مشعل كما فهمه كارتر!
بقلم: جواد البشيتي
2008/4/22

الموقع الأصلي:
http://www.miftah.org/display.cfm?DocId=9225

إذا كان ممكنا أن نتحدَّث عن نجاح أحرزته جولة كارتر فإنَّ هذا النجاح لا يتعدى قوله إنَّ رئيس المكتب السياسي لحركة "حماس" أبلغ إليه، عندما اجتمعا في دمشق، ما معناه أنَّ "حماس" ليست مع، وليست ضد، المفاوضات السياسية التي يجريها رئيس السلطة الفلسطينية محمود عباس مع رئيس الوزراء الإسرائيلي ايهود اولمرت، وإنْ كانت متأكِّدة تماما أنَّ هذه المفاوضات ستنتهي إمَّا إلى فشل تام، بسبب أن ليس لدى إسرائيل ما تعطيه للفلسطينيين، توصُّلاً إلى حل نهائي للنزاع معهم، وإمَّا إلى حل، أو إلى ما يمكن أن يؤدي إلى حل، لا يمكن أن يحظى بقبول الشعب الفلسطيني إذا ما أُتيح له التعبير بحرية تامة عن موقفه.. وما معناه، أيضا، أنَّ "حماس" تحترم الإرادة الحرة للشعب الفلسطيني (المعبَّر عنها في استفتاء شعبي على وجه الخصوص) وإنْ أتت ممارستها بنتيجة لا ترضى عنها، ولا تقبلها، الحركة، فإذا تمخَّض الاستفتاء الشعبي الحر والشامل عن قبول الشعب الفلسطيني لاتفاقية (توصَّل إليها المفاوضان عباس واولمرت) لا وزن لها، أو ضئيلة الوزن، بحسب قياس "ميزان الثوابت الفلسطينية" لدى "حماس"، فإنَّ الحركة ستؤكِّد عندئذٍ أمران: احترامها تلك الإرادة وما تمخَّضت عنه ممارستها من نتائج، ورفضها "الاتفاقية" رفضاً "سياسياً تنظيمياً صرفاً".

ولكن، ما هي "الاتفاقية" التي يمكن أن تحظى بقبول "حماس"؟ إنَّها "الاتفاقية" التي ليس فيها ما يعني اعترافا فلسطينيا بإسرائيل (أو بحقها في الوجود، أو في العيش ضمن حدود آمنة ومعترف بها). وهذا إنَّما يعني أنَّ "حماس" ترفض كل حل مشروط بأن تعترف هي بإسرائيل، ولا تقبل للشعب الفلسطيني حلاً يقوم على الاعتراف الفلسطيني (الرسمي) بإسرائيل.

بحسب التصريحات الصحافية التي أدلى بها مشعل في دمشق يمكن ويجب أن يدفع الفلسطينيون "ثمن" حلٍّ يمكن التوصل إليه في الوقت الحاضر؛ ولكنَّ هذا "الثمن" لن يكون "الاعتراف (بإسرائيل)" وإنما "الهدنة العشرية"، فـ "حماس"، في جُلِّ تنازلها ومرونتها واعتدالها، يمكن أن تقبل أن يكون "الثمن" هدنة مدتها عشر سنوات (قد تكون قابلة للتمديد).

وهذا "الثمن" إنما هو ثمن الحل الذي قوامه: قيام دولة فلسطينية في الضفة الغربية وقطاع غزة، حدودها مع إسرائيل تطابق خط الرابع من حزيران 1967، وأن تتمتع هذه الدولة بسيادة حقيقية وكاملة، وأن تكون القدس الشرقية عاصمتها، وأن يخلو إقليم هذه الدولة تماماً من المستوطنين والمستوطنات، وأن تحل مشكلة اللاجئين الفلسطينيين بما يتفق مع حقهم في العودة إلى الأماكن التي كانوا فيها قبل طردهم وتهجيرهم.

إذا وافقت إسرائيل على كل ذلك فيمكن، عندئذٍ، أن يعطيها الفلسطينيون تلك "الهدنة العشرية"، التي لا تعني، ويجب ألا تعني، اعترافا فلسطينيا بها.

هذا الحل يصفه المتحدث باسم "حماس" سامي أبو زهري، والذي يرفض فكرة "الاستفتاء الشعبي" بدعوى أنَّ "الثوابت الفلسطينية" لا يمكن أبدا أن تكون موضع استفتاء شعبي، بأنَّه حل "الدولة الانتقالية".

