فلسطين..."واقعية" رايس
الموقع الأصلي:
في مقال مطوّل ومهم في آخر عدد من دورية "فورين أفيرز" (شؤون خارجية, يوليو- أغسطس) تضع كوندوليزا رايس وزيرة الخارجية الأميركية إطاراً لما تسميه "الواقعية الأميركية لعالم جديد: إعادة التفكير في المصلحة القومية".
في المقال استعراض نظري ومفيد لآليات التفكير السياسي الأميركي وانخراط السياسة الأميركية في مناطق العالم, والتنظير لواقعية تحاول المزج بين المصالح الأميركية ومبادئ الديمقراطية وحقوق الإنسان. وهذا المزج, أو محاولة تحقيقه, هو التحدي الكبير الذي واجه كل سياسة خارجية أميركية وغربية منذ عقود, سواء أكان المزج المُعلن صادق النية أم لا. ومن هنا فإن كانت "الواقعية الجديدة" تعني التركيز على محاولة تحقيق ذلك المزج فليس فيها من "جِدة" على الإطلاق. لكن بعيداً عن دقة العنوان تبقى مضامين ما كتبته رايس في غاية الأهمية. طبعاً يمكن أن تُقرأ مقاربة رايس، وخاصة في مثل هذا التوقيت قبيل الانتخابات الرئاسية على اعتبار أنها إعادة تقديم طلب للمرشح "الجمهوري" جون ماكين لاستمرار اعتماد رايس وزيرة للخارجية في حال نجاحه. فهي هنا تقدم له أوراق اعتماد ونظرة شاملة لما تراه من سياسة أميركية خارجية. كما تتفادى نقاش بعض الأفكار التي يتحمَّس لها "ماكين" لكن يبدو أنها غير متحمسة لها, وخاصة فكرة إنشاء رابطة للديمقراطيات. ويصعب مناقشة أو حتى تلخيص مقالة رايس في سطور سريعة, لذلك وعلى رغم المخاطرة بالابتسار والانتقائية، من المفيد التوقف عند رؤيتها للسياسة الخارجية الأميركية إزاء الشرق الأوسط وخاصة قضية فلسطين. تقول رايس: "لعدة عقود ركزت السياسة الأميركية بشكل شبه حصري على الاستقرار. وقد كان هناك حوار قليل, وبالتأكيد لم يكن حواراً علنيّاً, حول الحاجة إلى تغيير ديمقراطي... لفترة ستة عقود وتحت الإدارات الديمقراطية والجمهورية (في البيت الأبيض) كانت هناك مقايضة أساسية حكمت انخراط الولايات المتحدة في الشرق الأوسط الكبير وهي دعمنا للأنظمة السلطوية مقابل دعم تلك الأنظمة لمصالحنا المشتركة في الاستقرار الإقليمي. لكن بعد الحادي عشر من سبتمبر صار من الواضح بشكل متزايد أن هذه المقايضة القديمة أنتجت استقراراً زائفاً. فلم تكن هناك أية قنوات شرعية للنشاط السياسي". والواقعية الجديدة بمنظور رايس هي التركيز على الدمقرطة, وخاصة في الشرق الأوسط, كمكوِّن للسياسة الخارجية الأميركية. لكنها لا تقول لنا حجم ذلك المكون الحقيقي إزاء المصالح والمكونات الأخرى. تُبرز رايس ثلاثة تحديات أساسية تواجه الولايات المتحدة في الشرق الأوسط وهي على الترتيب: "مواجهة التطرف الإسلامي", "إيران", و"إنهاء الصراع بين الإسرائيليين والفلسطينيين". وتستخدم تعبيرات صارمة وحازمة إزاء التحديين الأولين, لكنها تتبنى لغة ناعمة إزاء التحدي الثالث لأن إسرائيل طرف فيه. مشكلة رايس كما هي مشكلة السياسة الأميركية الحالية (والماضية دوماً) هي في عكس الأولويات والهروب من السؤال الأساسي حول مركزية قضية فلسطين في الشرق الأوسط، وأن عدم حلها سيظل مُنتجاً لأنواع متلاحقة من التحديات وردود الأفعال. إذ كيف ستواجه رايس تحدي التطرف الإسلامي الذي يعتاش على بيئة معبأة بالنقمة والغضب على السياسة الأميركية بسبب تجاهلها للتطرف الإسرائيلي وتغوُّله الدائم وانتقال نظامه الاحتلالي إلى نظام عنصري الآن؟ بدل أن تضع تحت "البند رقم واحد" من الأولويات "إنهاء الاحتلال الإسرائيلي" (وليس إنهاء الصراع بين الإسرائيليين والفلسطينيين) اختارت أن تضع هذا "التحدي" في ذيل قائمة الأولويات, بما يعني أن الجهد والوقت والتفكير والسياسة ستكون مصوبة على الأولويات الأولى، وما يتبقى من جهد يُخصص للمسألة الفلسطينية. وكلنا يعلم أن هذه التراتبية تعني سياسة لا تدخلية بمعنى "تشجيع الأطراف" على العمل على إنهاء الصراع, وليس التدخل القوي والحاسم لإنهائه كما هو قائم في الأولوية الأولى والثانية. تقول رايس إن التنمية الديمقراطية تحتل قلب المقاربة الأميركية لحل الصراع الإسرائيلي- الفلسطيني. وتفسر