كيف نفهم تعاطي إسرائيل مع "التهدئة"!!!
بقلم: علي جرادات
2008/3/10

الموقع الأصلي:
http://www.miftah.org/display.cfm?DocId=8913

سرعة التعاطي الإسرائيلي مع محاولات إحراز تهدئة للتصعيد في غزة، عبر التفاعل مع التحرك المصري، تثير مِن الأسئلة ما لا يكفي لتفسيرها بأن التحرك المصري جاء بالتنسيق مع رئاسة السلطة الفلسطينية، واجتماع وزراء الخارجية العرب وجهات دولية، خاصة واشنطن والاتحاد الأوروبي.

كما لا تثير تلك الأسئلة افتراض أن الحكومة الإسرائيلية لا تريد تهدئة، بل لأن سرعة التعاطي الإسرائيلي تبدو وكأنها مخالفة لقرار "المجلس الأمني المصغر" باستكمال العدوان، الذي لم يتم الإعلان عن انتهائه، ولأن مِن شأن هذه السرعة أن تظهر أن العدوان الإسرائيلي الأخير على غزة قد فشل، وأن المقاومة الفلسطينية قد انتصرت، وما الى ذلك من استنتاجات يمكن أن تترتب على سرعة التعاطي الإسرائيلي مع الجهود الرامية لإحراز تهدئة. وهنا يثور سؤال: ترى لماذا هذا التعاطي الإسرائيلي السريع مع جهود احراز تهدئة؟!!!

في إطار التفسير، ومحاولة الفهم، قد يقال: إن واشنطن قد ضغطت على تل أبيب أو أعطتها ضوءاً أخضر للتعامل مع الجهد المصري لـ"تهدئة" الأوضاع التي أشعلتها عملية "الشتاء الساخن" الإسرائيلية البربرية، كعملية برية تكتيكية نفذها لواء من الجيش الإسرائيلي ضد شمال غزة، بالترافق مع غارات جوية مكثفة وموجعة شنها سلاح الجو الإسرائيلي في مناطق غزة كافة.

وقد يقال: لقد لعبت تحركات الضفة الجماهيرية التضامنية مع غزة، فضلاً عن وقوع العملية العسكرية في المعهد الديني اليهودي في القدس، دوراً في تسريع قبول الحكومة الإسرائيلية بالتعامل مع الجهد المصري لإحراز تهدئة للأوضاع المشتعلة في غزة، أي خشية أن تكون تلك التحركات الجماهيرية في الضفة، كما العملية العسكرية في القدس، بمثابة شرارات لإشعال هبّة جماهيرية فلسطينية يمكن لها أن تتحول الى ما هو أوسع، في حال استمر التصعيد العسكري الإسرائيلي البربري في غزة.

وقد يقال: لقد لعب قرار الرئاسة الفلسطينية بتعليق المفاوضات والاتصالات مع الحكومة الإسرائيلية، دوراً في قبول الحكومة الإسرائيلية تسريع التعامل مع الجهد المصري لإحراز تهدئة للتصعيد العسكري، ذلك أن تعليق المفاوضات يمكن أن يغدو وقفاً لها في حال تصاعد الوضع الميداني وخرج عن السيطرة، الأمر الذي يُفقد حكومة أولمرت ورقة التغطية السياسية على استمرار تكريسها للحقائق على الأرض، في ظل مفاوضات تراوح مكانها، ولا تقدم إسرائيل فيها شيئاً يذكر.

وقد يقال: إن العوامل الآنفة الذكر كافة، وعوامل أخرى من طرازها، قد أفضت الى تسريع قبول الحكومة الإسرائيلية بالتعاطي مع الجهود الرامية لإحراز تهدئة مرتقبة، غير أنني أعتقد أن هذه التفسيرات على أهميتها، وعلى ما فيها من صوابية بهذا القدر أو ذاك، إلا أنها تبقى في إطار التفسير السياسي الصحافي التكتيكي للموقف الإسرائيلي، فيما المطلوب برأيي، الذهاب الى ما هو أبعد وأعمق، والى ما هو أكثر استراتيجية في الموقف الإسرائيلي المدعوم أميركياً، ذلك لأن:

أولاً: التعاطي الإسرائيلي مع جهود احراز تهدئة لا يعني أن الحكومة الإسرائيلية تخلت عن شروطها لمثل هذه التهدئة، بل يندرج في اطار تكامل جهدها الديبلوماسي والعسكري لفرض شروط تريدها، ويكون من الأفضل لها لو أنها حققتها بلغة السياسة الديبلوماسية.

ثانياً: التعاطي الإسرائيلي مع جهود احراز تهدئة لن يقتصر على قضية الصواريخ، التي يذهب الإسرائيليون لنقاشها تحت تهديد إعطاء الجيش الإسرائيلي قراراً باستكمال العمليات العسكرية لوقفها، بل سيشتمل أيضاً على قضايا المعابر وتهريب الأسلحة والجندي جلعاد شاليت.

