الاستيطان الإسرائيلي وصلته بتصنيع بداوة عربية حديثة
بقلم: حسن شامي
2008/4/10

الموقع الأصلي:
http://www.miftah.org/display.cfm?DocId=9152

في اليوم التالي على اختتام أعمال القمة العربية التي انعقد مؤتمرها، مرضوضاً ومضطرباً، في العاصمة السورية دمشق، تدفقت أنباء متعددة المصادر تتعلق ببعض وجوه جغرافيا النزاع العربي – الإسرائيلي – الفلسطيني. والمقصود بهذا البعض الجغرافي هو الإعلان من زاويتي نظر متعارضتين، عن توسيع الاستيطان في القدس الشرقية وفي مناطق الضفة الغربية. فقد صرّح رئيس الحكومة الإسرائيلية إيهود أولمرت، بعد لقائه مع وزيرة الخارجية الأميركية كوندوليزا رايس بأن إسرائيل ستواصل البناء في الأحياء والبؤر الاستيطانية في القدس وفي الكتل الاستيطانية الكبرى في محيط الضفة، وهي كتل «ستبقى تحت السيادة الإسرائيلية في نطاق أي تسوية دائمة للنزاع».

بالتزامن مع هذا التصريح الرسمي، أعلن مجلس بلدية القدس عن خطط لبناء ستمئة وحدة سكنية جديدة في مستوطنة «بسغات زئيف» في الضفة، مع ترجيح الاعتقاد بأن الحكومة لن تؤخر هذا المشروع، على قاعدة «خير البر (التوسعي) عاجله». ووعد نائب رئيس الحكومة إيلي يشاي المستوطنين المتدينين (الحرديم) في إحدى كبرى مستوطنات الضفة المقامة على أراضي حوسان ونحالين بأن تسمح لهم الحكومة قريباً بناء مئات الوحدات السكنية الجديدة.

الى ذلك، ومن زاوية نظر مختلفة ومعارضة، أفاد تقرير نشرته حركة «السلام الآن» الإسرائيلية، أن إسرائيل تقوم منذ بداية العام الحالي ببناء عشرات آلاف الشقق الجديدة في 101 مستوطنة في القدس والضفة الغربية وفي البؤر الاستيطانية «غير المرخصة». كما أكد التقرير أن حجم البناء في الأحياء الاستيطانية في القدس المحتلة خلال الأشهر الأخيرة غير مسبوق و «يراد منه تعميق الاستيطان شرق الجدار أيضاً».

وتضمن التقرير كذلك عرضاً تفصيلياً عن أعمال استيطانية تجري في نحو ستين بؤرة استيطانية عشوائية التزمت إسرائيل تفكيكها قبل أربع سنوات، لكنها لم تفكك أياً منها بل أعطت الضوء الأخضر لتوسيعها تمهيداً لإضفاء صفة الشرعية عليها.

بالتوازي مع الإعلانات البرنامجية عن القضم الجغرافي لأقاليم (في معنى الأراضي) الدولة الفلسطينية الموعودة في إطار «حلّ الدولتين»، والمرشحة لتسيير أمور حياة مجتمع حضري، مديني وريفي، ألقى تقرير صادر عن منظمة دولية لحقوق الإنسان (منظمة هيومن رايتس ووتش) الضوء على الأحوال المزرية للبدو الذين يعيشون في منطقة النقب. فقد تحدث التقرير عن ممارسات إسرائيلية تمييزية ضد نحو 80 ألف بدوي يعيشون في بلدان من الأكواخ الرثة غير المعترف بها.

ويذكر التقرير أن إسرائيل هدمت الآلاف من منازل بدو النقب منذ سبعينات القرن الفائت، ومئات أخرى خلال العام الماضي وحده، بينما تتغاضى السلطات الإسرائيلية عن المباني غير القانونية لليهود أو تضفي الصبغة القانونية عليها بمفعول رجعي، وذلك لتحقيق سياستها الرامية الى «تهويد النقب» تحت شعار تنميته للحيلولة من دون اختلال الميزان الديموغرافي فيه، علماً بأن البدو يشكلون في الوقت الراهن 25 في المئة من سكان النقب لكنهم يسيطرون على 2 في المئة من مساحة الأراضي هناك.

وينسب التقرير الى البدو المقيمين في قرى غير معترف بها اعتقادهم الجازم بأن إسرائيل تلاحقهم وتهدم منازلهم لإرغامهم على الرحيل عن أرضهم لتسيطر عليها. كما يرفضون الاقتراح بالانتقال الى التجمعات البدوية السبعة التي أقيمت في سبعينات القرن الماضي، لأن هذه التجمعات تشكل أفقر تجمعات سكنية في إسرائيل وهي «سيئة التجهيز لمواكبة أي تدفق سكاني إليها، وتعاني من بنية تحتية ضعيفة ومعدلات جريمة مرتفعة وفرص عمل نادرة وأراضٍ غير كافية للاستمرار في طرق عيش تقليدية مثل الرعي، فضلاً عن أن الدولة تطلب من البدو الذين ينتقلون الى البلدات بأن يتراجعوا عن مطالبتهم بأراضيهم القديمة.

