في ذكرى ميلاده التسعين: عبد الناصر والقضية الفلسطينية
بقلم: محمود كعوش
2008/1/16

الموقع الأصلي:
http://www.miftah.org/display.cfm?DocId=8507


تقرر أن تشهد القاهرة بدءاً من الخامس عشر من يناير/ كانون الثاني الجاري ولثلاثة أيام متواصلة مؤتمراً رسمياً وشعبياً عن حياة وفترة حكم الرئيس المصري الأسبق والقائد التاريخي جمال عبد الناصر، في ضوء المتغيرات العربية والإفريقية والدولية. ويأتي هذا الحدث الهام في إطار سلسلة من المهرجانات والمؤتمرات والندوات التي تشهدها العاصمة المصرية والعديد من العواصم العربية الأخرى، احتفالاً بالذكرى التسعين لمولد الزعيم، الذي قاد ثورة 23 يوليو/ تموز 1952 ووضع خاتمة نهائية لقرن ونصف من حكم أسرة محمد علي الاستبدادي في مصر وفتح آفاق الحرية للشعب العربي بطول الوطن العربي وعرضه، ولكثير من شعوب الدول النامية على مستوى القارات الخمس. ويفترض أن يضم مؤتمر القاهرة، الذي تشرف على تنظيمه ثلاث جهات مصرية هي "المجلس الأعلى للثقافة" و"دار الكتب والوثائق القومية" و"الجمعية المصرية للدراسات التاريخية"، أحد عشر جلسة بحثية تناقش قضايا حيوية مثل "عبد الناصر وفكرة الثورة" و"عبد الناصر والقوى السياسية" و"عبد الناصر والعرب" و"عبد الناصر والقوى الغربية" و"عبد الناصر وإفريقيا" و"عبد الناصر والبعث والوحدة" و"عبد الناصر والأزمة اللبنانية" و"عبد الناصر واليمن وتحرير الجزيرة العربية" و"المكون الاقتصادي لثورة يوليو" و"عبد الناصر والقوى الاجتماعية" و"ثورة يوليو والأزهر" و"المرأة في سياسات عبد الناصر" و"الثقافة والتعليم والأدب والفن في عهد عبد الناصر".

وكان الرئيس المصري حسني مبارك قد أصدر في الثالث من يناير/ كانون الثاني الجاري قرارا قضى بتحويل منزل جمال عبد الناصر في "منشية البكري" بالقاهرة إلى متحف يتناول تاريخ الراحل الكبير ويوثق إنجازاته المحلية والخارجية وعلاقاته العربية والإقليمية والدولية. هذا وشكلت وزارة الثقافة المصرية مجموعة عمل ضمت خبراء آثار وفنيين ومؤرخين للشروع في تنفيذ القرار. وبما أن عناوين القضايا الحيوية التي ستناقشها الجلسات البحثية الأحد عشر لمؤتمر القاهرة لم تشر إلى علاقة عبد الناصر بالقضية الفلسطينية تحت عنوان مستقل هو "عبد الناصر والقضية الفلسطينية"، ولا المهرجانات والمؤتمرات والندوات الأخرى التي من المقرر عقدها في عواصم عربية أخرى عديدة كذلك، ارتأيت أن يقتصر حديثي في ذكرى ميلاد قائد الأمة هذا العام على هذه العلاقة، خاصة وأن الرجل عاش من أجل هذه القضية والشعب الفلسطيني وقضى وهو يدافع عنهما.

صحيح أن عبد الناصر هو القائد العربي الذي دعا إلى عقد مؤتمرات القمة العربية من أجل القضية الفلسطينية منذ عام 1964 واستمر في تبنيها حتى رحيله في عام 1970. لكن الصحيح أيضاً أن علاقته بهذه القضية، التي تصدرت على الدوام أولوياته القومية باعتبارها قضية العرب المركزية، عادت إلى فترة مبكرة جداً من حياته العسكرية والسياسية.

فبعد صدور قرار تقسيم فلسطين في التاسع والعشرين من تشرين الثاني عام 1947 تشكلت لدى جمال عبد الناصر قناعة مفادها "أن ما يحدث في مصر وما يحدث في فلسطين هو جزء من مخطط استعماري يستهدف الأمة العربية كلها". وانتقلت تلك القناعة إلى إخوانه من الضباط الأحرار، بحيث استقر رأيهم منذ اجتماعهم الأول على ضرورة مساندة المقاومة الفلسطينية من خلال الانضمام إلى فرق المتطوعين العرب التي كانت قد بدأت تتشكل في العاصمة السورية دمشق وعواصم ومدن عربية أخرى كثيرة.

