حول التحوّل إلى "الدولة الواحدة"
الموقع الأصلي:
لو كنت واثقاً من معرفة الجمهور (الناس) ومتابعتهم للحوارات التي تدور حول الدولة الواحدة، والتي تطرح كبديل "عملي" لشعار الدولة الفلسطينية والتي تتواصل في اجتماعات النخب وعلى هامش الندوات والورشات والمؤتمرات... لو كنت واثقاً من ذلك لاعتبرت دون تردد ان عملاً مهماً ومهماً للغاية ينتظر مراكز استطلاع الرأي في بلادنا. صحيح ان مراكز الاستطلاع لدينا متهمة بدرجة أعلى من "المطلوب" من حيث تسيُّسها وتسيسها لموضوعات البحث والاستطلاع، وصحيح ايضاً ان هذه المراكز وبالرغم من هذه "الشبهة" لم تتوان عن التصدي للمشكلات والموضوعات والقضايا الوطنية في المنعطفات والمفاصل الحساسة لمسار التطور، الاّ ان الصحيح أيضاً هو ان بعض هذه المراكز تعتبر بالمعايير الاقليمية وحتى الدولية مراكز مهنية ويمكن الاعتداد بنتائج استطلاعها والاطمئنان الى واقعية التوقعات التي تصل اليها. لكنني مع كثيرين غيري ممن (استطلعت) آراؤهم حول هذه المسألة بالذات لا يعتقدون بنضج البيئة لاجراء مثل هذه الاستطلاع. ولو كانت هذه البيئة أنضج ولو قليلاً لما ترددت في اعتبار استطلاع آراء الناس في الدولة المستقلة كأفق وخيار وامكانية واحداً من أهم المسائل ولاعتبرت أيضاً ان ثقة الناس وايمانهم بالدولة من عدمه او عدمها مؤشر مهم على مسار تطور الاحداث في المدايات المنظورة. ولو كانت البيئة ومستوى اختمارها أعلى قليلاً من المستوى الراهن لاعتبرت ان استطلاعاً من هذا النوع بجملة الاسئلة التي يمكن ان يثريها والاستكشافات التي ستتم بموجب الاجوبة التي يمكن الحصول عليها وخصوصاً اسئلة الكيانية في الوعي الوطني واسئلة الهوية والانتماء واسئلة اخرى كثيرة حول اولوية الاقتصادي والاجتماعي على السياسي او العكس واسئلة اليأس والأجل واسئلة الشك واليقين والاسباب المباشرة وغير المباشرة لهذه المفاصل وكل ما تنطوي عليه من اهمية وكل ما تحتويه من قيم وثقافة. وعلى الرغم من ان نضج البيئة ليس سبباً كافياً لعدم "الخوض" في هذا النمط من الاستطلاعات وانه ليس من مهمة القائمين على هذه الاستطلاعات انتظار اعلى درجات النضج لاجرائها والقيام بها بل ويمكن القول هنا ان الاستطلاعات نفسها تلعب دوراً خاصاً في هذا الانضاج، على الرغم من كل ذلك فإن طبيعة الموضوعات المقترحة للاستطلاع ليست من النوع الذي يمكن بسهولة الاطمئنان الى ان الاجابات المتضمنة ستعكس الجوهري من المطلوب والجوهري من المفترض. كما ان الموضوعات المقترحة للاستطلاع قد تفضي (بسبب كافة التعقيدات المشار اليها) الى استنتاجات متسرعة لسنا بحاجة لها في هذه المرحلة المنفعلة في طبيعتها وسماتها البارزة. كما ان كثيراً من مفاصل مبنى الاسئلة ومبنى الاجوبة في الاستطلاعات المقترحة عادة ما تستفيد من الابحاث والدراسات والرسائل الجامعية وكذلك المؤتمرات الاكاديمية والسياسية وهي غالباً تغتنم الفرص التي توفرها نشاطات الاحزاب ومنظمات المجتمع المدني والتنظيمات الاهلية المعنية، وكذلك الصحافة ووسائل الاعلام والتوعية الجماهيرية، وهي كلها امور غائبة او تكاد. وموضوع الدولة الواحدة يكاد يجمع بين كل هذه الالتباسات والتعقيدات والاشكاليات لكن لماذا؟ البعض ممن حاولت "استطلاع" رأيه لا يفرق بين مفهوم الدولة الواحدة ومفهوم الدولة الديمقراطية الذي طرحته الحركة الوطنية المعاصرة في السنوات المبكرة من عقد السبعينيات من القرن الماضي وهو (هذا البعض) حتى وان استطاع التفريق فهو لا يستطيع ان يفصل المفهومين، ما يثير مزيداً من اللبس والارباك. اما البعض الاخر فيعتبر الدولة الواحدة حالة من اليأس من انجاز البرنامج الوطني ونوعاً من "توريط" الاحتلال بالسكان الفلسطينيين او اعادة توريط الاحتلال، وما يلبث هذا القسم من الذين استمعت الى آرائهم ان يربط بين الغلبة الديمغرافية الفلسطينية الحالية والمستقبلية وبين الحل. أما البعض الاخر من هذا البعض فيرى ان الشرط الاول والاساسي لتحقيق هذا الامر هو "حل السلطة" والقاء الضفة في "وجه" اسرائيل في مراهنة ضمنية وعلى أمل ان يؤدي هذا الامر اما الى تحريك الرأي العام الاسرائيلي واستنهاضه من اجل التراجع عن السياسة الاسرائيلية الحالية وأما "اجبار" المجتمع الدولي على التحرك السريع باتجاه فرض حل سياسي متوازن. وفي كل الاحوال يعتقد البعض الاول والبعض الآخر ان خطوة من هذا النوع ستدخل اسرائيل في مأزق كبير وربما انها ستجبرها على التحول الى دولة عنصرية مكشوفة، الامر الذي سيسهل على الشعب الفلسطيني مستقبلاً اسقاطها (اسقاط العنصرية) على النمط الجنوب افريقي. للأسف لا يقتصر الامر عند هؤلاء الى هذه الحدود فقط بل ان غالبية لا بأس بها منهم ترى في كل ذلك "حلاً" ما لحق العودة ولا تكترث كثيراً في هذه المرحلة بقضايا مثل خطر تمدد الاستيطان وتراجع الحركة الشعبية في مقاومته والتراخي المؤكد في الموقف الدولي من هذا الخطر ومن هذا التمدد على حدٍ سواء. أما فيما اذا كانت اسرائيل ستقبل بأن تؤول الامور بهذا الاتجاه ام لا وفيما اذا كانت اسرائيل "واعية" لكل هذا وتحضر نفسها لمواجهته في كل الاحوال عبر سياسات الفصل والانفصال القائمة على قدم وساق فهذا ليس واضحاً تماماً عند اصحاب نظرية (الدولة الواحدة) بل ليس واضحاً الكيفية التي من خلالها سيصار الى "اجبار" اسرائىل عليها والتسليم بها، وليس لديهم أدنى فكرة عن الفروق التي يمكن ان تكون "جوهرية" بين نظام للفصل العنصري كان قائماً في جنوب افريقيا وبين نظام مدعوم بهذا الشكل العضوي من منظومة غربية متكاملة تعتبر اسرائيل ابنها الشرعي وابنها المدلل وترفع من شأن هذا الابن الى درجة تصل الى "المقدس". ما علاقة ذلك كله بالاستطلاع الذي افاد بان اكثر من اربعين بالمائة (40%) من الفلسطينيين يعتبرون هويتهم اسلامية اولاً، وما علاقة ذلك بزيادة معدلات ووتائر انهيار الحركة الوطنية المعاصرة وتداعي اطروحتها المركزية حول السلام مع اسرائيل وما علاقة ذلك بصعود بديل جديد يمثله تيار الاسلام السياسي الفلسطيني الذي لا يعتبر الاستقلال الوطني اولوية سياسية وبرنامجية، وما علاقة كل ذلك بسقوط حركة حماس في امتحان الديمقراطية والشراكة الوطنية وما علاقة ذلك ايضاً بانحسار اليسار الفلسطيني وتراجع دوره السياسي والمجتمعي والقيم التي يمثلها في الحياة الفلسطينية؟؟ اين الفكر السياسي الفلسطيني من كل ذلك واين اسهام المثقفين في دراسة المسارات الجديدة للتطور في منظومات القيم والثقافة والوعي الوطني والجمعي في فلسطين؟؟ أليس في هذا ما يستحق البحث والدراسة والتفكير؟؟
http://www.miftah.org |