لئن كان الفلسطينيون والعرب يعانون من الصدمة بسبب حدة زاوية الانحراف التي تساق إليها فتح يوماً بعد يوم فإن الصدمة أشد هولاً وأعظم وقعاً علي مناصري القضية الفلسطينية من خارج العالم العربي، أولئك الذين ما عرفوا القضية واعتقدوا بعدالتها والتزموا بدعمها إلا من خلال نموذج النضال الذي قدمته حركة فتح في العقدين الأولين علي الأقل من عمرها، والذين كانوا يرون فيها ـ واليساريون منهم بالذات ـ رداً شرعياً علي الغطرسة الإمبريالية يتساوي في أصالته ونبله مع المشاريع النضالية الأخري التي تعلقوا بها ودعموها سواء في فيتنام أو في جنوب أفريقيا أو في أمريكا اللاتينية. يصعب علي المراقب للشأن الفلسطيني ـ سواء قرب أم بعد ـ أن يستوعب ما يجري لحركة فتح التي قدمت الآلاف من الشهداء والجرحي والأسري، والتي قضي معظم قادتها من الرعيل الأول نحبهم غدراً بأيدي صهيونية أو عميلة للصهيونية، تلك الحركة التي كنت وأقراني في الثانوية العامة في أوائل السبعينيات نتغني بأناشيدها الوطنية الجميلة من مثل: أنا ابن فتح ما هتفت لغيرها ومن مثل: لن نركع، لن نركع . لكم كنا نسهر للدراسة ليلاً لا يسامرنا سوي صوت فلسطين تنبعث منه هذه الأغاني الحماسية وغيرها، تطربنا كما يطربنا ما كنا نسمعه من البيانات العسكرية والرسائل المشفرة الموجهة إلي الفدائيين في الداخل الفلسطيني المحتل. كانت فتح حينها نبض قلوبنا، وأمل عمرنا في التحرير والعودة. كانت فتح وطننا إلي أن يعود الوطن، وحلمنا الدائم سواء غفونا أو صحونا. إلا أن الحلم سرعان ما بدأ يتبدد حينما لم يعد زعماء حركة فتح يرون إمكانية الاستمرار في تحدي العالم بأسره بالإصرار علي حقوقنا غير منقوصة، وخاصة بعد أن ضربت المقاومة في الأردن، ولاحقتها الضربات في لبنان، وتكالب عليها الخصوم من كل جانب، فانتهج بعض قادة فتح نهجاً براغماتياً تمثل بالنقاط العشر التي بدأ الحديث عنها في أواسط السبعينيات وتم تبنيها في غفلة من أبناء الحركة وقواعدها رسمياً في أوائل الثمانينيات، مما مهد فيما بعد لسياسة التسليم بالأمر الواقع، والرضوخ لما تقرره الشرعية الدولية ، والقبول بما يمكن أن يجود به النظام العالمي الجائر، وما قد يسمح به النظام العربي الفاقد للإرادة والمشلول عن المبادرة. رغم الانشقاقات، ظلت فتح إلي حد كبير متماسكة، ولم يهجرها الكثيرون من منتسبيها، ولم يعدم من أبنائها من تجاوز طموحه الأهداف الجديدة للقيادة السياسية الوسيلة لممارسة النضال ومقارعة الأعداء علي أرض فلسطين. وكانت القيادة السياسية من الحنكة والفطنة بأن استثمرت ذلك كله ولم تسع لوأده. إلا أن الأعداء كانوا لمناضلي الحركة بالمرصاد، فاغتالوا رؤوسهم، وصفدوا في المعتقلات المئات تلو المئات منهم، وتوالت الضغوط علي القيادة السياسية تارة بالترغيب وأخري بالترهيب إلي أن جاءت طامة مدريد ومن بعدها كارثة أوسلو، فتحولت فتح إلي سلطة مهمتها في الظاهر ترتيب البيت