اللحظة المريضة في حياتنا السياسية!
بقلم: مهند عبد الحميد
2008/7/29

الموقع الأصلي:
http://www.miftah.org/display.cfm?DocId=9562

الحالة الفلسطينية لا تسر صديقاً ولا تغيظ عدواً، اللا معقول هو الآن سيد الـموقف، والسقوط في الاختبار لا يعطي مجالاً للشك.

عادةً تتعرف الشعوب والدول والأحزاب إلى عناصر قوتها وضعفها في الأزمات والـمحن. كم من محنة ألـمّت بهذا الشعب العريق ونجح في احتوائها باقتدار. لكن جريمة التفجيرات السوداء جاءت لتفقد قوى سياسية وسلطات الحكمةَ والصوابَ!.

مَن في عالـم ثورة الـمعلومات والاتصالات يلجأ إلى التحليل السياسي في تدبيج التهمة وإلصاقها بالتنظيم الأكبر والسلطة والرئاسة؟! ألـم يلحظوا أن مدرسة التحليل النفسي تحتاج إلى شوط طويل من الجلسات والتداعيات للتعرف إلى أعراض مرض.

عشرات الجلسات استغرقها سيغموند فرويد مع مرضاه كي ينجح جزئياً في تحليله النفسي، خلافاً لذلك يأتينا التحليل السياسي مقدماً الاتهام بالجريمة والحكم على منفذيها بعد دقائق محدودة. قد يقع البعض في ردات فعل متسرعة لكنه لا يلبث طويلاً قبل تصويب الـموقف والعودة إلى حكمة العقل. للأسف، لـم يحدث التصويب وتم ركوب الحماقة والإبحار بها في كل صوب واتجاه.

إجماع فلسطيني رسمي وشعبي ضد جريمة التفجيرات الثلاثة، وضد تعريض حياة أي مواطن فلسطيني للـموت والخطر، وضد استخدام القوة في حل الخلافات السياسية، وضد الإرهاب الفكري والـمسّ بالحريات وسلطة الحزب الواحد. لا يستبعد من هذه القاعدة خروج فئة أو قلة عنها. وفي هذه الحالة يصار إلى تقديم كل من يخرج عن القاعدة إلى العدالة من أجل محاكمته وفقاً للقانون. ما حدث هو تعميم الاتهام ليشمل تنظيماً برمته. والأخطر من ذلك هو شروع سلطة حماس بممارسة ذلك النوع من العقوبات الجماعية، كالاعتقال الجماعي، وإغلاق ونهب عشرات الـمؤسسات والـمكاتب بما في ذلك مكاتب أعضاء في الـمجلس التشريعي تملك حصانة دبلوماسية، ومؤسسات أهلية تشارك في تنفيذ مشاريع ممولة من وكالة الغوث الدولية، وأندية رياضية، واتباع إجراءات صارمة ضد الإعلام والصحافة. وعندما اعترض الجميع على هذه الإجراءات، أعاد محللو حماس وناطقوها تبرير الإجراءات بوقوع تلك الجريمة النكراء. وقالوا إنهم وجدوا أسلحة في تلك الـمؤسسات دون أن يكشفوا عن تلك الأسلحة للرأي العام.

الخطاب الإعلامي هو الأخطر في هذه اللحظة الـمريضة، ولحماس باع طويل في إغلاق أية مسامات للاستماع جراء الاتهامات الإطلاقية الحادة والـمنفّرة والعصيّة على السمع. الخطاب يؤجج عدائية ويقطع الطريق على احتمال استعادة الثقة وجمع الصف في مواجهة الخطر الخارجي (الاحتلال). الشعب يتوزع على خريطة سياسية وتنظيمية متعددة الـمشارب والاتجاهات وكان موحداً طوال الوقت ضد الـمشروع الكولونيالي. ولكن عندما يتم إلصاق تهمة التخوين والتجريد من كل صفة إنسانية بطرف سياسي، ويتم وضعه في فسطاط الشيطان في مواجهة فسطاط الرحمن فإن الحكم لن يكون بأقل من القتل الذي يفجر حرباً أهلية. إن هذا النوع من الإعلام يشعل الحرب وفي أقله يكرس الانقسام. بعدئذ كيف يمكن تخيل حوار يجمع الرحمن بالشيطان!!

