التطرف والغلو والتعصب إلى أين ؟!!
بقلم: عبد الرحيم محمود جاموس*
2007/12/6

الموقع الأصلي:
http://www.miftah.org/display.cfm?DocId=8330


إن جميع الرسائل السماوية حملت رسالة سماوية أساسية واحدة واضحة كما هي دعوة جميع الأنبياء وهي توحيد العبودية لله الواحد الأحد وتهذيب النفس البشرية، ليتعامل البشر على أساس هذه القاعدة أنهم جميعاً عبيدٌ لله وحده وأنهم متساوون فيما بينهم لا فرق بين صغير أو كبير ولا غني أو فقير ولا فرق بين لون وآخر أو جنس وآخر، تلك هي القواعد الأساسية التي يجب أن تحكم البشر في حياتهم الدنيا.

ولكن سنة التدافع التي فطـر الله عليها البشر (( لولا دفع الناس بعضهم لبعض لفسدت الأرض )) تمثل قانون التدافع القائم على أساس المصالح، ولذا وجب البحث عن التشريع أو القانون أو النظام الذي ينظم هذا التدافع على مستوى الجماعة الواحدة لينظم مصالحها ويحكم علاقاتها، هو كذلك على مستوى الجماعات المختلفة والمتباينة وصولاً إلى جماعات الدول والكيانات التي تمثل هذه الجماعات على سطح الأرض الفسيح مما أفسح المجال لتنظيم العلاقات الدولية على أسس من التعاون والأمن والسلام للجميع.

إن المغالاة والتطرف يقودان إلى التعصب المصلحي أو الفكري أو الثقافي أو العقائدي مهما تستر المتعصب بطهرية خالصة أو مطلقة أساسها المبادئ السامية التي وردت في مختلف الديانات السماوية أو النظريات والأيديولوجيات الوضعية والتي بلا أدنى شك يعتقد أصحابها والمؤمنون بها أنها تمثل القيم المثلى والمطلقة ولا تفسح المجال للتعايش مع قيم ومفاهيم ومبادئ ومعتقدات الآخر منافية للغرض الذي جاءت من أجله جميع الرسالات، فتدخل صاحبها إلى ساحة الغلو والتطرف والتعصب، وهذا لا يقتصر على جماعة أو دين أو ثقافة بل هو مرض قد يصيب الجميع أو قد تظهر أعراضه لدى أي جماعة في أي مكان أو زمان وتصبح الجماعة المبتلاة بهذا الغلو والتعصب تبحث دائماً عن عناصر الاختلاف والشقاق بينها وبين الآخر لتبرر أولاً انغلاقها على ذاتها وعلى ثقافتها وعلى معتقدها ظانة أنها وما تؤمن به من فكر أو ثقافة أو اعتقاد محل استهداف دائم من الآخر مهما كان، سواء كان هذا الآخر من الجماعة ذاتها أو من الجماعات المختلفة عنها في الثقافة أو الفكر أو العقيدة ويقود هذه الجماعة أو هذه الفئة إلى الدخول في صراع أو حرب مع الآخر يغذيه تضخيمها لعناصر الاختلاف والتمايز عنه ولا تستطيع تلك الفئات أو الجماعات أن ترى أو تجد المشترك مع الآخر مهما اتسعت دائرته لأن ميكانزم وجودها وصيرورتها والعامل الأساسي في استمراريتها حسب اعتقادها وانتصار مثلها هو التفكير في نطاق عناصر الشقاق والاختلاف لا غير والتي لا تقود إلا إلى الفتنة على مستوى الجماعة الواحدة وتمزيق وحدة المجتمعات الوطنية، والدخول في الصراعات العنيفة مع المجتمعات الأخرى، في حين أن البحث عن العناصر والمصالح المشتركة على مستوى الجماعة الواحدة يقود إلى الوحدة والتلاحم ويجعل منها عناصر تفاهم وتوحد تقود إلى التوافق الذي يجنب الجميع في الجماعة الواحدة كل أشكال الصراع الداخلي الذي لن يخدم أحداً فيها، وما ينطبق على الجماعة الواحدة أيضاً ينطبق على الجماعة البشرية باختلاف مجموعاتها الثقافية والفكرية والعقدية واختلاف الدول والكيانات، ولكن ظهور التعصب بغض النظر عن القاعدة التي يستند إليها هذا التعصب سواء كانت هذه القاعدة فكرية أو ثقافية أو عقدية أو تقوم على أساس الجنس لن يقود إلا إلى الفتنة والى الصراع الدامي والعنيف على مستوى تلك الجماعات أو الدول بسبب إعلاء شأن الاختلاف للتمترس تحت مظلته وتبرير استمرار الحرب والعدوان على الآخر، إن الدلائل والشواهد على ذلك كثيرة في تاريخ الصراعات الداخلية داخل المجموعة الواحدة، وأيضاً الصراعات ما بين المجموعات الخارجية أو الصراعات الكونية، فالتطرف والغلو والتعصب مهما كانت قدسية الفكرة أو الثقافة أو العقيدة التي يؤمن بها المتطرف أو المغالي أو المتعصب لن يقود صاحبه إلا في إتجاه واحد وهو الفتنة القاتلة أو الصراع الدامي والعنيف مع الآخر، وإهمال كل مشترك بينه وبين الآخر الذي يمكن أن يمثل حقل تعاون وتوافق بينه وبين الآخر يمكن أن يجنبه الفتنة ويحقق له الكثير من المصالح التي يستحيل على التطرف أو الغلو أو التعصب تحقيقها سواء على المستوى العقائدي أو على المستوى المادي الذي هو أساس التدافع بين البشر والذي فطر الله عليه البشر لتكتمل مكونات الحياة على الأرض ويبعدها عن الفساد، وهل هناك فساد أعظم من فساد الفتنة داخل الجماعة الواحدة ؟!!! أو داخل الجماعات والكيانات والدول المختلفة ؟!!!

