامي للفرد او المجموعة كافيا لاثارة الاشكالات حوله. وقد يقبل الغربيون بقدر من الحرية العبادية للمسلمين ولكنهم غير واضحين في موقفهم العام ازاء انتشار الظاهرة الاسلامية، حتي علي الصعيد الشخصي. فظاهرة الحجاب مثلا اصبحت تواجه تحديات غير قليلة في العديد من العواصم الاوروبية، واصبحت ممنوعة بشكل رسمي في المدارس الفرنسية. من هنا جاء التطرق لمفهومي الاستراتيجيات و الاولويات لدي الغربيين. ففيما يعادي بعضهم الاسلام الجهادي يعادي البعض الآخر الاسلام السياسي . ولكن هناك طيفا واسعا ممن يعادي الظاهرة الاسلامية بما هي تعبير عن ممارسات شخصية واجتماعية مخالفة للسائد من الاعراف الليبرالية في الغرب. وهنا يمكن القول ان العداء للاسلام كعقيدة مخالفة قادمة من الشرق يمثل جانبا من الاستراتيجيات الغربية، بينما استهداف الجوانب الاسلامية المذكورة يختلف كأولوية لدي المعنيين. وعليه، ففي الوقت الذي يمكن اعتبار تصريحات الدبلوماسيين البريطانيين السابقين ايجابية في بعض جوانبها، فانها مصدر للقلق من جوانب اخري، خصوصا فيما لو تبلور تدخل غربي في مناهج التعليم والمدارس الدينية بشكل سافر. حينها سوف يصبح الاسلام السياسي مرفوضا بشكل قاطع، وسوف يحصر الاسلام في الجوانب العبادية المحضة. ان الدعوة للحوار التي جاءت علي ألسنة الساسة البريطانية امر ايجابي، ولكن الدعوة للتدخل في خصوصيات الدين الاسلامي لن تكون مقبولة، بل من شأنها ان تثير المشاعر والشكوك، وتعيد الكرة ثانية للسجال العدائي بدون طائل. البديل لذلك ان يسعي الغربيون انفسهم لفهم الاسلام بما هو دين وشريعة، ويسعوا للتعايش معه والاعتراف بوجوده ودوره. يضاف الي ذلك تكثيف جهود الحوار وتوسيع دوائر التواصل بين الاديان من اجل تقليص بؤر الاحتكاك، وتكريس علاقات التعاون والتشاور. ولكي تنجح تلك الجهود مطلوب من الساسة الغربيين اعادة النظر في اطروحات عديدة من بينها صراع الحضارات و الحرب ضد الارهاب و محاصرة الاسلام السياسي بالاضافة لتشجيع الحريات العامة والممارسة الديمقراطية والتخلي عن الدعم غير المشروط للاحتلال، سواء الامريكي في العراق ام الاسرائيلي في فلسطين. - القدس العربي 19/9/2007 - http://www.miftah.org |