لماذا "رفضت" إسرائيل..؟
الموقع الأصلي:
هل فشلت جهود الوسيط المصري للتوصُّل إلى اتفاق تهدئة جديد بين إسرائيل وقطاع غزة الذي تسيطر عليه حركة "حماس" منذ منتصف حزيران الماضي؟ لولا التصريحات التي أدلى بها متحدثان رسميان إسرائيليان في هذا الشأن، بعد انتهاء محادثات وفد "حماس" في القاهرة، والتي بدت فيها إسرائيل رافضةً للتهدئة، لما كان من داعٍ لطرح هذا السؤال، فكل شيء كان يشير إلى قرب التوصُّل إلى هذا الاتفاق. "حماس" بدت غير مكترثة لتلك التصريحات، معتبرةً أنَّ الموقف الرسمي الإسرائيلي النهائي هو الذي سيأتي به الوسيط المصري عمر سليمان عندما يزور إسرائيل، بعد انتهاء القاهرة من إجراء مزيد من المحادثات مع المنظمات الفلسطينية؛ أمَّا رئاسة السلطة الفلسطينية فحرصت على تأكيد أنَّ مهمة الوسيط المصري قد جاءت بناءً على اقتراح تقدمت هي به إلى القاهرة. ولكن، ما الذي حَمَل المتحدثان الرسميان الإسرائيليان على إظهار هذا الموقف السلبي؟ إنَّ الجواب يكمن في التصريحات التي أدلى بها قياديون من "حماس" بعد انتهاء محادثاتهم في القاهرة، فصورة الاتفاق كما ظهرت في تلك التصريحات لم تكن بالمقبولة إسرائيلياً، فبحسب هذه الصورة، لا تزيد مدة التهدئة عن ستة شهور (وإن كان ممكناً تمديدها) ويجب أن تشمل الضفة الغربية، وإنْ في مرحلة لاحقة، كما يجب أن تقترن بإعادة فتح المعابر كافة، وبإنهاء الحصار الإسرائيلي المضروب على قطاع غزة، والذي اشتدت وطأته في الأشهر العشرة الأخيرة. هنا، وهنا فحسب، يكمن السبب الأهم لهذا الموقف السلبي الإسرائيلي، فإسرائيل إنَّما تريد تهدئة مع قطاع غزة فحسب، وغير مقترنة بإنهاء حصارها للقطاع. وقد عبَّرت عن ذلك إذ قالت إنَّ "هدوءاً في مقابل هدوء" هو ما تحاوله وتسعى إليه. وهذا إنما يعني أن تتوقف الأعمال العسكرية الإسرائيلية ضد القطاع في مقابل توقُّف إطلاق الصواريخ الفلسطينية على سديروت وغيرها من المناطق الإسرائيلية الجنوبية، على ألاَّ يقترن ذلك بإنهاء الحصار الإسرائيلي، الذي يمكن، ضمن استمراره على وجه العموم، أن يشتد أو يضعف بحسب ما تقرِّر المصالح والأهداف الإسرائيلية. إسرائيل لم تَذْكُر، ولن تَذْكُر، هذا السبب الحقيقي، زاعمة في المقابل أنَّها لا تريد تهدئة تشبه "هدوءاً يسبق العاصفة"، وتسمح لحركة "حماس" بالتقاط أنفاسها، وبزيادة تسلحها من خلال تهريبها السلاح إلى القطاع عبر حدوده مع مصر. ويبدو أنَّ إسرائيل لم ترَ التناقض في موقفها إذ قالت إنَّها ستوقف أعمالها العسكرية ضد القطاع إذا ما توقف إطلاق الصواريخ الفلسطينية، فهل التهدئة في هذا المعنى تمنع التقاط الأنفاس، وإعادة وزيادة التسلح؟! عسكرياً، ترمي إسرائيل إلى إخراج قطاع غزة من الصراع المسلح، أي تحييده، توصُّلاً إلى توسيع وزيادة عملها العسكري في الضفة الغربية، وكأنَّها تحاول فعل ما فعلته عبر معاهدة السلام مع مصر إذ أخرجتها من الحرب، لتشن مزيداً من الحروب على جبهات أخرى. ولقد كان