لقد وقفت الديانات السماوية جميعها وعلى اختلافها موقفاً واحد موحداً من ظواهر الغلو والتطرف والتعصب ونبذتها ورفضتها وواجهتها عبر كل العصور ودعت إلى إشاعة التسامح بين الناس كافة والدعوة إلى عبادة الله الواحد الأحد ودعت إلى ذلك على أساس الدعـوة الحسنة تنفـيذاً لأمر الله (( وادع إلى سـبيل ربك بالحكمـة والموعظة الحسنة )) (( وجادلهم بالتي هي أحسن )) إن اتباع التوجيهات السماوية السمحة في هذا الشأن يؤدي على مستوى الأفراد إلى الصداقة الحميمة ويؤدي على مستوى الجماعات إلى نمو المصالح المشتركة والمتبادلة وتنمية روح التعاون والتسامح بين الجميع وإن حصر عناصر الاختلاف والشقاق وتضييق مساحات الصراعات المختلفة تسهل السيطرة عليها وتجنب البشرية ويلاتها.

إن قوى التعصب والتطرف والغلو وإن بدت أنها في تناقضات وصراعات فيما بينها إلا أنها في حقيقة الأمر هي متحالفة ومتواطئة ومتواصلة مع بعضها البعض لأن كل واحدة منها تبرر وجود الأخرى، وهي في حقيقتها في جبهة واحدة متحدة ضد قوى التسامح والاعتدال والتعاون والمصالح المتبادلة والمشتركة والتي لا يمكن تحقيقها إلا على قاعدة المساواة والاحترام المتبادل لحقوق الجميع على مستوى أفراد الجماعة الواحدة وعلى مستوى الجماعات المختلفة.

فظاهرة التعصب والغلو ليست مقتصرة على دين معين أو شعب معين أو فكر معين أو زمان معين بعينه ولكنها آفة لا وطن لها ولا دين لها ولا زمان لها ولا بد من نبذها وإن علاج المصابين بها يعدُ ضرورة ملحة لإنقاذ المجتمعات المختلفة من نتائجها الكارثية المدمرة على مستوى أفراد المجتمع الواحد وعلى مستوى الجماعات المختلفة أيضاً.

* مدير عام مكاتب اللجنة الشعبية الفلسطينية

E-mail: pcommety @ hotmail.com - مفتاح 6/12/2007 -

http://www.miftah.org