لم تجرب “إسرائيل” النظام الرئاسي ولكنها جربت الانتخابات المباشرة لرئاسة الحكومة وألغتها بعد ثلاث دورات. ولا تزال تعاني من آثارها. ونذكر منها بشكل خاص أن التصويت ببطاقتين، واحدة لرئاسة الحكومة وأخرى للبرلمان، فتت الأحزاب الكبيرة إلى أحزاب متوسطة وصغيرة تعبر عن هوية وانتماء بعد أن عُبِّر عن الموقف السياسي في التصويت لرئاسة الحكومة. حتى عندما ندرِّس نظريات وتطبيق الديمقراطية يجري الحديث عادة عن نظامين ديمقراطيين ممكنين، رئاسي وبرلماني، وعلى هذا يدور النقاش أيضا في العالم العربي، عند الحديث عن النماذج التي يرغب في الانتقال إليها...هذا الانتقال المتعثر الذي أشبع نقاشا. ولكننا نود هنا أن نخرج عن المألوف بالقوة اللازمة لتوضيح نقطة في مقال قصير، إذ في عالمنا المعاصر32 دولة ديمقراطية يمكن تعريف النظام الديمقراطي فيها كمستقر نسبيا من ضمن 80 دولة تعتبر ديمقراطية، منها فقط دولتان رئاسيتان، والبقية دول رئاسية ديمقراطية حديثة العهد في أمريكا اللاتينية وإفريقيا. الديمقراطيات الأوروبية هي ديمقراطيات برلمانية. علينا أن نذكر هنا أن فرنسا دولة تجمع بين النظامين، كذلك الديمقراطية الوحيدة التي استمرت في العالم الثالث بعد أن قامت بعد الاستعمار مباشرة رغم مشاكلها، وهي الهند. وفي كل الامتحانات والمعايير والأبحاث الموضوعة لتقويم عمل الديمقراطيات بدءا من world values survey، وحتى “فريدوم هاوس” تحتل الديمقراطيات البرلمانية مكانة متقدمة مقارنة بالرئاسية، وهي تحتل الأماكن العشرين الأولى بين ثمانين، تصنف بموجب معايير سيادة القانون والنجاعة والاستقرار السياسي ومحاربة الفساد والشفافية والمساءلة واحترام حقوق الإنسان. وأيضا في ما يتعلق بمعالجة الفجوة الاجتماعية الاقتصادية. الديمقراطية البرلمانية هي الديمقراطية الأولى التي نتخيلها عندما نبدأ التفكير في الديمقراطية كعملية اختيار ممثلي الشعب، وهي التي تمنح المواطنين المنظمين درجة اكبر من التأثير. عندما يتخيل “الإسرائيليون” وغيرهم نظاما رئاسيا فإنهم يتخيلون الولايات المتحدة. وهي استثناء بين الديمقراطيات المستقرة. وقد أسفرت عملية تقليد نظامها عن كوارث في أمريكا اللاتينية في خمسينات وستينات القرن الماضي. والأمر الأكثر جاذبية بالنسبة لهم في فترات الأزمات في النظام الرئاسي هو الرئيس القوي غير المتأثر بفساد وبفاسدي الأحزاب في البرلمان. وفي الواقع فإن رئيس الولايات المتحدة في شؤون السياسة الداخلية أقل صلاحية وقوة من معظم رؤساء الحكومات في النظام البرلماني، لأن أغلبية الصلاحيات الداخلية هي في يد الولايات، وصلاحياتها توازن وتفرمل صلاحيات الرئيس، ما يجعله رئيسا غير قوي في الأزمنة العادية خلافا لما يدعى، هذا عدا كونه معرضا للفساد بشكل حاد دون آليات محاسبة جدية، كما هو حال الرئاسات الفرنسية المتعاقبة. لا يقود التوق إلى رجل قوي، إذا بثته أحزاب ونخب كحل سياسي لعدم الاستقرار، إلى ديمقراطية، لا رئاسية ولا برلمانية، بل إلى ديكتاتورية. وهو خطر تتعرض له الأنظمة الرئاسية أكثر من البرلمانية، فأكثر من 65 في المائة من الديمقراطيات الرئاسية انهارت وحلت محلها ديكتاتورية في مرحلة وأخرى من تاريخها، وفقط 36 في المائة من الديمقراطيات البرلمانية انهارت في الماضي. 