صورة تحليلية للحالة الفلسطينية
الموقع الأصلي:
في الوقت الحاضر، يتكون المشهد الفلسطيني الظاهري من صورتين متقابلتين، تعبران عن مواقف متصادمة لمشروعين، يبدو وكأن كلا منهما يكبح الآخر. اما المشهد العربي الظاهري، بكل اتجاهاته، فيمارس هو الآخر لعبته التي تتمثل في محاولة تبرئة نفسه من الانقسام الفلسطيني، وكأنه لا علاقة له بهذا الانقسام، فينصح ويرشد دون ان يحرك ساكنا، ويناشد الاخرين لنجدة الفلسطينيين، بالقدر الذي يهدئ غضب الشعوب العربية. يبدو العنوان كأحجية يتعذر حلها، وهذا يتطابق مع قضية فلسطين التي تحولت الى احجية في غياب العقل العربي، فما هي قضية فلسطين كشأن يهمنا نحن العرب؟ ان قضية فلسطين ذات بعدين متلازمين، هما البعد القومي الذي شابه التقصير، بسبب سهولة المهمة ووفرة الامكانيات، والبعد الوطني الذي شابه القصور، بسبب ثقل المسؤولية وقلة الامكانيات. ومن حيث الاداء على الارض، يمكننا ان نرمي الشعوب العربية بالاستخفاف بالتحدي الصهيوني، ونرمي الشعب الفلسطيني بالاتكالية في مواجهة هذا التحدي. في الوقت الراهن، يتجلى البعد الوطني لقضية فلسطين في مشهدين: المشهد الاول يتعلق بالمقدسات الاسلامية والمسيحية، ويحتوي القدس والضفة الغربية، فلا قدس عربية بلا ضفة غربية، ولا ضفة غربية عربية بلا قدس. اما المشهد الثاني فيحتوي الفلسطينيين المعذبين في نطاق الاحتلال الاسرائيلي في الاراضي الفلسطينية، ويمثل قطاع غزة اوضح الصور لهذا العناء الذي يتجاوز طاقة البشر على التحمل، ويلطخ المثل الانسانية في القرن الحادي والعشرين. في ظل الظروف الاقليمية والدولية الراهنة، فان الحل السياسي لقضية فلسطين في العملية الدائرة حاليا، من مفاوضات ومؤتمرات، يشكل جزءا من الاستراتيجية الاميركية في منطقة الشرق الاوسط، ويقوم على قاعدة تثبيت الاستقرار، في كل من مصر والاردن ودول مجلس التعاون الخليجي، والعراق الى حد ما. وان المفاوضات الجارية بين السلطة الوطنية الفلسطينية واسرائيل هي عملية مساومة على التفاصيل، وليست هي التي تقرر قيام السلام او عدمه، ومن هنا نتبين ان الدعم الذي يقف وراء السلطة الوطنية الفلسطينية ليس هو حركة فتح والتنظيمات الفلسطينية المؤتلفة معها، وانما يتمثل هذا الدعم في درجة غضب او رضى الشعوب العربية عن السياسة الاميركية في الشرق الاوسط، والمنطقة العربية بالذات. يشكل قطاع غزة الصورة الاخرى من المشهد الفلسطيني، وتبدو حركة حماس في صدر هذه الصورة، فهي التي تقوم بالمواجهة المسلحة ضد اسرائيل، بما يترتب على هذه المواجهة من تبعات في الداخل والخارج ، وهي التي تتولى الحكم، فتمارس السلطة والمحافظة على الامن، ولكنها قاصرة عن توفير الظروف المعيشية العادية للسكان بسبب الحصار الاسرائيلي. ولديها حدود ملتهبة مع اسرائيل، وحدود غير مستقرة مع مصر، وعلاقة غير حميمة مع الاردن، ولا تتطابق مواقفها السياسية في الشأن الفلسطيني مع الاجماع العربي والاجماع الاسلامي المتمثلين في جامعة الدول العربية ومنظمة المؤتمر الاسلامي. كما انه لا تتوفر لها الظروف لاقامة روابط سياسية واقتصادية عادية مع المجتمع الدولي. وبالنظر الى تحالفاتها القائمة، فليس في طاقة حماس ان تشن حربا عامة على اسرائيل الا باشتراك سوريا وايران وحزب الله في هذه الحرب، كما انه ليس باستطاعة حماس ان تحقق السلام مع اسرائيل دون عودة مرتفعات الجولان السورية، واصلاح العلاقة بين ايران والولايات المتحدة الاميركية. نعود الان الى قضية فلسطين ذات البعدين القومي والوطني المتلازمين، ففي البعد القومي لم يكن العثمانيون قد وضعوا حدوداً لفلسطين قبل ان يحتلها الجنرال البريطاني ادموند اللنبي «1917-1918»، حيث كانت تشكل اقليماً عربياً غير محدد سياسياً، وكان سكانها من رعايا الدولة العثمانية العرب. وان حدود فلسطين «الانتداب» قد جرى تخطيطها بعد الحرب العالمية الاولى نتيجة مساومات دارت بين كل من بريطانيا وفرنسا والحركة الصهيونية. ولم يذكر تصريح بلفور «1917» الفلسطينيين بالاسم، ولم يعطهم صفة المواطنة، وانما اشار اليهم كجماعة غير يهودية، وهكذا فإن بريطانيا قد احتلت جزءاً من ديار العرب واقتطعته واطلقت عليه اسم فلسطين، ومن هنا بدأت النكبة في مستواها القومي. وفي البعد الوطني، دافع الفلسطينيون