اللعب الإسرائيلي على الحَبْلين الفلسطينيين!
الموقع الأصلي:
من قبل، كانت إسرائيل تلعب على الـمسارين الفلسطيني والسوري، فكلَّما اسْتَصْعَبَت الحصول على مزيدٍ من التنازل الفلسطيني جَنَحَت لإظهار مزيدٍ من الـمرونة التفاوضية مع سورية، متوقِّعةً أن يفضي ذلك إلى رَفْع منسوب الخوف والقلق لدى الـمفاوِض الفلسطيني، فيضطَّر، بالتالي، إلى إعطائها ما تريد، أو بعضاً منه. الآن، اكتشفت أنَّ اللعب على الحَبْلين، أو الـمسارين، يمكن أن يكون مُجْدياً أكثر إذا ما اسْتُعيض عن دمشق بغزَّة، فهي يمكنها أن تفاوِض عباس في رام الله توصُّلاً إلى "سلام"، وأن تفاوِض، في الوقت نفسه، هنية في غزَّة توصُّلاً إلى "هدنة"؛ أمَّا الخاسِر الأكبر فهو الشعب الفلسطيني وقضيته القومية، وكأنَّ النزاع بين الطرفين الفلسطينيين هو الوقود الذي بإشعالها له يمكن جَعْل عربة السلام الذي تريد تتحرَّك وتتسارع. ولعبة "التفاوض الـمزدوج" هذه إنَّما تقوم على مبدأ تحرسه الولايات الـمتحدة وإسرائيل، وتحرصان عليه كل الحرص، وهو استمرار النزاع بين الطرفين الفلسطينيين ولو في شكل "حرب باردة"، فإسرائيل هي التي تحاوِر وتفاوِض كلا الطرفين ما بقيا ملتزمين، أو مُلْزمين، أن يظلاَّ بعيدين عن حلِّ نزاعهما بالحوار والتفاوض. على أنَّ "الهدنة"، التي قد تبدي إسرائيل مَيْلاً إلى مفاوضة "حماس" في أمرها، مستقبلاً، توصُّلاً إلى جعلها حقيقة واقعة، تحتاج إلى تلبية شرط أمني ــ استراتيجي إسرائيلي في منتهى الأهمية، وهو منعها، أي منع "الهدنة"، من أن تكون طريقاً إلى ابتناء قوَّة عسكرية لـ "حماس" في قطاع غزة شبيهة بالقوَّة العسكرية التي ابتناها "حزب الله" اللبناني في جنوب لبنان. وهذا الشرط يجب أن تلبِّيه مصر في الـمقام الأوَّل، فإسرائيل تريد لحدود مصر مع قطاع غزَّة أن تكون سدَّاً منيعاً في مواجهة هذا "الخطر". وتريد لحدود قطاع غزَّة مع مصر أن تكون تحت سيطرة "قوَّة دولية"، تملك من الرجال والأسلحة والـمعدّات والوسائل، ومن الصلاحيات والسلطات، ما يسمح لها بمنع السلاح والذخيرة من الوصول إلى داخل قطاع غزَّة. وتهيئةً لاتفاق هدنة مع "حماس"، يمكن أن توجِّه إسرائيل ضربات عسكرية إلى "ترسانة الأسلحة" التي تملكها "حماس"، وغيرها، في قطاع غزَّة، فتَقْتَرِن الهدنة، بالتالي، بتقليص حجم تلك "الترسانة". والتوصُّل إلى هذا الاتفاق إنَّما يعني أنَّ "الالتزامات الأمنية" الفلسطينية بموجب "خريطة الطريق" قد نُفِّذت في قطاع غزَّة أيضاً، وإنْ لـم يأتِ تنفيذها هنا من طريق السلطة الفلسطينية؛ كما يعني أنَّ معاناة أهله، والناجمة عن استمرار واشتداد "الحصار (الاقتصادي) الدولي" الـمضروب على قطاع غزة، ستشرع تَقِلُّ وتتراجع. وفي مناخ كهذا، يصبح ممكناً تذليل بعض العقبات من طريق استفادة القطاع وأهله من نتائج "مؤتمر باريس". إنَّ إسرائيل، على ما نتوقَّع، ستحرص كل الحرص على أن يكون اتفاق الهدنة مع حركة "حماس" مقتصراً على قطاع غزَّة الذي تسيطر عليه تلك الحركة منذ منتصف حزيران الـماضي، وعلى أن يكون أيضاً اتفاقاً غير سياسي في محتواه الأساسي، وطويل الـمدى، فهي لها مصلحة جليَّة في أن تدير تفاوضها السياسي مع السلطة الفلسطينية في مناخ من الهدوء والأمن بينها وبين قطاع غزَّة. وإنَّ من الوهم بمكان أن يُعْتَقَد أنَّ إسرائيل ستفاوِض "حماس"، إذا ما فاوضتها، توصُّلاً إلى تضمين اتفاق الهدنة ما من شأنه أن يعيد الوضع في قطاع غزَّة، ولو جزئياً، إلى ما كان عليه قبل منتصف حزيران الـماضي، فهي تريد لهذا الاتفاق أن يلبِّي لها ما تحتاج إليه من الأمن والهدوء هناك، وأن يهيئ، في الوقت نفسه، لـمناخ يسمح باستمرار النزاع بين الطرفين الفلسطينيين بلا حلٍّ. وتذليلاً لعقبة كبيرة من طريق إبرام اتفاقٍ كهذا، قد تبدي إسرائيل استعداداً لعدم اشتراط أن تعترف بها "حماس"، التي في الـمقابل ستبدي معارضة لجعل اتفاق الهدنة على صورة اقتراحها القديم الذي بموجبه تَقْبَل هدنة مدتها عشر سنوات