لكل إدارة أميركية خريفها الفلسطيني
الموقع الأصلي:
ولم يكن هدفاً صعباً، فقد جرت المفاوضات في سرية تامة وتعمد مسؤولون في الإدارة الأميركية نشر صور بعضها يسيء إلى الرئيس الفلسطيني. وفي نهاية اللقاء تسرب إلى الإعلام، وإلى العالم، أن أبو عمار رفض اقتراحاً سخياً، ولم يتسرب إلى الإعلام أن الاقتراح سبق أن رفضه الفلسطينيون ولم يكن أبو عمار أو غيره يجرؤ على قبوله. وخرج فلسطينيون من منتجع كامب دافيد يرددون ما أذاعته الإدارة الأميركية، وتعددت انتقادات من عواصم عربية تتهم الرئيس الفلسطيني بإضاعة فرصة ثمينة وعرض سخي. ولم تكن فرصة لتكون ثمينة، ولم يكن عرضاً ليكون سخياً. ويأتي الاجتماع أو المؤتمر أو اللقاء المقترح لخريف إدارة الرئيس بوش تتويجاً أو تغطية لقصور فاضح ومتعمد في التعامل مع الصراع الإسرائيلي الفلسطيني على أساس العدل واستعادة الحقوق. لا تتشابه الإدارتان، إدارة كلينتون وإدارة بوش، إلا في هذا الأمر وتختلفان في كل شيء آخر. فالرئيس كلينتون كان، رغم مغامراته مع مونيكا لونيسكي، على وشك الرحيل من البيت الأبيض برصيد إيجابي في الاقتصاد والسياسة الخارجية وبخاصة في البلقان وفي دعم مسيرة العولمة لصالح بلاده في الداخل والخارج. بينما يرحل الرئيس بوش وكل أرصدته سلبية، فالاقتصاد يعاني من عجز هائل في الميزانية وفي ميزان المدفوعات، وميزانية الدفاع تجاوزت المعتاد والمعقول، والمجتمع يعاني من صعوبات شديدة في تمويل برامج الرعاية الصحية والتعليمية والأسرية، بحجة أن ميزانية الحرب استنفدت الطاقة الماليـة، أو بحجج أن الحكومة تنفذ وعودها بتقليص دور الدولة في الرفاهية الاجتماعية. وفي الحرب، أصيبت القوات المسلحة الأميركية بانتكاسة أشد من تلك التي أصابتها في فيتنام وبعواقب اجتماعية وسياسية تنذر تداعياتها بأنها ستكون أقسى وأكبر عنفاً. لقد فقدت حكومة الولايات المتحدة في هذا العهد صدقية، كان توفرها ضرورياً لاستمرار احتفاظها بمكانة الدولة الأعظم مادياً ومعنوياً، فقدتها في حرب ضد الإرهاب يتعذر على العالم حتى اليوم فهم مبرراتها وطبيعتها رغم مرور أكثر من خمس سنوات على تدشينها ورغم أن الدول الحليفة فيها تجاوز عددها عدد الدول المتحالفة في أي حرب على امتداد تاريخ نظام الدول منذ نشأته. ويتأكد في كل يوم من أيام خريف إدارة الرئيس بوش، أن شعبية الرئيس تتآكل، وتتآكل معها مكانة الدولة في الخارج، أي صدقية سياستها الخارجية والدفاعية. فالناس في أميركا، كما في الخارج، يقارنون بين شعبية الرئيس بوش وشعبية وليام كلينتون في خريفه، وبينها وبين شعبية هيلاري كلينتون، وبينها وبين شعبية من هو أشد منه يمينية وتطرفاً وتعصباً مثل رودولف جولياني، عمدة نيويورك السابق والمرشح الجمهوري. ثم تدخلت أوروبا في سباق الشعبية فمنحت السويد جائزة نوبل للسلام لعدوه اللدود آل غور فعاد الناس يقارنون بين شعبية بوش وشعبية آل غور. لماذا هذه العجالة التاريخية؟ نسوقها لنقول إن إدارة في مثل هذا الوضع لا بد أن تكون بدأت في البحث عن دول وحكومات وقوى عربية ومسلمة لتحملها مسؤولية قصور الادارة الجمهورية وعجزها عن تحريك قضية السلام العادل، أو السلام أياً كان شكله واسمه خلال ثماني سنوات قضاها الرئيس بوش في الحكم. ليس صعباً التنبؤ بأن الإرهابيين سيتحملون نصيبهم في مسؤولية الفشل، وكذلك «الدول المارقة»، والمتطرفين وزعماء الطوائف في العراق كافة. وإذا نجحت السيدة كوندوليزا رايس في ضم دول عربية إلى لقاء يخرج بنتائج أو توصيات أو التزامات فسيصدر من واشنطن في الخريف القادم، كما صدر في خريف أو أكثر من قبل، اتهام للعرب خصوصاً بالمسؤولية عن الفشل. لن يقولوا إسرائيل عرقلت وقتلت واعتقلت، أو أن أميركا لم تتحرك، ولكن سيقال إن العرب لم يفعلوا ما كان متوقعاً منهم أن يفعلوا مثل إنقاذ الاقتصاد الفلسطيني والقضاء على «حماس» أو «حزب الله» أو كليهما معاً. وسيقال إن