نافذة على العقل السياسي الفلسطيني
الموقع الأصلي:
مع نهاية القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين، لم تكن فلسطين قد برزت كقضية صراع بين الحركة الصهيونية والشعب العربي الفلسطيني يدور بين الطرفين بشكل مباشر على أرض فلسطين. فقد كان أهم أعمدة استراتيجية الحركة الصهيونية هو الارتباط مع حليف قوي يهيئ لها الظروف لإقامة دولة يهودية في فلسطين مقابل خدمات تتناسب مع حاجة ذلك الحليف القوي. في تلك الأثناء، كانت فلسطين تشكل جزءاً من الامبراطورية العثمانية، وتحكم مباشرة من اسطنبول. لذلك ركزت الحركة الصهيونية جهودها الدبلوماسية على السلطان العثماني عبدالحميد الثاني للحصول على امتياز للاستيطان اليهودي في فلسطين، فرفض السلطان العروض المالية، ولم يأبه بتخويف اليهود له من طموحات أحفاد محمد علي باشا في مصر، التي ستشكل الدولة اليهودية في فلسطين سدّاً في وجهها. وقد رفض السلطان عبدالحميد كل هذه العروض لأن التفريط في فلسطين سيفقده الأساس الشرعي الذي تقوم عليه خلافته، وهو حماية الأماكن المقدسة في بلاد المسلمين، وتأمين طرق الحج الى مكة. وأخيراً استطاعت الحركة الصهيونية إقامة تحالفها المنشود بينها وبين الحكومة البريطانية، والذي جسده وعد بلفور ،1917 وقد أدارت بمقتضاه بريطانيا ظهرها لتحالفها مع فرنسا، الذي جسدته اتفاقية سايكس بيكو (1916). خلال الحكم العثماني، كان الأعيان (من ذوي المناصب الدينية، ومن نقباء الأشراف، وذوي الملكيات الزراعية) يشكلون عصب الحياة السياسية في فلسطين، فقد كانوا يمثلون صلة الوصل بين السلطة العثمانية الحاكمة وعامة الناس، وكانوا يعملون على تلطيف العلاقة بين الطرفين في حالة الظلم والشطط. بعد احتلال بريطانيا لفلسطين، وفرض الانتداب البريطاني عليها، ظل الأعيان يعتبرون أنفسهم القيادة السياسية الطبيعية في البلاد، وأصبحوا يتعاملون مع المحتل الجديد كما كانوا يتعاملون مع السلطة العثمانية، وتصرفوا بحذر حتى لا يثير استياؤهم من المحتل الجديد حفيظته عليهم. ومع اضمحلال القوة السياسية للأعيان، ظلوا يحتفلون بنفوذهم الاقتصادي والاجتماعي. قبل إعلان بلفور (1917)، أحسن القوميون العرب الظن ببريطانيا، وكان من بين هؤلاء الحاج أمين الحسيني الذي فرّ من الخدمة العسكرية في الجيش العثماني، والتحق بجيش الأمير فيصل الذي كان يحارب الى جانب البريطانيين لطرد الجيش العثماني من فلسطين، وشجع الحاج أمين الحسيني الفلسطينيين الذين تدربوا في الجيش العثماني على الالتحاق بجيش الأمير فيصل بن الحسين. أصبح الحاج أمين الحسيني، بعد شهور من عودته الى القدس، أحد قادة الحركة الوطنية الفلسطينية الناشئة، التي كانت تمارس نشاطها السياسي من خلال ثلاث منظمات، هي: النادي العربي الذي يترأسه الحسيني، مع المنتدى العربي، والجمعية الإسلامية المسيحية. وكانت المنظمات الثلاث تسعى لتحقيق هدف واحد: هو أن الفلسطينيين هم السكان الشرعيون لفلسطين على امتداد 1300 سنة، وأن الصهاينة لا يملكون سنداً شرعياً لادعاءاتهم. ومن أجل فهم أعمق لمواقف الفلسطينيين في صراعهم الطويل ضد المشروع الصهيوني، لا بد من النظر في مجموعة القناعات التي شكلت العقل السياسي الفلسطيني. وأولى هذه القناعات هي أن الفارق في عدد السكان والمساحة الجغرافية يشكل عامل الحسم في الصراع ضد الحركة الصهيونية. والقناعة الثانية، هي أن العرب سوف يهبّون هبّة رجل واحد في مواجهة المشروع الصهيوني. وقد أدت هاتان القناعتان الى اتكالية فلسطينية على الأشقاء العرب غير قائمة على أسس موضوعية، بل على مشاعر عاطفية تعود الى تقاليد قبلية، لا مجال لتحقيقها في ظل نظم سياسية جديدة خاضعة للنفوذ البريطاني. أما القناعة الثالثة فقد جسدت مفهوم الوطنية في عملية التضحية بغض النظر عن حسابات الربح والخسارة من وراء هذه التضحية. وقامت القناعة الرابعة على أن الصراع العسكري ضد المشروع الصهيوني هو عملية كرّ وفرّ، أي ما نخسره اليوم سوف نستردّه في الغد. أما القناعة الخامسة فقد تمثلت في التطهّر الوطني المتمثل في تحريم المفاوضات السياسية لأنها تخضع المبادئ المثالية للمساومة. فوجئ الفلسطينيون خلال حرب ،1948 بعدد من الوقائع التي ما كان لها أن تفاجئهم لو كانوا على وعي بما يدور حولهم وما يدبّر لهم. فلم يسمح لهم بالمشاركة في تلك الحرب، ولم تتوافر لهم الفرصة لتقرير مصيرهم بأنفسهم. فقد هزمت الجيوش العربية، وفاوضت الحكومات العربية “إسرائيل” في ظل الهزيمة. واتفقت مع “إسرائيل” في رودس (1949) على ما تسمى اليوم حدود الرابع من يونيو/ حزيران 1967. ومنذ ذلك التاريخ سيطرت الشكوك المتبادلة على العلاقة بين الفلسطينيين والأنظمة العربية، حيث أصبحت الحكومات العربية تنظر الى الفلسطينيين على أنهم عامل عدم استقرار في المنطقة، وأصبح الفلسطينيون ينظرون الى الحكومات العربية على أنها عامل كبح لسعيهم لتحرير أرضهم. وفي ظل هذه الظروف افتقد الفلسطينيون القدرة على اتخاذ القرار السياسي الموحد. وأصبح كل ما يجري بينهم هو من مضاعفات هذا العجز. الخليج 11/1/2008 - http://www.miftah.org |