إذا ما لبَّت إسرائيل شروط "الحل السياسي الـمرحلي" الذي تريده "حماس". وهذا إنَّما يعني أنَّ اتفاق الهدنة سيكون أمنياً، أي غير سياسي، وجزئياً، أي يشمل قطاع غزَّة فحسب، وقصير الأجل، أي يستمر حتى انتهاء الـمفاوضات بين إسرائيل والسلطة الفلسطينية، وانتهاء ولاية الرئيس جورج بوش. حتى الآن ليس في الـمواقف الإسرائيلية الـمُعْلَنة ما يشير إلى اتفاق وشيك مع "حماس" على الهدنة، أو التهدئة، فاستمرار الأعمال العسكرية الإسرائيلية في قطاع غزَّة، والـمحسوبة العواقب (السياسية) جيِّداً، هو ما يَشْغُل الحيِّز الأكبر من الخطاب السياسي الرسمي الإسرائيلي. القيادة العسكرية الإسرائيلية تَزْعُم دائماً أنَّ الجيش الإسرائيلي قادر (من الوجهة العسكرية الصرفة) على حل مشكلة "إطلاق الصواريخ" من خلال قيامه بـ "عملية عسكرية برية واسعة"؛ ولكن توقُّعها أن تؤدِّي تلك العملية، التي سيكون شمال قطاع غزة مسرحاً لها، إلى مقتل نحو 100 جندي إسرائيلي هو ما يردع، حتى الآن، الحكومة الإسرائيلية الضعيفة (إسرائيلياً) عن القيام بها. وعليه، ليس من خيار عسكري جيِّد سياسياً بالنسبة إلى تلك الحكومة (حتى الآن) سوى الاستمرار في خوض الحرب عن بُعْد مع تشديد الحصار الـمضروب حَوْل قطاع غزَّة، لعلَّ هذا وذاك يؤدِّيان مستقبلاً إلى اتفاق هدنة (عبر طرف ثالث، أو أطراف ثالثة) يلبِّي، في الـمقام الأوَّل، الشروط والـمطالب الإسرائيلية. وغني عن البيان أنَّ الهدف النهائي للأعمال العسكرية الإسرائيلية، التي هي (في معظمها وجوهرها) من نمط الحرب عن بُعْد، هو جَعْل ترسانة الأسلحة في قطاع غزَّة في أصغر حجم ممكن، فعندئذٍ فحسب يمكن أن يُتَرْجَم اتفاق الهدنة بإجراءات وتدابير أمنية أكثر فاعلية لجهة مَنْع تهريب الأسلحة والذخائر عبر الحدود بين مصر وقطاع غزَّة. إنَّ علاقة إسرائيل بقطاع غزَّة، وإلى أن يتهيَّأ لها من الأسباب ما يَحْمِلها على إبداء اهتمام حقيقي وجاد بأمْر التوصُّل إلى اتفاق هدنة مع "حماس"، ستظلُّ على ما هي عليه الآن من حربٍ عن بُعْد، تَعْنُف وتشتدُّ أكثر فأكثر، ومن حصارٍ يَرْفَع في استمرار معاناة أهله. أمَّا علاقتها بالضفة الغربية فلن تتعدَّى في جوهرها وأساسها "التفاوض الـمستمر في مناخ استمرار الاستيطان"، وكأنَّها تريد للـمفاوِض الفلسطيني أن يعتاد مفاوضتها في مناخٍ كهذا. وتريد لهذا "التفاوض الـمستمر في مناخ استمرار الاستيطان" أن يظل بلا نتائج يُعْتَدُّ بها فلسطينياً بدعوى أنَّ السلطة الفلسطينية لـم تَفِ بَعْد بالتزاماتها الأمنية بموجب "خريطة الطريق" حيث تبسط سيطرتها، أي في الضفة الغربية. حتى نتائج "مؤتمر باريس" لن يُسْمَح لها إسرائيلياً بأن تَظْهَر في الضفة الغربية على هيئة تَحَسُّن مستمر وحقيقي في الحياة الاقتصادية لأهلها، وكأنَّ الهدف الإسرائيلي هو تحويل الوعود والتعهدات الـمالية والاقتصادية في "مؤتمر باريس" إلى وسيلة لـممارسة مزيدٍ من الضغوط على السلطة الفلسطينية حتى تُنَفِّذ من طرف واحد "الالتزامات الـمتبادلة" بموجب "خريطة الطريق"، وبما يرضي الطرف الإسرائيلي، الذي هو الآن غير راضٍ عمَّا يَنْظُر إليه على أنَّه بداية تراجع لإدارة الرئيس بوش عن الخيار العسكري في مواجهة "إيران النووية"، فَلِمَ تُذلِّل إسرائيل العقبات من "طريق أنابوليس" إذا كانت تلك الإدارة عازمة على التراجع عن خيار الحرب ضد إيران؟!. اليوم تريد إسرائيل لـمفاوضاتها مع السلطة الفلسطينية أن تجرى، وأن تستمر، في مناخ استمرار الاستيطان، ومن غير أن تتمخَّض عن نتائج بدعوى أنَّ السلطة لـم تَفِ بالتزاماتها الأمنية تلك، وستحرص على إبقاء نتائج "مؤتمر باريس"، أو معظمها، أو أهمها، حبراً على ورق؛ أمَّا غداً فإنَّها تريد لتلك الـمفاوضات أن تستمر في مناخ "الهدنة (مع قطاع غزَّة)" أيضاً. ويكفي أن تنجح في هذا وذاك حتى يصبح الـمفاوِض الفلسطيني فاقِداً لكل ما يجعله مفاوِضاً حقيقياً لخصمه!. - مفتاح 31/12/2007 - http://www.miftah.org |