الاستباحة الإسرائيلية .. إلى أين؟
الموقع الأصلي:
قبل الانتخابات الإسرائيلية كان التصعيد الدموي ضد الشعب الفلسطيني، نوعا فريدا من الدعاية الانتخابية، وأسفرت تلك الدعاية الدموية عن نجاح شارون ومعسكر اليمين بشكل غير مسبوق. والآن، أصبح الشغل الشاغل للعالم إما التحضير للحرب، وإما العمل لمنع الحرب. وفي هذا المعمعان السياسي الصاخب تتواصل الجرائم الإسرائيلية، من أعمال قتل وتنكيل وحشي وتدمير وعقوبات جماعية وإذلال، والتي أصبحت عادة يومية يشاهدها العالم مع قهوة الصباح وقبل النوم على الفضائيات، ويتعايش معها، أصبح إهراق الدم الفلسطيني بوحشية منقطعة النظير أمرا مقبولا واعتياديا !لا أحد يحرك ساكنا ويقول كفى قتلا للأبرياء، وكفى تدميرا لمنازل الأبرياء، فالهيئات الدولية لا تدافع عن قراراتها هنا! والدول شمالا وجنوبا لا تنصح إسرائيل بالتوقف عن أبشع الانتهاكات والانضباط للقرارات والقوانين الدولية كما درجت على نصيحة العراق! والأشقاء حائرون! وحتى منظمات حقوق الإنسان لم ترفع صوتها! ويؤمل أن لا تنسى توثيق الجرائم والفظاعات، لتصدر في تقرير نهاية العام، ونحن ما زلنا في بدايته لسوء طالعنا. إن ما يحدث الآن خطير جدا، فإسرائيل التي تقودها الاتجاهات اليمينية العنصرية المتطرفة، تستفرد بالشعب الفلسطيني، وتوجه ترسانتها العسكرية لقمعه وإرهابه وتثبيت احتلالها لأراضيه دون اعتراض أو مساءلة من أحد، بل إنها تلقى التأييد والمساندة الأميركية. إنها كما نرى، تضع الشعب الفلسطيني في أسوأ شرط منذ بداية المشروع الصهيوني وحتى الآن. لقد فتح الصمت الدولي واللامبالاة العربية الشهية الإسرائيلية، ليس في مجال القتل والمجازر والعقوبات الجماعية ووضع شعب بأكمله بصيغة رهينة محرومة من أبسط الحريات، بل وفي مجال قضم المزيد من الأراضي الفلسطينية ومضاعفة البناء الاستيطاني ونقل المزيد من المستوطنين ومضاعفة حجم المستعمرات القديمة واستحداث عشرات المستعمرات الجديدة، وفي مجال اختراق التجمعات السكانية العربية في قلب الخليل ووسط مدينة بيت لحم وداخل الأحياء العربية في مدينة القدس، وفي مجال تفتيت بنية المجتمع الفلسطيني من خلال فصله عن الأراضي المصادرة بالسور الواقي، وتدمير مؤسساته أو شلها، وكل هذه الإجراءات يمكن تسميتها، ترجمة مشروع اليمين الإسرائيلي العدمي الذي يستهدف حسم السيطرة على الأرض والشعب بالقوة الغاشمة وتثبيت الاحتلال توطئة "للمفاوضات" المقبلة التي تنطلق من الوقائع المفروضة على الأرض، حيث لن يجد "المفاوض الفلسطيني الجديد" ما يتفاوض عليه، لترجمة "الرؤية الأميركية"، "وخارطة الطريق الرباعية" اللتين حولهما شارون إلى متاهة لا نهاية أو مخرج لهما، وخاصة بعد التعديلات المائة التي قدمتها الحكومة الإسرائيلية. قد يعزى الصمت الدولي والعربي على الاستفراد الإسرائيلي الرهيب بالشعب الفلسطيني، بالحجة القائلة، إن الوقت لم يحن بعد للتدخل بفعل الانشغال الدولي والعربي بالحرب الوشيكة الوقوع، ولكن وحسب ما يجري على الأرض، وعندما يحين التدخل الموعود، كم سيكون حجم الحصاد الإسرائيلي! حجم الدمار في حقول الإنسان والأرض والمؤسسات الفلسطينية! إزاء ما يجري من أخطار وأهوال، ما العمل؟ في البداية يندر أن يكون شرط النضال الفلسطيني بهذا المستوى من السوء، كأن يواجه بمجموعة كاملة من العوامل غير المواتية، وهو بصدد إنجاز مهمته التاريخية الممثلة بالتحرر والاستقلال، فالنضال الفلسطيني يواجه تحولا إسرائيليا نحو أقصى اليمين العنصري، حيث أعيد إحياء وتنصيب شارون المطلوب للعدالة الدولية، قائدا مقررا للسياسة الإسرائيلية. ويواجه إدارة أميركية تسعى لفرض هيمنتها على العالم بالقوة العسكرية بدءا من العراق والشرق الأوسط ومن خلال التحالف والتطابق مع إسرائيل الشارونية. ويواجه انعطافا للنظام الرسمي العربي نحو علاقات تبعية جديدة، تفصله عن القضية الفلسطينية. ويواجه أيضا حالة الضعف والشلل التي أصابت القوى الديمقراطية العربية وجعلتها متخلفة كثيرا ومنعزلة عن الجماهير العربية، والأسوأ والأخطر من كل ذلك، فان النضال الفلسطيني يواجه مزاجا جماهيريا عربيا سلبيا في سائر البلدان العربية، ذلك المزاج الذي يميل منذ زمن طويل للصمت والانتظار وعدم المبادرة بفعل العوامل السابقة مضافا إليها القمع الرسمي العربي، وضعف العوامل المحفزة وخاصة "نموذج الانتفاضة غير الموحدة"، وخطابي السلطة والمعارضة الفلسطينيين اللذين يفتقدان إلى المبادرة. في ظل الشروط غير المواتية السابقة الذكر، تكون انسداد سياسي هو الأعقد من نوعه، والسؤال غير القابل للتأجيل الآن، كيف تتعامل قيادة النضال الوطني الفلسطيني الرسمية وغير الرسمية مع هذا الانسداد والشروط التي أفضت إليه؟ هل ستدير الظهر للتحولات الخطيرة وكأن شيئا لم يكن؟ هل يستطيع النضال الوطني الفلسطيني تحقيق أي هدف من أهدافه الوطنية في ظل الاستفراد الإسرائيلي بكل ما يعنيه الاستفراد من ترجمة ميزان القوى بين شعب أعزل ورابع أقوى جيش في العالم؟ لا أحد يختلف حول الأهداف الإسرائيلية المعلنة بوضوح، فإسرائيل ترفض المطالب الوطنية المشروعة وتعمل على تقويض مقومات تحقيقها، وتنتقل إلى أهداف أخطر وأشمل من نوع تهديد وجود الشعب الفلسطيني على أرضه. ربما تجتهد بعض القوى السياسية بالقول، إن هذه الظروف لا تسمح بتحقيق الأهداف الوطنية، والبديل أو الرد على هذا الاستعصاء هو مواصلة النضال والمقاومة بانتظار تغيير الظروف. حسن، ولكن كيف نواجه المسعى الإسرائيلي القصدي الأعنف لتصفية النضال وبنيته، ولندقق فيما جرى في مدن الضفة الغربية ومخيماتها وقراها، وفيما يجري الآن في قطاع غزة. والإجابة المتوقعة على لسان تلك القوى هي، مهما بلغ عدد الشهداء والمعتقلين فإننا قادرون على التجديد، وسنبدأ من جديد رعيلا مقاوما تلو الآخر بانتظار تغيير الظروف السيئة إلى ظروف أحسن. ولكن ألا تعني العودة للبدايات نكوصا إلى مستوى أدنى من النضال وإلى مستوى أدنى من الحضور السياسي والتأثير في الأحداث. ثم ألا يعني النكوص إلى البدايات الصفرية، وضع أكثرية الشعب في حالة الانتظار، لا سيما وأن المشاركة الشعبية في النضال، ترتبط أوثق ارتباط بطرح أهداف قابلة للتحقيق في مدى زمني قريب، أهداف تعبر عن مصالح المشاركين الملموسة على الصعيدين الوطني والإنساني. إذا أردنا تحقيق أهدافنا الوطنية المشروعة، صار من شبه المؤكد، أننا بحاجة إلى دعم أطراف واتجاهات إسرائيلية مؤيدة للسلام العادل, ودعم أطراف دولية قادرة على ممارسة الضغوط على إسرائيل، ودعم أطراف عربية بشكل