تداعيات فتح الحدود مع غزة على علاقات مصر الإقليمية
بقلم: عبدالله الأشعل
2008/1/31

الموقع الأصلي:
http://www.miftah.org/display.cfm?DocId=8621

لا جدال في أن مصر استجابت للتيار الجارف الذي انفتحت جدرانه على الحدود بينها وبين غزة، لأنها اصبحت المنفذ الوحيد إلى الحياة بالنسبة للفلسطينيين، بعد أن حاصرتهم إسرائيل في البحر والجو والأرض، ومنعت عنهم سبل الحياة أملاً في إفنائهم. وأعلنت إسرائيل صراحة أنها لا تقصد إفناء الفلسطينيين لذاته، ولكنها تريد أن تضغط بهذه الإجراءات على غزة حتى تتخلى عن «حماس»، وبذلك يمكن إجراء التسوية مع أبو مازن من دون اعتراض «حماس»، بعد إضعافها بحيث لا تعود طرفاً عسكرياً أو سياسياً، فيضطر أبو مازن إلى الانطلاق من الأمر الواقع، وتحصل إسرائيل منه بصفته الشرعية على ما تريد في هذه المرحلة. ومن الواضح أن إسرائيل قدرت أن الخلاف بين «حماس» وأبو مازن ليس خلافاً على السلطة، وإنما هو خلاف على شروط التسوية معها، حيث تؤمن «حماس» بتلازم المقاومة والسياسة، ويؤمن أبو مازن بأنه لا يمكن الجمع بينهما، وأن مقاومة إسرائيل هي نطح في الصخور. ولكن تجاوب مصر مع انفجار الشعب الفلسطيني في غزة لا يقلل من أهمية إعلان القاهرة بقوة أنها لن تسمح باستمرار عذابات الشعب الفلسطيني على يد إسرائيل، ولهذا دعت الى رعاية الحوار بين «فتح» و «حماس» في العاصمة المصرية، ما أزعج إسرائيل والولايات المتحدة لأنهما استراحتا إلى تراجع مصر الدائم في هذا الملف. ولا جدال أيضاً أن هذا الموقف اكسب مصر سمعة طيبة في العالم العربي، كما اكسب الرئيس مبارك أرضية واسعة خصوصاً عند «الإخوان المسلمين»، الذين لمسوا تعاون الأمن معهم للمرة الاولى في إشارة لا تخفى على أرضية التقارب. وانطلقت التكهنات بين إسرائيل وأميركا حول إذا ما كان الموقف المصري يمثل بداية لعودة مصر كقوة إقليمية، أم أنه مجاراة وانجراف مع تيار الانفجار الفلسطيني، وهذه قضايا ترفية أمام تعقيدات الموقف الحالي. والذي يهمنا هنا هو بحث مستقبل العلاقات المصرية مع إسرائيل والولايات المتحدة والجانب الفلسطيني والعالم العربي في ضوء ما حدث.

