سعيد العتبة! أقدم حُرّ على الأرض
بقلم: د. المتوكل طه
2008/7/24

الموقع الأصلي:
http://www.miftah.org/display.cfm?DocId=9544

ليس لهذا النصّ الموجع أنْ يتوقّف، حتى يتخثّر دمنا، ونغادر بيت العزاء، ليليق بنا الحزن الجليل. وليس للأمهات شقائق الحقول، حتى يتحرّر العشبُ من أنياب الحديد، وجدران الغرباء الطازجة.. العنصرية. وليس للسجين غناء القرى، وأمسيات الحجل على المشارف، وعَرق الفَرس العسليّ، حتى تدخل الزفّةُ الرانخةُ فضاءَ الأكتاف دون الحواجز والتلال المُثقلة بإسمنت المملكة اللاتينية الجديدة.

وليس لسعيد العتبة لغة تتسع لسنوات عُمْره المقدود وراء القضبان، وفي حمأة الغاز المسيل للعار، والتفتيش المباغت، والجوع الفارم للأمعاء، ولزهرة السيجارة المتّقدة من قلبه، وفنجان قهوته البلاستيكي المتأمّل، ورعدة نبضه التوّاق، والذكرى المُطفأة وراء ضباب الإبتعاد، ورطوبة القيظ اللّزج، وبرد الأسداف، والعزل على حافة الجنون.. حتى تجعل منه تلك السنوات نبيّاً جديداً يجترح حروفاً لكتابه الصعب الفريد.

وليس للعالم إلاّ أن يخشع قليلا، أمام كهولة صعدت من فتوّتها، إلى احتمال الرُمّانة الناضجة فوق فوهة البئر، وهي تمرّ على شفرات الأمل، لتبلغ أرضاً يقترحها الحُلم، والواجب الذي تخلّى عنه أصحابه الشرعيون، ونسيوا أجمل أخوتهم في الجُبّ البعيد.

وليس لهذه الرداءة في خِطاب المرجعية إلاّ الخجل أو الخَرس، حيث لا ذريعة ولا تبرير ولا مرافعة تُقنع أحداً، بأن تلك المَظْلَمة ما كان لها أن تتوقف قبل أن تبلغ شيخوختها الثانية والثلاثين. لم ألتقِ سعيد العتبة، لكنه أخي الكبير، واسم بلدتنا المطوّقة بالعزل والفوّهات، فصارت مَعزَلاً للموت والعمالة السوداء والانكسار، وهو كأسي المحطومة على خوان فرحي الذي انقلب إلى دّكّة للموتى.

وسعيد السجين هو نزول المأذنة عن السور والآيات، لتصبح حجارة الجامع حائطاً للبكاء الهجين.. وسعيد تكلّس المخيم وبقاء المجرى الشاهد على الإقتلاع، ومقعد اللاجئة الباكية على حجر الطريق الذي شهد صعود الدالية، لكنه سرعان ما رأى المؤامرة التي باعت المسيرة والشواهد والدماء.

سعيد العتبة في معتقله، صورة ضعفنا الكابية، وتجليات هزيمتنا في ارتداد الذات وهي تمزّق ذاتها، وفي تقمّصها لقاتلها، وفي فوضاها الهشّة العشائرية وهي تقطّع منظومتها الأخلاقية وتلعن كلماتها التي كانت تسطع كفراشات النار، وفي قبولها لنقيضها وارتمائها في حضنه الغارق بدم صغارنا، وفي معانقة سيّاف السنابل والحبق الطريّ، وفي انعدام ثقتها بنفسها وبتاريخها وحضارتها وغدها، وفي آليات البحث عمّا يعوّضها، من كذب وَوَهْمٍ وخطابات ملعونة خادعة.

سعيد العتبة اختصار لمعادلة الإقليم، وانطباق الفخاخ على عنق الغزال البريء.

وسعيد العتبة البرهان المشعّ المدوّي والشاهد على تكاذب المتفاوضين. وهو الرمز الأعلى واللاّزمة التي نكررها، بمحبةّ وكبرياء مجروح، كلما دهمتنا الكآبة، وحاول النسيان أن ينال من وردتنا الوحيدة الباقية، وأعني الشهداء مع وقف التنفيذ، الذين يخاتلون الرمل والرغبات والأحلام واليقظة المُلحفة في سعيها إلى الخلاص.

وسعيد العتبة طابع بريدنا الذي نختم به رسائلنا العاشقة، إلى ذلك المأمول الذي ننتظر ولادته، وسيجيء، أو ننتظر خروجه من خلف الأبواب الغليظة الثقيلة الصدئة، وسيكون حضوره ملء الشمس وفوق الكلمات التي نبحث عنها، فتهرب من ضعفنا وعجزنا وبحثنا عن خلاصنا الشخصي الممقوت، وستلد معه الأناشيد، وستخرج الحقائب المعبأة بالألوان، ونهتف من جديد.

سعيد العتبة أقدم سجين على هذا الكوكب، هو فلسطين التي تعتبر أقدم ضحيّة على هذه البسيطة المعقّدة، التي تسيطر عليها حاملات المجرمين وكارتيلاّت المحتلّين الجدد للعواصم والأنهار والآبار. ولعل سعيد يستحق أن يدخل الموسوعة المتميزّة من باب البقاء حارساً لأحلام وثوابت شعبه وأُمّته، وليس من باب الألم أو اعتباره ذبيحة معلّقة على مرأى من الساسة ومنظري حقوق الإنسان وأصحاب المقولات المقلوبة،الذين يدعمون اسبارطة في تطوير طوطم رعبها النووي، لتمعن في لحم الطيور والرُّضّع والنساء.