العرب رفضوا إقامة «إقليم اقتصادي في الشرق الأوسط تطمئن فيه إسرائيل إلى مستقبلها»، ولـم يغيروا بشكل كاف تشريعاتهم وقوانينهم وعاداتهم. شيء من هذا، بل كثير منه، ذكره منذ أيام رئيس مجلس الأمن القومي ستيفن هادلي، وهو أشـد الكارهين للعرب والمسلمين في البيت الأبيض، وأخطر من كلامه كانت القرارات غير الملزمة التي أصدرها الكونغرس لتخريب الأمن والسلام العالمي وبخاصة أمن وسلام الشرق الأوسط. سواء شارك العرب في لقاء هذا الخريف أم لم يشاركوا، سيتم تحميلهم مسؤولية فشل السياسة الخارجية الأميركية على أيدي السيدة كوندوليزا رايس. ولذلك لم يفاجئنا تصعيد الحملة الإعلامية ضد العرب والمسلمين خلال الأسابيع الأخيرة، تغذيها من الأرض المحتلة تصريحات تدعو إلى «قتل جميع أهل قطاع غزة» وأخرى تنادي بالحرب ضد سورية والعودة إلى احتلال لبنان، ويغذيها أيضاً ناطقون وسياسيون كبار يشهرون كراهيتهم للفلسطينيين والمسلمين ولا يخشون اتهاماً من أميركا أو روسيا بالعداء العنصري أو الديني. لم تفاجئنا الهجمة الشريرة ضد الأميركيين العرب والمسلمين وضد الأكاديميين الذين يفسرون الصراع موضوعياً وإنسانياً، ولا الهجمة الراهنة تحت شعارات دينية مسيحية ويهودية تثير نيران كراهية جديدة للعرب والمسلمين. لم تفاجئنا، هذه الكراهية التي تقودها تيارات وجماعات صهيونية ونيونازية ونيو محافظة، فقد رأينا مثلها في كل مرة استعد فيها العرب لتقديم تنازلات، أو بدوا كما لو كانوا خضعوا للضغط الأميركي، ولا تفاجئنا لأننا نعرف أنها تمهيد ضروري لتحميل العرب والمسلمين مسؤولية الفشل المتوقع للقاء الخريف ولحملة تزييف الحقائق التي ستجرى في الخريف المقبل، آخر خريف لبوش وآخر خريف للسيدة كوندي كوزيرة خارجية لم يحالفها التوفيق. سمعت منذ أيام الأمين العام عمرو موسى يقول كلاماً لا أختلف معه وبخاصة رأيه في لقاء الخريف ومواقف الدول والوضع الإقليمي وتطورات الاجتماعات التي جرت في نيويورك وغيرها. يمكن لأي شخص استمع إلى كلامه أن يقرر أن الأمين العام وهذه عادته يحاول بعث الأمل في نفوس جماهير كادت تفقده، لأنه لو حدث وفقد الناس الأمل لأصبحت مهمة عمرو موسى مستحيلة وليست صعبة فحسب كحالها الآن. أو قد يعتقد هذا الشخص أن الأمين العام يسعى وبصعوبة شديدة للتغطية على عجز بعض سياسات العرب. المؤكد أنه لا يحاول الإيحاء بأنه يحملهم مسؤولية ما آلت إليه الأوضاع. ولكن المؤكد بالقدر نفسه أنه لا يعفي أحداً. ليس من باب المصادفة أن تفرض تركيا على الولايات المتحدة اتخاذ سياسات ما كانت تتخذها لو لم تكن تركيا اختارت أوراق قوتها في المواجهة مع حليفتها العظمى بعناية وبحزم، وأن تفرض إيران على أميركا وأوروبا وروسيا معاً تأجيل ضغوط وقرارات عدائية ما كانت لتؤجلها لو لم تكن إيران اختارت أوراق قوتها في مواجهتها مع عدوها الأعظم بعناية وحزم، وأن يفرض بوتين على قادة أوروبا إعادة النظر في توازنات القارة لو لم يكن اختار بعناية أوراق قوته ومارسها بحزم. في هذه الحالات جميعاً، كما في حالة الكفاءة الرفيعة للدبلوماسيتين الصينية والهندية، يصدق القول إن هذه الدول جميعها عرفت كيف تجمع أوراق قوتها وعرفت في الوقت نفسه كيف تجمع أوراق ضعف الإدارة الراهنة في الولايات المتحدة، وقد أوجزنا قليلاً منها في مطلع هذا المقال. إن الدعوة إلى التعامل مع أميركا كما تتعامل معها روسيا وإيران وتركيا والصين والهند وكوبا وفنزويلا ونسبة متصاعدة من دول أميركا اللاتينية، ليست دعوة إلى ثورة في نظام السياسة الخارجية للدول العربية أو دعوة إلى الدفع بدماء جديدة في النظام العربي، وإنما دعوة لإصلاح قطاع السياسة الخارجية والأمن، عساه يكرر عندنا النجاح الذي حققه في تايوان وكوريا الجنوبية والصين والهند وروسيا الجديدة وغيرها عندما قام بدور القاطرة التي جرّت هذه الأمم إلى النهضة. - الخليج 23/10/20077 =- http://www.miftah.org |