لها ما تريد، فحركة "حماس" قبلت، في آخر المطاف، شعار "غزة أوَّلاً" في أمر التهدئة؛ وليس هناك من ضمان حقيقي لجعل الضفة الغربية مشمولة بتلك التهدئة. ولا شكَّ في أنَّ إسرائيل تريد لتجزئة التهدئة أن تبذر مزيداً من بذور الانفصال بين القطاع والضفة، فالدولة اليهودية ليست معنية باتفاق تهدئة جديد يمكن أن يهيئ الظروف لإعادة وصل ما انقطع بين الطرفين الفلسطينيين المتنازعين، وبين شطري الوطن الفلسطيني المصغَّر. أمَّا الهدف الآخر الذي تحاول إسرائيل تحقيقه عبر هذا الاتفاق فهو أن يأتي إنهاء الحصار، أو تخفيفه، بما يؤدِّي إلى التأسيس لعلاقة تبعية اقتصادية (ذات طابع إنساني) بين القطاع ومصر، فهي ستبقي على حصارها، متحكمة في معابرها مع القطاع كما تشاء، حتى تضطر مصر إلى إلحاقه بها اقتصاديا، وبدواعٍ إنسانية، من خلال فتحها معبر رفح. ويبدو أنَّ الوعد المصري لقيادة "حماس" بفتح هذا المعبر إذا ما رفضت إسرائيل قبول مقترحات القاهرة للتهدئة سيُتَرْجَم بما يتفق مع هذا التوجُّه، فهذا الوعد المصري يمكن، ويجب، أن يقترن لاحقاً بتعهد لإسرائيل بأن تضمن مصر وقف كل عمليات تهريب السلاح عبر حدودها إلى القطاع. التنازل الأول كان بتجزئة التهدئة، بدعوى أن تبدأ في القطاع، ثمَّ تنتقل إلى الضفة؛ والتنازل الثاني سيكون حل مشكلة الحصار المضروب على القطاع عبر مصر، أي بإعادة فتحه، عملاً بـ "الوعد المصري". وعليه، تنتهي التهدئة، إذا ما أبصرت النور، إلى توسيع وتعميق الانفصال بين القطاع والضفة. والمبرِّر الذي ستبرِّر به إسرائيل رفضها اقتران التهدئة بينها وبين القطاع بفتح معابرها، وبإنهاء حصارها، هو أنَّ "حماس" تسيطر على الجانب الفلسطيني من كل معبر ضمن احتفاظها بالسيطرة على القطاع. ونحن لا نجانب الحقيقة إذا ما قلنا إنَّ إسرائيل باتت تنظر إلى الممر بين القطاع والضفة عبر أراضيها على أنه ورقة تفاوضية رابحة ستلعبها توصُّلا إلى جعل هذا الممر (الذي هو من أهم مقوِّمات الوحدة، أو إعادة الوحدة، بين شطري إقليم الدولة الفلسطينية المقبلة) في مقابل احتفاظها بسيطرة دائمة على الأرض الفلسطينية الواقعة بين "الخط الأخضر" و"جدار الأمن". نضيف إلى ذلك أنَّ إسرائيل تسعى الآن إلى جعل تأجيل التفاوض والاتفاق في شأن مسألتي القدس الشرقية واللاجئين، شرطاً لأي اتفاق يمكن التوصُّل إليه مع الرئيس عباس قبل مغادرة الرئيس بوش البيت الأبيض. ولا شكَّ في أن تفصيل "الدولة الفلسطينية المقبلة" على مقاس الحل الذي تضمنته "رسالة الضمانات" التي سلَّمها بوش إلى شارون هو، على وجه التحديد، ما يعنيه الرئيس بوش بقوله إنَّه سيبذل جهودا، قبل مغادرته البيت الأبيض، للتوصُّل إلى "تعريف" لهذه الدولة! ولعل أخطر ما في الأمر أنَّ إسرائيل تريد لاتفاق سيء كهذا أن يذهب به الرئيس عباس إلى الشعب الفلسطيني لأخذ رأيه فيه، فإذا لم يحظَ بهذه الشرعية الفلسطينية قالت: ها هم الفلسطينيون يرفضون السلام!
http://www.miftah.org |