الفلسطيني في الداخل تمهيداً لقيام الدولة، وفي الباطن توفير الأمن للإسرائيليين أملاً ـ إن رضوا عنها وأعجبتهم إنجازاتها ـ في منحها ما يرونه مناسباً من التنازلات، وحينما يروق لهم لا حينما تطلب هي أو تشتهي. كانت سنوات التفاوض بعد توقيع أوسلو محطات تحويلية جري في كل واحدة منها تفريغ حركة فتح من قدر ما من مضمونها النضالي، وفي سبيل تحقيق ذلك مكن الأمريكان والإسرائيليون لنفر من الوصوليين من التحكم بمفاصل الحركة، دربوهم علي البطش بأبناء قومهم وأغروهم بتقديم مصالح الصهاينة علي كل مصلحة وطنية بعد أن ربطت مصالحهم الشخصية بتلك المصالح الصهيونية، فأضحت خدمة المشروع الصهيوني وسيلة للحفاظ علي المكاسب وسعياً حثيثاً في سبيل الاستزادة منها، ولو كان لابن آدم واديان من ذهب لابتغي لهما ثالثاً. وحينما بدأت تطفو علي السطح بوادر خلافات بين هذا النفر الذي صنعه الصهاينة والأمريكان علي أعينهم وبين القيادة التاريخية المتمثلة بالراحل ياسر عرفات، نفض الأمريكان والإسرائيليون أيديهم تماماً من شريكهم في صنع السلام بعد أن أفقدوه الأمل في تحقيق أي سلام، فحاصروه، ثم دسوا له السم في لحظة غفلة من مقربيه، ولعل بعضهم كان وسيلتهم للوصول إليه والإجهاز عليه، ولعل الأيام تبدي ما لا يزال عنا خافيا. كان ينبغي علي أبناء فتح الشرفاء أن يلاحظوا آنذاك ما كان يحاك بهم ويمكر لهم، وكان ينبغي عليهم أن يتحركوا لإنقاذ مشروعهم، مشروع شعبهم النضالي، من براثن الوصوليين والمتسلقين. ولكن، يبدو أن النعرة الحزبية والانتماء القبلي غلبا علي الحس الوطني في لحظة غفلة، فاستمر المتؤامرون علي فتح في غيهم، وانتهي بهم المطاف الآن أن قبلوا بدور الوكيل عن أمريكا وإسرائيل في إجهاض المشروع الجهادي برمته. فلولا هؤلاء الشرذمة لما نجح الحصار علي الشعب الفلسطيني ولما تمكنت القوي الدولية من إدامة العقوبات أسابيع ناهيك عن أن تستمر بها لشهور. لم يعد يخجل أحد من أولئك الذين انحرفوا بفتح عن مسارها النضالي أن يعلن علي الملأ بأنه لا خلاص للشعب من محنته ولا مخرج له من الحصار والعقوبات إلا بأن ترضخ حكومته المنتخبة للشروط الإسرائيلية الأمريكية كما وردت من المصدر. ولم يعد يتورع أحد منهم في أن يحرض بعض منتسبي فتح ـ ويشك المرء في صحة نسبتهم إليها ـ للخروج علي النظام العام إطلاقاً للرصاص وتدميراً للمؤسسات وإغلاقاً بقوة السلاح للمدارس ومراكز الخدمات في وقت أحوج ما يكون الشعب المحاصر إليها جميعاً. إن ما يجري الآن في الساحة الفلسطينية من محاولات لزج المجتمع الفلسطيني في حالة احتراب داخلي ينبغي أن ينبه أبناء فتح الوطنيين، وهم الأكثر سواداً والأكبر عدداً داخل الحركة، إلي ما آلت إليه حركتهم في ظل سطوة نفر لا ينتمون للأمة ولا يريدون بها خيراً. لقد آن الأوان ليتحرك أبناء فتح لإنقاذ حركتهم، ومجتمعهم، وقضيتهم من براثن من يعيثون في الأرض الفساد، علي هؤلاء لا علي حكومة