ثالثاً: التعاطي الإسرائيلي مع جهود احراز تهدئة لا يجري مباشرة مع "حماس"، بل مع المصريين، بما يعني عدم تخلي الحكومة الإسرائيلية عن قرار اعتبار غزة "كياناً معادياً"، كما أن التعاطي الإسرائيلي مع جهود احراز تهدئة، لا يجري مع الرئاسة الفلسطينية، وإن كانت على الخط من خلال التنسيق مع المصريين، بما يعني أن الحكومة الإسرائيلية لم تعد تتعامل مع السلطة الفلسطينية كصاحبة ولاية جغرافية موحدة في الضفة وغزة، بل بما يكرس الانفصال القائم بينهما. وهذا ينطوي على اعتبار أن مفاوضات ما بعد "أنابوليس" مع الرئاسة الفلسطينية، هي (واقعياً) مفاوضات حول الضفة فقط. وفي هذا تكريس لعدم وجود طرف فلسطيني واحد، بل طرفين، ما يعيد للذهن إصرار الإسرائيليين بدعم أميركي، على التفاوض مع كل طرف عربي على حده، وعلى أن يكون التمثيل الفلسطيني ضمن الوفد الأردني في مؤتمر مدريد 1991.

ما تقدم يشير الى ضرورة عدم التسرع في بناء الكثير من الاستنتاجات على سرعة التعاطي الإسرائيلي مع جهود احراز تهدئة للتصعيد الجاري في غزة، بل ويشير الى ضرورة التبصر أكثر، وعدم الفصل بين سرعة التعاطي الإسرائيلي مع جهود احراز تهدئة في غزة، وبين الأبعاد الاستراتيجية لراهن السياسة الأميركية الإسرائيلية المشتركة، التي لا تقتصر على ما أشرنا اليه سابقاً فقط، بل تتخطاه الى ما هو أبعد، ولا يمكن القبض عليه، بغير رؤيته ضمن ما تخطط له على صعيد المنطقة عموماً. فغزة، على أهمية ما تحظى به من اهتمام أميركي إسرائيلي، هي جزء من استحقاقات، وليست كل الاستحقاقات، التي تتطلب الحسم في أروقة التخطيط الأمني الاستراتيجي الأميركي الإسرائيلي المشترك، وهي (غزة) بهذا المعنى، ووفق ما تشير اليه تعليقات المحللين الأمنيين الإسرائيليين، ليست الأولوية الأولى في جدول الحرب الإسرائيلية، رغم ما وقع ضدها من اجتياح بري تكتيكي بري، بل هي آخر الاستحقاقات، ويسبقها، وإن بترابط معها، التحدي الإيراني، ثم تحدي الجبهة الشمالية، والتشابك القائم فيها بين سورية والمقاومة اللبنانية، التي أعتقد، أنها، وليس غيرها، ما يقض مضاجع مركز القرار السياسي والعسكري الإسرائيلي، وأنها المرشحة لنيران حربٍ محتملة، ربما تكون وشيكة، وقد تتحول الى حرب اقليمية تكون إسرائيل منصة اطلاقها، على أن لا يستبعد أحد اشتعالها في عهد بوش، وقد تأخذ اسم الشتاء القارس او الربيع الزاهر او الصيف الحار. وتأتي المحاولات الأميركية الإسرائيلية لـ "تهدئة" غزة من أجل التفرغ لها.

والحال؛ تغدو مفهومة، سرعة التعاطي الإسرائيلي، (بتشجيع أميركي)، مع جهود احراز تهدئة في غزة، ستعمل تل أبيب على عقدها وفق شروطها، وبما يضمن تكريس وجود طرفين فلسطينيين، وإبقاء الفصل القائم بين غزة والضفة، وبما لا يجعل هنالك فرق بين احراز هذه التهدئة من خلال الجهد الديبلوماسي الجاري، أو من خلال الجهد الديبلوماسي ذاته، إنما بعد المزيد من الضربات الجوية والاجتياحات البرية التكتيكية البربرية، في حال عدم حصول الإسرائيليين على شروطهم لهذه "التهدئة".

خلاصة القول: في تفسير السلوك العسكري والسياسي الإسرائيلي، هنالك ضرورة لرؤية الأمور فيما هو أبعد مما يتخذه من مواقف ديبلوماسية، وما يشنه من عمليات تكتيكية هنا أو هناك، هي، كما قلت في مقالة سابقة، ليست سوى أشجار في غابة (حرب)، قد تطل على المنطقة، وتشتعل في مكان وزمان، تحددهما جملة عوامل، يقع في مقدمتها: استكمال الاستعدادات، والتبصر في السيناريوهات، ومحاولة كسب أكبر قدر من التحالفات، وتحييد أكبر قدر من الأعداء القائمين والمحتملين.

الايام

http://www.miftah.org