ليس هنا، ولا الآن، مجال الخوض في أحد الوجوه البارزة من التاريخ الاجتماعي، العربي والإسلامي، وهو وجه العلاقات الملتبسة بين سكنى البادية وسكنى الحواضر، المدينية والريفية والفلاحية، بين أشكال من التنظيم الاجتماعي يصعب اختزالها الى اختلاف ناجز ومطلق بين ثقافة بدوية قائمة على التنقل والارتحال (الظعن) وبين ثقافة حضرية قائمة على الإنتاج الحرفي أو الفلاحة المستقرة في الأرياف، وما يترتب في وظيفة القرابة وعملها ودرجة ارتباطها بآليات بناء السلطة السياسية وإعادة إنتاجها.

ما يعنينا أكثر هو الالتفات الى أن معيوش بدو النقب والمعروض عليهم، بحسب تقرير المنظمة الدولية المذكورة، يكاد يتساوى، من حيث القيمة والمبدأ، مع المعروض على حضريي المجتمع الفلسطيني في الضفة الغربية وقطاع غزة، بل حتى على فئات عريضة من عرب إسرائيل، بل حتى يمكن مط هذا المعروض، وإن على سبيل التوسع المجازي، ليشمل العالم العربي: العيش من دون جغرافيا سياسية، قطرية أو قومية أو وطنية، تنعقد عليها سيادات الدول وصيانتها. غني عن القول، ربما، إنه من الصعب جداً تنظيم أو تحريك تظاهرة للدفاع عن حقوق بدو النقب.

يمكن لهؤلاء أن يجدوا مناصرين في بعض الأوساط العلمانية والإسرائيلية التي يفصل أفرادها بين المواطنية الإسرائيلية، وإن كانت حديثة العهد، وبين الانتماء الى اليهودية، ديناً أو إثنية، وسيكون على البدو «المندمجين» أن يفصحوا عن تشدد مضاعف في ولائهم لاسرائيل فهذا هو ثمن القبول بهم، علماً بأن إصرار أولمرت وغيره من زعماء ومسؤولي الدول، وفي مقدمهم الرئيس الأميركي جورج بوش، على الضفة اليهودية – المصرية لإسرائيل، من شأنه أن يزيد من كلفة الاندماج وثمنه بحيث لا يبقى للبدو سوى اقتطاع أفراد منهم للخدمة العسكرية فيما يقبع الباقون في مستودعات سكنية وبشرية، بائسة ورثة، بطريقة تشبه كثيراً تلك التي زجّ فيها عشرات الآلاف من الهنود الحمر في أميركا الشمالية، وكانت أشبه بالمعتقلات.

نعم، يمكن وإن بصعوبة متزايدة، في عواصم الحداثة الغربية أو غيرها، تنظيم ندوة يتولى فيها علماء اناسة تناول التنظيم الاجتماعي القرابي للبدوي ورد الاعتبار لشرعية صفتهم الإنسانية، وإن كانوا يشكلون مجتمعاً بلا كتابة. وفي هذا السلوك المتخفي ما يمكنه أن يعبّر عن احتجاج حقيقي دفاعاً عن منظار إنسانوي للمشاكل، وما يمكنه أن يكون إراحة للضمير المعذب.

والأمر سيكون أصعب عندما يتعلق بمجتمعات كتابية يتعذر طردها من التاريخ الحديث. وهذا ما يجعل القضية الفلسطينية عصية على الطرد. ذلك أن المخيلة الحضرية تمثلت أهل البادية في صورة خطر دائم يتهدد مجتمعاتها، بسبب السلب والغزو.

لقد اكتفت ثرايس بالمطالبة بوقف النشاطات الاستيطانيـة، فهذا «قطعاً لا يتسق مع الالتزامات الواردة في خريطة الطريق». يكاد الاعتراض أن يكون جمالياً إذ هو يتعلق بتسريحة الشعر لا بالرأس، وهي التي كانت تعلن من مسافة آلاف الكيلومترات عن ولادة جغرافيات سياسية جديدة، مثل الشرق الأوسط الجديد. لنقل إن ما يجري العمل عليه هو «بدونة» العالم العربي والفلسطيني. إنه تاريخ لا يملك أبناؤه وأصحابه التحكم بجغرافيته.

القدس

http://www.miftah.org