ماذا تريد حماس من تصعيدها غير الـمسبوق؟ ولـماذا فقدت توازنها؟ في مرحلة نشأ فيها اتجاه شعبي وسياسي أكثري متعاظم يدعم استعادة وحدة الوطن والشعب والسلطة والـمنظمة، وينتظر بدء حوار وطني جدي في القاهرة، يضع حداً لـمهزلة الانقسام.

"بعد أربعين يوماً على التهدئة: فوجئ باراك من شدة التزام حركة حماس بالتهدئة مع إسرائيل، وأضاف: حماس تعمل بجد لوقف إطلاق الصواريخ أكثر مما كنت أتوقع". هل ظنت حماس أن اضطراب الوضع الداخلي قد يفسد مسار التهدئة. والـمسار الـمتوقع مقايضة التهدئة بالاعتراف الواقعي بسلطة حماس القادرة على مسك الأوضاع في قطاع غزة. والحلقة الثانية وبعد النجاح الكبير في القطاع لـما لا تنتقل سلطة حماس إلى الضفة الغربية وبالتالي تصبح إسرائيل أمام سلطة قادرة على الضبط والربط. وتعم الهدنة وقتاً طويلاً دون حل. فحماس لا تريد الاعتراف الـمباشر بإسرائيل ولا تريد إبرام حل يتناول قضايا الوضع النهائي. تريد بقاء الأوضاع بانتظار انتصار الإسلام السياسي وتغيير موازين القوى، أو بانتظار انهيار إسرائيل كما تنبأ أكثر من مفكر إسلامي. وحكومة الاحتلال تريد أن تتحلل من استحقاقات حل الدولتين. وتمضي في فرض حل من طرف واحد هو نظام أبارتهايد يضم خمسة بنتوستونات ضمن قبضة أمنية واقتصادية محكمة الصنع. ما يهم إسرائيل هو وجود سلطة قوية تضبط البنتوستونات من داخلها، وتصبح هي الشرعية الـمعترف بها عملياً وواقعياً وليس رسمياً. هل تقبل حماس بلعب هذا الدور مقابل السيطرة الداخلية على الـمجتمع؟ إن تحويل قضية الشعب الفلسطيني في القطاع إلى قضية معيشية وعدم الدخول في معركة مصير القدس واللاجئين والـمستعمرات والحدود والجدار والدولة، هذه القضايا الـمطروحة راهناً على طاولة الـمفاوضات وعلى الأرض، هذا الـموقف لا يبشر بالخير، كما أن التلكؤ في استعادة الوحدة والانخراط في الـمبادرات مؤشر آخر على سلبية موقف حماس. ثم جاء الرد الحاد والـمبالغ به على جرائم التفجير وفتح معركة كبيرة للحسم مع "فتح" والرئاسة والـمنظمة ليعزز الشك.

مقابل ذلك، فإن تقديم بعض الـمسؤولين في "فتح" والـمؤسسة الرسمية تحليلاً يقول إن ما جرى هو صراع داخل صفوف حماس دون دليل وسند وبلغة قاطعة هو الوجه الآخر لتحليل حماس الذي وزع الاتهامات اليقينية، واتخذ الحكم وترجمه على الأرض. كما أن تنظيم حملة اعتقالات جماعية (46 مواطناً) في مدينة نابلس بمجرد الانتماء لحركة حماس يشكل الوجه الآخر لحملة الاعتقالات الجماعية 220 مواطناً في قطاع غزة لـمجرد الانتماء لـ"فتح". عودنا بعض الـمسؤولين الأمنيين وبعض السياسيين أن يمحوا سريعاً عنصر التفوق الذي ينشأ في الصراع الداخلي، وأن يعوموا الـمشكلة اختراق هنا واختراق هناك، حماقة هنا وحماقة هناك، ليزيدوا حالة الإحباط واليأس في صفوف الـمواطنين.

ليبدأ أصحاب الـمشروع الوطني بإيقاف التحليل السياسي، والرد على الانتهاكات بالـمثل، وتجاوز القانون بالـمثل. وذلك من أجل دفع الاستقطاب الشعبي النابع من الـمصلحة الوطنية الحقيقية، والسماح بتدخل جماهيري ضد مسار الأبارتهايد والسلطة القمعية. من مصلحتنا جميعاً ومن مصلحة "فتح" أولاً الكشف عن مرتكبي الجريمة وتقديمهم للـمحاكمة.

http://www.miftah.org