وعندما أنهت بريطانيا انتدابها على فلسطين وأظهرت انحيازاً فاضحاً إلى جانب الصهاينة في عدوانهم السافر والمتواصل على الفلسطينيين، رأى عبد الناصر أن لحظة الدفاع عن الحقوق العربية قد أزفت لأن ما حدث في فلسطين مثل انتهاكاً صارخاً للعدالة الدولية والكرامة الإنسانية في آن معاً. وأتبع ذلك بخطوة عملية تمثلت بطلب الحصول على إجازة من الجيش المصري ليتمكن من الانضمام إلى صفوف المتطوعين. لكن شاءت الصدفة أن تأمر الحكومة المصرية الجيش بالتحرك العاجل للمشاركة في حرب الدفاع عن عروبة فلسطين قبل أن يُبت بذلك الطلب. وكان لعبد الناصر ما أراد، فخاض غمار تلك الحرب وتردد اسمه بشكل مدو في معارك أسدود والنقب وعراق المنشية، كما اكتسب شهرة كبيرة في حصار الفالوجة. وتقديراً لبطولاته وتميزه في ساحات الوغى وتقديراً لوطنيته، منحته القيادة وسام النجمة العسكرية.

واستناداً لما جاء في "فلسفة الثورة" و"الميثاق الوطني" فإن عبد الناصر بعدما اكتشف أمر الأسلحة الفاسدة وعرف الطريقة التي كان يتم بها تسيير المعارك وانتبه إلى أن القيادة العليا للجيش المصري كانت تهتم باحتلال أوسع رقعة أرض ممكنة من فلسطين دون النظر إلى قيمتها الإستراتيجية أو إلى أثرها في إضعاف مركز الجيش، وسع من دائرة نشاطاته في تنظيم الضباط الأحرار.

وأثناء حصار الفالوجة تولدت لدى عبد الناصر قناعة راسخة بأن الحصار لم يكن يقتصر على تلك البلدة الصغيرة أو فلسطين أو قطر عربي بعينه وإنما كان يشمل الوطن العربي كله من المحيط إلى الخليج، الأمر الذي ولد لديه قناعة موازية مفادها أن "المواجهة الحقيقية للاستعمار والصهيونية والرجعية العربية إنما تبدأ في الحقيقة من داخل الوطن".

وعلى ضوء ذلك خلص عبد الناصر وإخوانه من الضباط الأحرار إلى أن "القاهرة حيث الانتهازيون وعملاء الاستعمار يتاجرون بالقضية الفلسطينية ويشترون الأسلحة الفاسدة للجيش المصري هي نقطة البداية وليست فلسطين"، وهو ما يستدعي القول منا دون تردد أو حرج أن "حرب فلسطين 1948 بما ترتب عليها من نتائج وإفرازات وإرهاصات أسهمت إسهاماً كبيراً ومباشراً في قيام ثورة 23 يوليو/ تموز 1952 المجيدة، إلى جانب عوامل أخرى عديدة خاصة بمصر". عُرف عن عبد الناصر وقوفه بثبات وصلابة إلى جانب الثورة الفلسطينية المسلحة التي اعتبرها أنبل ظاهرة في الأمة العربية، وتصديه بعزم وإصرار لخصومها الداخليين وأعدائها الخارجيين. وكما هو معروف فإنه أشرف على توقيع "اتفاقية القاهرة" بين منظمة التحرير الفلسطينية والحكومة اللبنانية في نوفمبر/ تشرين الثاني 1969 حفاظاً على الثورة الفلسطينية واستمرار مسيرتها النضالية.

وأثناء أحداث أيلول 1970 في الأردن لم يدخر عبد الناصر جهداً إلا وبذله من أجل وقف تلك الأحداث المريعة والمرعبة. وحتى يضع حداً لنزف الدم الأخوي الأردني ـ الفلسطيني دعا إلى عقد مؤتمر قمة عربي استثنائي انتهى إلى توقيع اتفاقية جديدة بين منظمة التحرير الفلسطينية والحكومة الأردنية، سُميت هي الأخرى "اتفاقية القاهرة".

وبعد توقيع تلك الاتفاقية ووداعه القادة العرب اطمأن على الثورة الفلسطينية وخفق قلبه الكبير بحبها لآخر مرة وتوقف يوم الثامن والعشرين من سبتمبر/ أيلول 1970 . رحم الله جمال عبد الناصر القائد والأب والأخ والرفيق. لقد عاش للقضية الفلسطينية والشعب الفلسطيني وقضى شهيداً من أجلهما. نفتقدك. كم نفتقدك!! Kawashmahmoud@yahoo.co.uk - مفتاح 16/1/2008 -

http://www.miftah.org