إذا توصل عباس إلى اتفاقية مع اولمرت قوامها هذا الحل فإنَّ "حماس" يمكنها، عندئذ، أن تقبلها، بوصفها اتفاقية انتقالية، تحلُّ فيها "الهدنة" محل "الاعتراف". أمَّا إذا توصل إلى اتفاقية دون ذلك، بقليل أو بكثير، فإنَّ "حماس" لن تقبلها، ولو قبلها الشعب الفلسطيني عبر استفتاء شعبي شامل حر ونزيه، فهذا الاستفتاء إنما تكمن أهميته، في هذه الحال، في كونه يمنح تلك الاتفاقية، غير المقبولة من قِبَل "حماس"، شرعية شعبية فلسطينية.

هنا برز خلاف بين "حماس" و"الجهاد الإسلامي"، فإذا كانت "حماس" تؤيِّد إخضاع اتفاقية مخالفة لـ "الثوابت الفلسطينية"، وتعترض عليها، لاستفتاء شعبي فإنَّ "الجهاد" ترفض ذلك رفضا باتا، فالقيادي فيها خالد البطش أعلن رفض حركته لأي استفتاء شعبي مخالف لـ "الثوابت الفلسطينية"، وأعلن، أيضا، أنَّ حركته تنظر إلى قبول مشعل لفكرة الاستفتاء على هذا النحو على أنه "أمر في منتهى الخطورة".

مشعل قال: "نوافق على دولة فلسطينية ضمن حدود حزيران 1967، عاصمتها القدس، سيادتها حقيقية، تخلو تماما من المستوطنات، ومع حق العودة كاملاً؛ ولكن من دون اعتراف بإسرائيل".

لقد أودتُ هذا القول بنصِّه الحرفي حتى نُحْسِن فهم ما قاله كارتر إذ أعلن أنَّ "حماس" سوف "تقبل حق إسرائيل في العيش بسلام بوصفها جارة للفلسطينيين ودولتهم، على أن تحظى الاتفاقية التي يمكن أن يتوصل إليها عباس واولمرت بموافقة الفلسطينيين الكاملة.. وهذا إنما يعني أنَّ الحركة ستقبل الاتفاقية، التي تتضمَّن الاعتراف بإسرائيل، إذا ما قبلها الشعب الفلسطيني في استفتاء شعبي حر. ليس لديَّ شك في أنَّ العالم العربي، والفلسطينيين، وحماس أيضا، سيقبلون حق إسرائيل في الوجود، والعيش في سلام، ضمن حدود 1967".

ما معنى هذا التناقض البيِّن بين القولين؟ هل معناه أن مشعل قد أبلغ إلى كارتر، في اجتماعهما، ما يناقِض ما قاله في ذلك المؤتمر الصحافي؟ هل أبلغ إليه، في اجتماعهما، أنَّ "حماس" تقبل اتفاقية، تتضمن اعترافا فلسطينيا بإسرائيل، وأنها يمكن أن تعترف، بالتالي، بإسرائيل، إذا ما قبل الشعب الفلسطيني بأسره هذه الاتفاقية؟ إننا نتساءل عن حقيقة موقف "حماس"؛ ولكن من غير أن نضرب صفحا عن سؤال، أو تساؤل، آخر هو هل أساء كارتر فهم موقف مشعل فقال، بالتالي، هذا الذي قال؟ لن نجيب؛ لأنَّ الجواب يجب أن يأتي من مشعل وكارتر.

عباس ومشعل يريدان حلاًّ، ظرفه الزماني هو "الآن"؛ ولكن الفرق بينهما يكمن في أن عباس يسعى إلى حلٍّ يقوم على التوفيق قدر الإمكان بين الحقوق والمطالب القومية للشعب الفلسطيني وبين حقائق ميزان القوى. وهذا الحل، مهما تحسَّن فلسطينيا، سيظل أقرب إلى حقائق ميزان القوى منه إلى جوهر الحقوق والمطالب القومية للشعب الفلسطيني. ومع ذلك، يجب أن يحظى بقبول الشعب الفلسطيني، ولو كان قبولا من نوع "القبول على مضض". أمَّا مشعل فيتحدث عن حل هو أقرب ما يكون إلى تلك الحقوق والمطالب؛ ولكنه أبعد ما يكون عن حقائق ميزان القوى. وغني عن البيان أنَّ الحل الذي يتحدث عنه مشعل لن يأتي أبدا من طريق أي تفاوض سياسي مع إسرائيل في الوقت الحاضر، ويمكن أن يصبح حقيقة واقعة عندما تغدو إسرائيل في مركز تفاوضي يماثل المركز التفاوضي للفلسطينيين الآن.

