شمولية الحوار ومحاور الضرورة الوطنيّة
الموقع الأصلي:
بين دعوة الرئيس محمود عبّاس لحوار وطني شامل، والتي جاءت قبل أيّام من حلول الّذّكرى الأولى الأليمة لتكريس انشقاق النّظام السّياسي الفلسطيني؛ بهيمنة حركة حماس على قطاع غزّة، وبين البدء عمليا بجلسات الحوار وفق صيغة وثقل جماعيين، بمعنى شمولهما كافة قوى وأطياف الحركة الوطنية، بما يساهم مساهمة فعّالة في تخليص إرث الحوارات الفلسطينية من تقاليدها الفئويّة الثّنائيّة، وصيغ محاصصاتها المجحفة بحق قوى أساسيّة في الوضع الوطني بين الدّعوة وبدء تجسيدها كأولى الخطوات نحو استعادة وحدة النّظام السياسي، واستعادة وحدة وتطوير منظمة التّحرير بما تمثّله وما ترمز إليه في مجرى الكفاح الوطني التّحرري للشعب الفلسطيني، بين هذا وذاك بون شاسع يكمن على جنباته الكثير من المزالق والأخطار، والنّيات الملوّثة بصبغة وشبهة السّلطة والتّشبّث بها.
لكن يبقى السّلوك الإسرائيلي والنّيات الأميركيّة؛ أبرز تلك الأخطار التي يمكن أن تودي بالحوار وأطرافه؛ للانزلاق نحو التّحلّل من التزاماته، لا سيّما وهو يكبّل وقد كبّل مسبقا بالاشتراطات والاشتراطات المضادّة، رغم ما أشاعه ولم يزل من أجواء إيجابيّة إعلاميّا، وما حمّل من أماني ورغبات شعبيّة، خاصّة في ظلّ ظروف التّهدئة الحاليّة التي بدأت في غزّة يوم الخميس الماضي ٢٠/٦/.٢٠٠٨ . فلسطينيّا... وبعيدا عن أيّ رعاية أو رغبات إقليميّة أو دولية، فإنّ الحوار لم يعد مسألة تقنيّة ـ إجرائيّة مطلوبة لذاتها، أو لتكريس مبدأ الشّراكة الفوقيّة، بل هو روح وجوهر عمليّة ابتناء إستراتيجية للكفاح تتجاوز بؤس الشّروط السّابقة كلّها، تلك التي قادت إلى قسمة واقتسام المجتمع وانقسام النّظام السّياسي والجغرافيا الفلسطينيّة، نتاجا لعقليّة سائدة في الفكر السّياسي، شكّلت كوتا المحاصصات وروحيّة التّنازع للاستيلاء على قيادة المجتمع الوطني كلّه النّابعة من روحيّة النزوع الهيمني، واحدة من مسبّبات، بل المسبّب الرّئيس للنّفور منها والخروج عليها. من هنا تشكّل المعالجة الرّاهنة للوضعيّة السّائدة؛ علة العلل التي قد يكون في إمكانها أن تشكّل نقلة نوعيّة باتّجاهات إنقاذيّة للوضع الوطني، أو لإبقائه يتردّى في حالة الشّلل التي يطيب لعدد من الأطراف رؤية مصالحه تتحقّق في ظلّها، ومن المؤسف أنّه بالإضافة إلى الأطراف المعادية، هناك بعض أطراف فلسطينية تجد مصالحها في إطالة حالة الشّلل، وتجميد كلّ شيء، حتّى تتحقّق لـ »المقاومة« انتصاراتها »الإلهيّة«، ولـ »المفاوضات« قلبها لكلّ موازين القوى السّائدة، وبما يعاند معطياتها الواضحة اشدّ ما يكون الوضوح، في ظلّ حملات الاستيطان المتواصلة والجدار والحواجز والحصار والقمع والاعتقالات والقتل اليومي.. إلخ، من ممارسات احتلالية، لا تروم سوى تأبيد احتلالها وانتزاع المزيد من مكاسب إفقاد الدّولة الفلسطينيّة مقوّماتها حتّى تلك النّاقصة. إن أهداف الحوار ينبغي أن تتجاوز حدود وطبيعة اللحظة السياسية في راهنيتها، لتشمل ما هو أبعد من برنامج، وأوسع من رؤية أحادية، وأعمق مما يجري على السطح، فالوضع الوطني الفلسطيني لا يمكنه تصحيح نفسه بنفسه طالما افتقد تكاملية وحدته الوطنية، وتضامنية