وإن احتمال دولة الإحتلال بإبقاء سجين في زنازينها طيلة أثنين وثلاثين عاماً، هو دليل آخر على عقليتها التي طوّرت كل أشكال القمع عبر التاريخ، وأعادت إنتاجه على جلودنا، والتي تزّج بالجثث في ثلاجات السجن، وبالأطفال في أتون المعسكرات الإعتقالية المرعبة، وهو ودليل مكرور بأن هذا الكيان لا يعرف سوى الموت ثقافةً ولغةً، ولا تردعه سوى القوة والكوابح المُقاوِمة.

وإن العتمة المختزنة والمكثفة في باستيلات الاحتلال كافية لأن تفور وتُغرق نصف الكرة الأرضية بسوادها الثقيل، غير أن إرادة الأسير الفلسطيني والعربي استطاعت أن تحيل تلك المخازن الخانقة إلى قلاع تضجّ بالإرادة والثبات والحياة والضوء، وأن تفتح البراري، ثانيةً، للخيول. وقد يكون سعيد العتبة هو الثروة الحاضرة الأكبر، الآن، في فلسطين، والتي تدلل على عمق تراجيديا شعبنا ومأساته، وعلى مدى المعانيات التي يواجهها هذا الشعب، ليردّ على غوائل إلغائه وشطبه. وإن هذه الثروة النضالية والإنسانية والوطنية كفيلة لأن تؤصّل لبداية مختلفة لوحدة الحراك والعمل الفلسطيني، لقادة الفصائل والحركات والأحزاب، الذين قطعوا شرايينهم بأيديهم ودخلوا إلى غرفة الإعدام، أو تحلّلوا ضعفاً ومصالح، وغسلوا يد الإحتلال من دم الأجنّة والأشجار والبيوت، بقصد أو بغير قصد، لتصل اللحظة إلى مواجهة حاسمة ستقع عمّا قريب، ستودي بنا إلى الغياب الكامل، إن بقينا على حالتنا المرتكسة المتشظية الخائبة، أو سنحقق انطلاقة جديدة، واجبة الوجود، إذا احتسبنا واحترمنا سنوات سعيد، ودماء الشهداء، ودموع الأيامي والأيتام، ولهفة المنتظرين خلف السياج.

ونسأل أنفسنا، هل استطعنا أن نجعل من زهرة عذابنا شمساً تشرق على العالم ليرى نفسه ويرانا؟ هل يدرك العالم معنى أن يُمضي إنسانٌ عمره وراء القضبان، ويظل هذا العالم سادراً في كلماته وخطواته، ويهنأ في حياته، وعلى مرمى نظرة منه أحد عشر ألف سجين وسجينة، عشرات منهم بلغوا عامهم الثلاثين في الأقبية وعلى الأبراش، في سجون لا تشبه إلاّ صورة الهلع الفاشي ومعسكرات الإبادة والجينوسايد؟

يا سعيد العتبة، با اسمنا السريّ الحَسَن الذي فضحه التاجر في عتمة التخلّي العربي عن اسمه وحقوله! ربما مللنا ترداد تلك الجملة العبثية المتعلّقة بتلك المفاوضات العبثية، التي تغطّي على جرائم القاتل وتمنحه شرعية النهب والتهويد والساديّة، في مدن الحواجز وفي زمن السلام الجنائزي الاستيطاني المخيف.

يا سعيد يا تمثال الضوء على كل مفرق ودرب، يا روح الأوائل المتبقّية، لتعيد إلينا ملامح الطهارة والإلتزام، ويا لمسة الأم على نبض جنينها الآتي عمّا قريب.. يكفيك أنك أقدم حُرّ على هذه الأرض، ويكفينا أننا نجد زاداً، من لحم عمرك، لنواصل الخطو إلى الشمس، وأننا على يقين بأن القيود تتغضّن على معصميك أيها المصاب بالحريّة والحياة.

وهل نخرج من رتابة الخطاب الجاهز الغاضب، ونلج إلى هذه الحالة الإنسانية الفريدة المميزة، ونبحث عن أشياء سعيد العتبة التي تركها قبل عقود في نابلس، ويشتاق إليها، وعن أمّه التي لم تحضنه منذ سنوات الإغتصاب العجاف، وعن تفاصيل يومه ومقاطع لياليه الطوال، وعن هواياته المقتولة، ورغباته المطمورة، وعن أمنياته الصغيرة التي ستظل ثابتة مثل سيف البحر وسارية العاصفة العنيدة، وعن خيول ضلوعه التي تتفلّت من حبسها، لتكشف عن النهر الصاخب الفتي الذي ينبع من سويداء صدره، وسيصبّ في جبل النار، نابلس، الكنعانية، قصر فلسطين الحجري العالي، مروراً بعسقلان الرباط وحيفا القسام، وبدءاً من قبّة البرتقال والقيامة، وحتى لا تجد امرأة ضرورةً لترداد ما قالته أمّ المصلوب الثاني، بأن الوقت آن وأزف لهذا الفارس كي يترجّل.

http://www.miftah.org