جدي ومسؤول للنضال والمطالب الفلسطينية. إن تفعيل هذه العوامل يلغي الاستفراد الإسرائيلي بالشعب الفلسطيني، ويخلق نوعا من الحماية السياسية والتوازن الضروري على الأرض، ويضع الأهداف الوطنية على أجندة فلسطينية عربية إقليمية دولية بدلا من الاجندة الإسرائيلية. والتفعيل المطلوب لا يأتي ولا يتحقق إلا بانتهاج سياسة وتكتيكات تكسر الاحتكار الإسرائيلي الأميركي الراهن للقضية الفلسطينية، وتحول العالم من متفرجين صامتين إلى فاعلين ومؤثرين بالمعنى النسبي. هناك إمكانية فعلية لتغيير المعادلة الراهنة، فالقضية الفلسطينية تستطيع الاستقطاب والجذب بمستويات كبيرة إذا ما أحسن التعاطي الإيجابي مع المتغيرات، وإذا ما تم تقديم مبادرات في القضايا الكبرى والصغرى تجعلنا لا ننفصل عن العالم، ومن أهم المبادرات: أولا: إذا كان التوقف عن العمليات الاستشهادية ضد المدنيين الإسرائيليين مطلبا دوليا وعربيا، يحظى بموافقة وتأييد الاتجاه المركزي في الحركة الوطنية، وأكثر من 45%من الشعب الفلسطيني، فلماذا لا تبادر جميع التنظيمات إلى وقفها، وطرح الحماية الدولية من أجل حماية الشعب الفلسطيني الأعزل، وتحميل مسؤولية حمايته للمجتمع الدولي. إن القيادة الحكيمة هي التي تتراجع عن بعض الأساليب الضارة مقابل بعض المكاسب السياسية، ومن أجل تخفيف الأضرار والمتاعب التي تلحق بشعبها، وتحقيق التفوق الأخلاقي، والقيادة غير الحكيمة، تنتظر حتى يفرض عليها التراجع بالقوة ولا تأخذ ثمنا له، بل تضاعف من خسارتها وخسارة شعبها. ُثانيا: المقاومة ضد الاحتلال العسكري حق مشروع وواجب وطني، لكن هذا لا يكفي، والمطلوب الإجابة على سؤال، هل المقاومة المسلحة في الشروط والمواصفات الراهنة تصلح كشكل رئيس للنضال، أم أحد أشكال النضال. إن الذي يحدد الشكل الرئيس، ليس الحق ولا المشروعية أو الرغبة في التمايز والتضحية والتفاني، الذي يحدد هو الشروط الواقعية والإمكانية والفعالية النتائج القائمة والمحتملة. فعندما يكون الشعب والوطن في القبضة المحكمة وداخل حصار لا مثيل له، لا يمكن اعتماد المقاومة كأسلوب رئيس، إن أي تدقيق في الخصائص المتناقضة بين الشعب الفلسطيني ودولة الاحتلال الإسرائيلي سيقود إلى الانحياز للانتفاضة الشعبية المنظمة كأسلوب رئيس. وقد ثبت أن الانتفاضة الأولى التي انتهجت هذا الخط كانت أكثر نجاحا وإقناعا وتأثيرا على كل الصعد. وثبت في المقابل أن العسكرة واعتماد المقاومة كأسلوب رئيس ووحيد في الانتفاضة الراهنة قاد إلى تصفية البنية النضالية التحتية في العديد من المناطق، وحول كل الشعب إلى متفرجين ومتلقين للعقاب الجماعي الوحشي، فلماذا لا نعيد الاعتبار للانتفاضة بدون إلغاء الحق في المقاومة. ثالثا: المجتمع الفلسطيني والحركة السياسية متعطشان جدا للتغيير والإصلاح وإعادة البناء، فلماذا لا نبادر إلى الإصلاح بمعزل عن الضغوط ومطالب الإصلاح الأميركية الإسرائيلية المقنعة. إن الإصلاح بالضغوط سيصب في المشروع السياسي للآخر وسيلحق الضرر بالمصالح الوطنية والاجتماعية للشعب. أما الإصلاح بالاستجابة لحاجة المواطن وضرورات النضال فهو الإصلاح المطلوب، وهو الإصلاح الذي ما زال عاثرا، للأسف الشديد. __________ *كاتب فلسطيني يقيم في رام الله. http://www.miftah.org |