ائتلافاته الوطنية الموسّعة التي تعكس تعدّدية المجتمع الوطني والسياسي، وإلاّ فإن الخلل البنيوي السياسي في استمرار يته، سوف يعكس نفسه باتجاه مزيد من اختلالات اجتماعية، قد تذهب بالمجتمع نحو تفسخ نسيجه الوطني. الأولوية القصوى في هذا الإطار، ينبغي أن تكون للتوافق الوطني الائتلافي، ولما يجمع أطراف العمل الوطني الفلسطيني بكافة تلاوينهم وأطيافهم، بما يعكس توجهاً إنقاذياً للمجتمع الفلسطيني في الداخل وفي الشّتات، وقضيته الوطنية من استقطابات البرامج الفئوية والنرجسيات الأنانية، وهذا ما لا يتناقض واحتفاظ كل فصيل ببرنامجه السياسي. أما برنامج القواسم المشتركة الائتلافي فهو ما لا يلغي برامج الفصائل منفردة أو مجتمعة. إنّ دخول الحوار بذهنيّة المحاصصات والرّؤى والأجندات المسبقة؛ إيّاها تلك التي أدّت إلى كارثة الانقسام، وشكّلت نقلة نوعيّة ـ نكوصيّة ـ في مسيرة ومسار القضيّة الوطنيّة الفلسطينيّة كقضيّة تحرّر وطني، وكرّست مصالح سياسيّة وطبقيّة وعشائريّة متباينة هنا أو هناك في الضفّة الغربيّة، كما في قطاع غزّة، وفي الشّتات أيضا. إنّ معطيات هذه هي سماتها الغالبة لن يتولّد منها نتائج إيجابيّة؛ حتى ولو كان الحوار شاملا. وهذا يحتّم التّخلّص من ذهنيّة التحاصص لدى فريقين أو أكثر، ذلك لأنّ الآخرين (لا سيّما قوى اليسار الرئيسيّة: الديمقراطيّة والشعبيّة وحزب الشّعب) لا يقلّون إحساسا بالمسؤوليّة الوطنيّة العليا، وبغيرتهم على المشروع الوطني من أيّ طرف من أطراف الحركة الوطنيّة، التي يسجّل لها قصب السّبق في إطلاقه والتّأسيس لتطوّره اللاحق، والمشاركة والحفاظ عليه من الاندثار، وتحمّل المسؤوليّات التّاريخيّة الجسام في إبقاء شعلة التّحرّر الوطني وضّاءة ومضاءة، وسط عتم نزوع ونزعات (الجدد) من محافظي الليبراليّة الزّائفة المتوحّشة، ومن سياسويين ودنيويين وجهادويين وسلفيين وقاعديين، أضحت تعجّ بهم معطيات واقعنا العربي.. والفلسطيني؛ خاصّة في قطاع غزّة خلال الأعوام التي سبقت العام الماضي من حزيران ٢٠٠٧ وحتى الآن، حيث نمت وترعرعت في ظلّ سلطة أو لا سلطة »حماس« العديد من فروع أولئك (الجدد) من جهادويي وسلفيي قاعدة تعترف أو لا تعترف بها القاعدة الرّسميّة. وحده قانون النّسبيّة أو التّمثيل النّسبي الكامل، في حال تطبيقه في كلّ مجالات التّمثيل والمشاركة والانتخابات في كافة الإطارات، يمكن له أن يبلور ويفرز قيادة وطنيّة ائتلافيّة تعدّديّة، ممثّلة حقّا لكامل قطاعات وفئات وشرائح الشّعب الفلسطيني في الدّاخل وفي الشّتات، ذلك أنّ الضّرورة الوطنيّة الراهنة تستدعي الوصول إلى تحقيق وحدة وانسجام قوى المشروع الوطني التّعدّدي، وتخليصه من شوائب وطفيليّات سلطويّة استبداديّة نشأت وتنشأ على حوافه ومن داخله. كما ولقطع الطّريق على نمو وإنماء سلفيّات جهادويّة عشائريّة وقاعديّة وغيرها، وقفت وتقف حجر عثرة ليس أمام نزوع التّحرّر الوطني، بل في مواجهة تطوير قوى المجتمع الوطني، وكفاحها من أجل التّقدّم والتّحرّر من الاحتلال كمشروع كولونيالي، ومن الماضي كمشروع تعويقي يتوازى في معوّقاتـه ومخاطره مع مشاريع الاحتلالات الكولونياليّة على مرّ التّاريخ. http://www.miftah.org |