الشعب المنتخبة ينبغي أن يكون التمرد والانقلاب. في ظرف حالك السواد، يستبشر المرء خيراً بلقاء فاروق القدومي في دمشق بقادة الفصائل الفلسطينية وعلي رأسها حماس، فهذا التحرك ـ رغم تأخره ـ مطلوب لسحب البساط من تحت أرجل من أصبحت مرجعيتهم تل أبيب وكعبتهم واشنطن، ومن شجع ضلوعهم في المؤامرة علي الشعب أنظمة عربية مجاورة علي أن تشارك بكل ما أوتيت من موارد في حجب العون عن الشعب المحاصر وهو في أمس الحاجة إلي العون، وذلك بدلاً من أن تتحدي الظلم الأمريكي وتفرض فك الحصار بالصمود وتعمل علي إفشال العقوبات الجماعية بالتضامن. لم يعد مقبولاً من أبناء فتح أن يظلوا متفرجين بينما يتآمر نفر من المتسلقين عليهم وعلي حركتهم وعلي شعبهم، ولم يعد مقبولاً أن تنطلي علي أبناء فتح أكاذيب هؤلاء وأراجيفهم، كما لو كانت القضية تنافساً علي مكاسب أو صراعاً علي السلطة بين فتح وحماس. ليست الأزمة بسبب خلاف علي صلاحيات أو مناصب أو حتي اجتهادات في الإدارة أو السياسة، بل تكمن المشكلة الحقيقية في رغبة النظام الدولي بقيادة الولايات المتحدة الأمريكية إجبار الشعب الفلسطيني علي التنازل عن حقوقه التاريخية مقابل كسرة من خبز يمن بها هؤلاء عليه، وما كان لهم حق في أن يمنعوها عنه أصلاً، كما تكمن في تجنيد أمريكا وإسرائيل لزعماء بارزين في حركة فتح رضوا لأنفسهم بأن يقوموا نيابة عنها بأقذر الأدوار، الأمر الذي يحتم علي كل فتحاوي أصيل أن ينأي بنفسه عنهم، بل وأحري به أن يتبرأ بسببه منهم. ليست فلسطين ملكاً لحماس دون غيرها، وليست القضية حكراً علي فتح دون سواها، بل هي قضية أمة بأسرها، من تخلي منها عنها خسر وخاب، ومن تصدي دفاعاً عنها وجهاداً في سبيلها أياً كان فصيله أفلح وطاب. لقد آن الأوان لأن تتحرك جموع فتح لتنقذ حركة التحرير الوطني فتستعيدها ممن تسلطوا عليها ولتعيد إليها الاعتبار كحركة مناضلة مجاهدة لا تتنازل عن حبة تراب من الوطن السليب ولا تتراجع عن عهد قطعته للشعب علي نفسها مهما اشتدت الضغوط وتعاظمت المكائد. ولا يكون ذلك إلا بأن تبادر قواعد فتح المخلصة لشعبها وقضيته العادلة برفع الغطاء عمن يريد بالشعب والقضية سوءاً، فتتبرأ منهم ومن أعمالهم، وتلفظهم كما يلفظ الجسم الخبث. لا مخرج من الأزمة أمام الشعب المحاصر في الضفة والقطاع ومن خلفه الشتات بأسره إلا أن يتعاضد أفراده واضعين جانباً النعرات الحزبية والانتماءات الفصائلية، فيمد الواحد منهم يده لأخيه، حتي يقف الجميع صفاً واحداً منيعاً في وجه الحصار ليكسروه وفي وجه التخاذل العربي الرسمي من حولهم ليعكسوه، وفي وجه التيار المتصهين ليردعوه. ولن يكون المخرج أبداً بالاستسلام للضغوط الدولية أو الاستجابة للإملاءات الأمريكية. - القدس العربي 16/10/2006 - اقرأ المزيد...
بقلم: ريما كتانة نزال
تاريخ النشر: 2018/7/23
بقلم: جهاد حرب
تاريخ النشر: 2018/5/12
بقلم: وكالة معا الاخبارية
تاريخ النشر: 2018/5/2
|