يمكن أن نتصور عدداً من الاحتمالات خصوصاً في ضوء العامل الثابت الأساسي المحرك لكل هذه التفاعلات، وهو أن مقتضيات المشروع الصهيوني خلال هذه المرحلة تتلخص في القضاء على «حماس»، أو إحراق أوراقها عن طريق دفعها إلى تنازلات تفقدها شعبيتها، والإصرار على توظيف أبو مازن في هذه المهمة، واستخدام كل وسائل الضغط والإبادة في إطار الهدف النهائي للمشروع، والسعي منذ الآن نحو تأكيد الهوية اليهودية للدولة الإسرائيلية ما يؤدي إلى فتح منافذ جديدة لتهجير الفلسطينيين من عرب 48 داخل إسرائيل. ولكن العامل الظاهر الذي يعكس هذه الحقائق أمامنا هو إغلاق غزة على سكانها وعلى «حماس»، واستمرار أعمال الإبادة العسكرية والحياتية. ولكن هذا الموقف وصل إلى درجة دفعت سكان غزة إلى تنفيس احتقانهم والتماس الحياة في الأراضي المصرية، ما يعني أن منع مصر لهم سيكون مشاركة في الخطة الإسرائيلية، بل إن استمرار الضغط الإسرائيلي بهذه المستويات العالية سيؤدي إلى فتح الحدود بالكامل، ولن يقتصر الأمر على المعابر، ما يجعل غزة جزءا من الأراضي المصرية. هذا الاحتمال الأكيد تريده إسرائيل لكي تحقق ثلاثة أهداف: الأول للإيحاء بأن مصر عاجزة عن ضبط حدودها مع فلسطين، ومن ثم فلا بد من احتلال إسرائيل لمنطقة الحدود لتوفر الامن بنفسها. الهدف الثاني خلق بيئة مناسبة لكي تقوم إسرائيل بأعمال إرهابية وتنسبها إلى مصر، وكذلك العبث بالأمن في سيناء حتى يقال إن إسرائيل أولى بالسيطرة على سيناء لاعتبارات أمنية، فتنقل إليها ملايين الفلسطينيين تنفيذاً لمشروع الدولة اليهودية. أما الهدف الثالث، فهو إتاحة الفرصة لإسرائيل للقيام بعمليات عسكرية في منطقة الحدود من الجانب المصري بحجة تعقب الإرهاب داخل مصر، وهذه النظرية المعروفة باسم المطاردة الحثيثة على الأرض HOT PURSUIT سبق أن طبقها النظام العنصري في جنوب إفريقيا في تعقبه لعناصر حركات التحرر في الدول المجاورة. وليس مستبعداً أن تفكر إسرائيل جدياً في إحراج مصر قريباً، وذلك بالقيام بعمل عسكري أو تنفيذ اغتيالات في رفح والعريش بين صفوف الفلسطينيين ما لم يتم إعادتهم جميعاً إلى غزة، وإغلاق الحدود تماماً أمامهم. من الواضح أيضاً أن هروب الفلسطينيين من خطة الموت الإسرائيلية يفشل هذه الخطة على الأقل في أحد جوانبها، وإن كانت إسرائيل تستغل هذه الحالة بتكثيف عملياتها لاغتيال بعض القيادات داخل الأراضي المصرية، وبذلك تضع مصر في مأزق وتدفعها إلى أحد أمرين: إما السكوت وابتلاع الإهانة، وإما الرد ليزيد ذلك من التعقيد بين مصر وإسرائيل وبالتبعية بين مصر والولايات المتحدة. ولذلك فإن الحل الجذري لهذه المشكلات مستحيل في مواجهة المشروع الصهيوني، ذلك أن التعامل مع هذا المشروع بالقطعة، كما أرادت إسرائيل، هو الذي أدى إلى هذا الموقف. وإذا تراجعت مصر هذه المرة، فإن هذا التراجع يضع القيادة المصرية في مأزق أكبر بين الشارع المصري والعربي من ناحية وبين إسرائيل والولايات المتحدة من ناحية أخرى. اما عدم التراجع فقد يؤدي إلى احتكاك عسكري بين مصر وإسرائيل. من ناحية أخرى فإن تراجع مصر في هذا الظرف سيسمح للمشروع الصهيوني بالاستمرار، ما سيؤدي في نهاية المطاف إلى فقدان سيناء، ولذلك فإن مصر يجب أن تراجع الملف بأكمله وستجد مساندة كاسحة من العالم العربي. وإذا أصبحت القاهرة في مقدمة المتصدين للمشروع الصهيوني، فستنضم إليها هذه المرة إيران، ما يؤدي إلى إعادة رسم خريطة الشرق الأوسط، والحاق هزيمة كاملة بالمشروع الأميركي، وإعادة الحسابات على مستوى القوى الكبرى، ما يثبت أن مصر هي عصب السياسات العالمية، ويعيد إلى الأذهان القفزات الكبرى في تاريخها كما كان في عهدي محمد علي وجمال عبد الناصر. والطريق واضح وعلى مصر أن تختار بين الذلة والانكسار والتراجع ورهن الأجيال المقبلة وضياع أرضها، أو نفض الغبار وتصحيح الموقف لكي تعتدل قامتها السامقة في المنطقة وفي العالم.

فإذا اختارت مصر طريق التراجع فإنها تسهل ضياع سيناء، أما إذا اختارت الطريق الآخر فيجب أن تدرس التحديات المتصلة به، والاحتمال الأقوى هو أن تعترضها الولايات المتحدة. وعلى مصر أن تراجع ملف العلاقات المصرية - الأميركية ما دامت السياسة الأميركية في جميع المجالات الإقليمية تعمل ضد المصلحة المصرية.

http://www.miftah.org