ذلك بالقول بتولد قناعة عند الإدارة الأميركية مفادها "أن الإسرائيليين لن ينعموا بالأمن الذي يستحقونه في دولتهم اليهودية (لاحظ استخدام تعبير يهودية الدولة), وأن الفلسطينيين لن يحصلوا على حياة أفضل يستحقونها في دولة لهم، من دون وجود حكومة فلسطينية قادرة على ممارسة مسؤولياتها السيادية إزاء مواطنيها وإزاء جيرانها". في هذه الفقرة المركزية من مقالة رايس هناك الكثير ليس من التناقض فحسب في مسألة الدمقرطة برمتها, وليس فقط الانحياز التقليدي لإسرائيل، بل الاقتراب من حدود العنصرية. عندما تركز رايس على المدخل الديمقراطي لحل القضية الفلسطينية وتضع الفلسطينيين تحت طائلة المسؤولية التاريخية لإنتاج شكل سياسي يحقق أمن إسرائيل, لا تتورع عن الانزلاق لتأكيد "يهودية الدولة" الإسرائيلية بما يتناقض مع أية رؤية أو منطلق ديمقراطي أيّاً كان. فكيف تكون إسرائيل ديمقراطية ويهودية في آن معاً؟ لماذا تريد رايس من الفلسطينيين أن يكونوا ديمقراطيين وتجعل شرطهم الديمقراطي أولياً لإنهاء الصراع, فيما تقبل عنصرية إسرائيل وعدم كونها دولة لكل مواطنيها أولاً, ثم كونها تؤسس نظاماً عنصريّاً في الضفة الغربية يقوم على المؤسسة الاستيطانية المخيفة؟ بل لماذا لا تشير رايس لا من قريب ولا من بعيد إلى المستوطنات والمستوطنين أساساً؟ فعندما تذكر بشكل سريع أن الدولة الفلسطينية يجب أن تنشأ عبر المفاوضات حول القضايا الصعبة مثل الحدود واللاجئين ووضع القدس, تُسقط المستوطنات التي تنخر في أرض الضفة الغربية، والتي ما عادت تسمح أساساً بقيام تواصل جغرافي فلسطيني يتيح قيام دولة أو دويلة. ولكنْ، ليس معنى ما سبق رفض المدخل الديمقراطي لتأسيس نظام سياسي فلسطيني فعَّال, ولا الدفاع عن أي شكل سلطوي غير ديمقراطي في الحكم. لكنَّ هناك تقديماً للعربة قبل الحصان في الموضوع الفلسطيني يهدف إلى ديمومة وضع الفلسطينيين منذ سنة 1993 وحتى إشعار آخر في موقع الدفاع عن النفس وإثبات الأهلية والكفاءة كي يستحقوا ما تتفضل إسرائيل بمنحهم إياه. فعليهم أن يثبتوا أنهم "شركاء" وأنهم قادرون على اجتياز قائمة دائمة الاتساع من الشروط والاختبارات التي تضعها لهم إسرائيل والولايات المتحدة حتى يحصلوا على الحد الأدنى من حقوقهم. ومرة أخرى هناك شبه عنصرية في مثل هذا الاشتراط لأن الحقوق ليست منوطة بـ"حسن السلوك" فالأولى سابقة على الثانية فلسفيّاً وإنسانيّاً وسياسيّاً. لكن ما سبق يشير إلى معالجة مُستفزة من قبل رايس, والتي تعتبر الأكثر عقلانية في الإدارة الأميركية المتطرفة الحالية, وهي معالجة لم تذكر لفظة "الاحتلال الإسرائيلي" ولو مرة واحدة, ولم تذكر "معاناة الفلسطينيين" ولو مرة واحدة, ولا أن حقوقهم الإنسانية والديمقراطية منتهَكة من قبل الدولة المحتلة ولا مرة واحدة. ما شغل بالها هو مطالبة الفلسطينيين بأن يكونوا ديمقراطيين وألا يختاروا التطرف (حماس), وغاب عنها أو تجاهلت أن بلدها وإسرائيل يخلقان ظروفاً في فلسطين لا تؤدي إلا إلى نتيجة واحدة وهي استقواء التطرف الذي ربما يبرز عما قريب على شكل "القاعدة" التي تسيطر على التفكير الأميركي الجديد وتسيسه وتحتل مرتبة التحدي الأول عنده. في التمهيد للتحديات الثلاثة التي تراها رايس تواجه الولايات المتحدة في المنطقة (التطرف الإسلامي, إيران, إنهاء الصراع الإسرائيلي الفلسطيني) تُعدد المصالح الحيوية لأميركا في الشرق الأوسط وهي التالية: أمن الطاقة, عدم انتشار الأسلحة النووية, الدفاع عن الحلفاء والأصدقاء, حل الصراعات القديمة, وأهم من ذلك كله الحاجة إلى شركاء لمواجهة التطرف الإسلامي. ولن تنجح أية سياسة أميركية طويلة الأمد في المنطقة في المحافظة بالسلم والديمقراطية على أي من تلك المصالح ما لم يتم اعتبار "إنهاء الاحتلال الإسرائيلي, وإقامة دولة فلسطينية كاملة السيادة" كواحدة من المصالح الحيوية الأميركية في المنطقة. عندها, وبعد تحققها فقط, يمكن لتنظير رايس حول بناء علاقات صحية بين الولايات المتحدة والشرق الأوسط أن يجد أرضاً تستجيب له. http://www.miftah.org |