ببسالة عن حقوقهم الوطنية في مسلسل الثورات «1936-1939» التي انتهت بكارثة، فقد كان ميزان القوى بين القوات البريطانية واليهودية المتحالفة وبين الثوار الفلسطينيين يمثل نسبة 20: 1، وقد نتج عن هذا التفاوت في عدد القوات وتسليحها وتدريبها ان سقط 5 آلاف شهيد و10 آلاف جريح، وبلغ عدد المعتقلين 5697 معتقلاً، بالاضافة الى آلاف المنفيين، ولحق بهذه الخسائر الانهيار الاقتصادي، والعطب الذي اصاب النسيج الاجتماعي، وقد حدث هذا كله في غياب الدعم القومي لحرب هي في حقيقتها قومية. يمكننا ان نصنف غياب الدعم العربي بأنه نوع من التقصير، ولكن حضور الدعم الحكومي العربي في مرحلة لاحقة شكّل جريمة قومية، لانه كان يتم وفق الارادة البريطانية بأيدي عربية، فقد تم منع الفلسطينيين من السيطرة العسكرية او السياسية من قبل اشقائهم العرب على اي شبر من فلسطين منذ 15/5/1948، وما قبله، فقد شكلت الجامعة العربية لجنة فنية عسكرية برئاسة طه الهاشمي «سياسي عراقي وعسكري سابق» في كانون الاول 1947، وكان مركزها دمشق، وشكلت هذه اللجنة «جيش التحرير العربي» الذي كان تعداده ثلاثة آلاف جندي كان من بينهم خمسمائة فلسطيني فقط، واوكلت قيادته الى الضابط اللبناني فوزي القاوقجي، الذي كانت مرجعيته اللجنة الفنية التابعة للجامعة العربية. اما الجيوش العربية التي دخلت الى فلسطين في 15/5/1948 فكانت بإمرة حكوماتها، كان هذا من الناحية العسكرية، اما من الناحية السياسية فقد رفضت الجامعة العربية الموافقة على تشكيل حكومة فلسطينية، وعندما عقد مؤتمر فلسطيني في غزة التي كانت تحت السيطرة العسكرية المصرية التامة في 1/10/1948 برئاسة الحاج امين الحسيني، واعلن المؤتمر عن تشكيل حكومة عموم فلسطين، فإن الحسيني رحل مخفوراً من قبل القوات المصرية الى القاهرة بأمر رئيس الوزراء محمود فهمي النقراشي باشا، حيث وضع هناك تحت المراقبة، وقد كان الاعلان عن تشكيل حكومة فلسطينية عبارة عن فورة عاطفية، لانه لا مال ولا سلاح ولا ارض لديها. اما الحرب فإنها انتهت بسيطرة الاردن على الضفة الغربية، وسيطرة مصر على قطاع غزة، ولم يبق لدى الفلسطينيين سوى قرار التقسيم رقم «181» بتاريخ 29/11/1947، وقرار العودة او التعويض رقم «194» بتاريخ 11/12/1948، محفوظة في ملفات الجمعية العامة للامم المتحدة. بعد ان فقد الفلسطينيون السيطرة على ارض وطنهم بالكامل، لم يتبق لهم سوى الاستماع الى نشرات الاخبار، وترديد الشعر، ومحاربة التوطين بالمظاهرات، فلم تتوفر لهم الفرصة للالتفاف حول قيادة سياسة مركزية، كما حرموا من حمل السلاح، وانشغلوا مثل بقية البشر في الحصول على المأوى وتوفير الغذاء، والحصول على مقعد للدراسة، وفي هذه المرحلة، بدأت تستقطب شبابهم الاحزاب الاممية والقومية والدينية، التي وجدوا فيها بدائل للاحزاب الوطنية، ونعتقد ان خضوع الفلسطينيين لانظمة حكم عربية مختلفة، واعتناق ايديولوجيات متنوعة قد شكّل جذور الخلافات السياسية بين الفلسطينيين، وسهّل استغلالهم من قوى غير فلسطينية. بدأت الحياة الوطنية الفلسطينية تنتعش من جديد منذ منتصف خمسينيات القرن الماضي، بالمثل الثوري الجزائري «1954»، وبصفقة الاسلحة التشيكية لمصر «1955»، وقيام قدامى الفدائيين الفلسطينيين بالتعاون مع مصر في الرد على الغارات الاسرائيلية «1955»، ومقاومة الاحتلال الاسرائيلي في قطاع غزة «1956»، تم تحقيق الوحدة بين مصر وسوريا «1958». ولكن بدأت في العقد التالي عملية التراجع على الصعيد العربي والتي كان من ابرز احداثها: الانفصال بين مصر وسوريا «1961»، وحرب اليمن «1962»، ثم انهيار اتفاق الوحدة الثلاثية بين مصر وسوريا والعراق «1963». في ضوء هذا التراجع على الصعيد العربي، بدأ الفلسطينيون محاولاتهم لتسخين الجبهات العربية-الاسرائيلية، ولكن هذا التوجه ادخلهم في صراع، صامت احياناً وصاخب احياناً اخرى مع الانظمة العربية الحاكمة، التي قامت بحملات مضادة تسببت في تفتيت الفلسطينيين وشرذمتهم. فهل نكف عن انتظار لقاء بين فتح وحماس، ونبحث لنا عن طريق آخر..يستطيع حقاً اصلاح ما قد افسده العقل العربي، لان فتح وحماس لا تملكان مفاتيح هذا الاصلاح. محمد جلال عناية «كاتب فلسطيني يقيم في الولايات المتحدة الاميركية» القدس
http://www.miftah.org |