الفلسطينيون هم الآن في أمسِّ الحاجة إلى كل ما من شأنه أن يجعل مفاوضات عباس مع اولمرت مجدية حقا، وتتمخَّض عن حلٍّ، فيه من حقوقهم ومطالبهم القومية قصارى ما يمكن تحصيله في الوقت الحاضر، حيث حقائق ميزان القوى مرَّة المذاق فلسطينيا. وهم في حاجة ماسة أيضا إلى موقف آخر من "حماس"، قوامه حق "حماس"، بوصفها تنظيما، في أن تظل، ولو إلى الأبد، ترفض الاعتراف بحق إسرائيل في الوجود، أو الاعتراف بها على النحو الذي يريده الإسرائيليون. وقوامه، أيضا، أن تقبل ما يقبله الشعب الفلسطيني، على أن تتهيأ له الفرصة للتعبير الحر عن إرادته السياسية، فالأهم من أي اتفاقية يتوصل إليها عباس مع اولمرت (إذا ما أصبح هذا الافتراض احتمالا، وإذا ما أصبح هذا الاحتمال إمكانية واقعية، وإذا ما أصبحت هذه الإمكانية الواقعية حقيقة واقعة) هو أن تحظى هذه الاتفاقية بالشرعية الشعبية الفلسطينية، فليس من "ثوابت فلسطينية" غير ما يقرِّه الشعب الفلسطيني في استفتاء شامل حر.

والاستفتاء الشعبي الفلسطيني الشامل الحر ليس بالأمر اليسير، فما يكتنف المفاوضات بين عباس واولمرت من صعوبات يتضاءل أمام صعوبة تنظيم وإجراء استفتاء كهذا، فهذا الاستفتاء لن تقوم له قائمة قبل أن يُجاب عن سؤال "من هو الفلسطيني؟"، ثمَّ عن سؤال "من هو الفلسطيني الذي يحق له الاقتراع؟".

وعليه، لا مناص، عندئذٍ، من الاتفاق بين قيادات الشعب الفلسطيني جميعا على طريقة يمكن من خلالها جعل الاتفاقية تحظى، أو لا تحظى، بشرعية شعبية فلسطينية.

إنَّ غالبية الشعب الفلسطيني هي من اللاجئين، الذين لا يمكنهم أن ينظروا في أمر أي اتفاقية إذا لم تتضمن ما يقنعهم بأنَّها تؤسِّس لحل حقيقي وواقعي لمشكلتهم. وإذا كان لاتفاقية كهذه أن ترى النور فلا بد لها، في الوقت نفسه، من أن تتضمن ما يقنع غالبية الإسرائيليين بأن لا عودة لملايين اللاجئين الفلسطينيين إلى إسرائيل، فالعودة، في معناها هذا، والذي هو الأقرب إلى معناها الحقيقي والأصلي، إنْ أُقرَّت في الاتفاقية فلن تُقر إلا بوصفها عودة محدودة، ضيقة، رمزية، أقرب إلى المعنى الإنساني منها إلى المعنى السياسي.

والجدل السياسي الحقيقي للفلسطينيين يجب أن يكون في أمر آخر هو "كيف تُحل مشكلة اللاجئين بما يوافق مبدأ أن تكون الدولة الفلسطينية للشعب الفلسطيني بأسره"، فالأسوأ إنَّما هو أن يأتي الحل بما يُخْرِج ملايين الفلسطينيين من "الشعب الفلسطيني"، وكأنَّ الحل الذي يمكن أن يرى النور هو الذي فيه "تُخْتَصر" فلسطين، جغرافياً، فديمغرافياً، أسوأ اختصار.

"التنازل" الفلسطيني إنَّما هو، بالنسبة إلى الفلسطينيين، شر لابد منه؛ ولكنه، في حقيقته وجوهره، ليس بتنازل لإسرائيل، في المقام الأول، وإنما للشعب الفلسطيني نفسه، ولقضيته القومية.

ولقد حان للقيادات الفلسطينية جميعا أن تدرك أن مهمة الساعة إنما هي إنشاء وتطوير سياسة فلسطينية تجيب عن سؤال واحد فحسب، هو "كيف يمكن الحفاظ على الوجود القومي والإنساني للشعب الفلسطيني؟"، فليس من حقوق قومية لشعوب فقدت وجودها!

ويخطئ من يفهم هذه السياسة الجديدة على أنها جزء من المسار التفاوضي فحسب، فالمسار الآخر، أي مسار المقاومة، يحتاج إليها هو أيضا، فعالمنا اختلف، ولا بد من النظر إليه بعيون مختلفة. إنَّه عالم لا يقبل رصاصة فلسطينية واحدة إذا ما أُطلقت من البندقية السياسية الفلسطينية القديمة!

http://www.miftah.org