75 في المائة من الديمقراطيات البرلمانية تعتبر ثابتة وفقط 25 في المائة من الديمقراطيات الرئاسية تعتبر أنظمة مستقرة. دوليا، يصنف النظام القائم في “إسرائيل” كديمقراطية برلمانية، هكذا على الأقل تصنفها مراكز الأبحاث التي عينت نفسها فاحصة مدققة في عمل الديمقراطيات، والتي تعتبر نفسها ديمقراطية يهودية، وهي توضع في السنوات الأخيرة في أدنى الرتب بين الديمقراطيات البرلمانية وتقترب في تحصيلها للنقاط من الأنظمة الديمقراطية الرئاسية في العالم الثالث. هنا يمر نظام برلماني في أزمة حقيقية، فعمر حكوماته يقصر باستمرار وأحزابه تقوم وتنقرض كالفطريات، وعقلية النخبة الطلائعية الأوروبية التي اقامته ذهبت إلى غير عودة. وضم ليبرمان هو أحد مظاهر الأزمة وليس أحد حلولها. فمجرد الحديث عن تغيير طريقة الانتخابات وبنية النظام في سوق تفاوض ائتلافي وفي سياق جهد حزبي يرمي إلى إطالة عمر حكومة ونوابها لا إلى تنفيذ برنامجها، هو دليل على هشاشة النقاش المذكور أعلاه، وعلى فساد السياسة “الإسرائيلية” التي باتت تعترف أنها سياسة الحفاظ على المنصب والكرسي البرلماني التي تستبدل الايديولوجيا بالكرسيولوجيا.. ولا تنجح حتى بذلك. هذه حكومة فقدت الأغلبية في الاستطلاعات. لكن لا يفترض أن تشكل هذه مشكلة لحكومة ديمقراطية فعلا، فالحكومة تنتخب مرة كل أربع سنوات وليس في استطلاع يومي. ولكنها حكومة تخلت عن برنامجها السياسي الذي انتخبت على أساسه، وأقصد فك الارتباط، وأعلنت عمليا بعد الحرب على لبنان أنها لا ترغب في طريق السلام كبديل لفك الارتباط. ومن يصغي جيدا يدرك أن أولمرت يقول عمليا انه يريد سلاما مع سوريا ولكنه لا يريد أن يفاوض الرئيس الأسد ولا يريد إعادة الجولان، وأنه يريد أن يفاوض الرئيس الفلسطيني لكن ليس لديه برنامج للتوصل معه إلى تسوية.. فاختر ما شئت وما أكثر الخيارات! واختيار أولمرت توسيع الائتلاف باتجاه ليبرمان لإجهاض النقد من اليمين على الحكومة الضعيفة بعد سوء أدائها في لبنان، يعني أيضا اختيار المواجهة، أو على الأقل التصعيد، لا انتخابات رئاسية ولا من يحزنون. يمثل ليبرمان يمينا متطرفا مؤدلجا، ولديه مشروع يشبه مشروع المحافظين الجدد في صراحته وفي إعادة تقييم القيم. فهو من ناحية علماني إلى درجة الإلحاد، ويسعى بما يتلاءم مع حاجات جمهوره الى أن يغير من العلاقة بين الدين والدولة ليس باتجاه أكثر ليبرالية أو ديمقراطية، بل باتجاه أكثر قومية من دون الفصل بين البعدين، وبالنسبة له يكفي أن يخدم روسي في الجيش لكي يعامل كأنه تهوّد. هذا الشكل القومي من التهويد في مقابل الديني يقارب موقف اليسار الصهيوني مثل مواقف يوسي بيلين وغيره، ليشكل أساسا لحوار بينهما، ولكنه ليس نقطة اللقاء الوحيدة. فهو يلتقي مع اليسار في “المسألة الديمغرافية” وضرورة التخلص من الفلسطينيين في إطار اتفاق يتخلون فيه عن مطالبهم التاريخية كافة اللهم إلا الكيان السياسي. وهو في هذه الحال مطلب “إسرائيلي”. ويريده ليبرمان بشكل واضح كيانا عميلا ل”إسرائيل”، وهو لا يخشى وجوده، بل بالعكس، فهو يتميز عن اليسار الصهيوني في أنه يطالب بضم شريط من قرى الداخل الفلسطينية تشكل 200 ألف مواطن عربي يعيشون كمواطنين داخل الخط الأخضر، ويشترط “منح” الحقوق لمن تبقى بالخدمة العسكرية في الجيش “الإسرائيلي”. ويتميز عن اليمين التقليدي في أنه صريح في حديثه عن التسوية في قضية الأرض. وهو مثل المحافظين الجدد يدعو “إسرائيل” إلى التصالح مع قوتها وأن تكون صريحة مع محيطها بهذا الشأن وجاهزة لاستخدام هذه القوة. لدينا هنا يمين علماني أوروبي متطرف غير منشغل بالاقتباسات من التوراة، يريد في “إسرائيل” نظاما رأسماليا قويا يقلد الولايات المتحدة، ولا يخشى استخدام القوة السافرة بشكل صريح، ولا يعترف بأي حقوق للعرب، ولكنه يقبل من منطلقات أمنية وديمغرافية بتجنيد كيان فلسطيني لاستيعاب الفلسطينيين. لغة ليبرمان بسيطة الى درجة الفظاظة، فيها تظاهر مستمر بالتجرد من الأوهام والذهاب مباشرة إلى الموضوع، ما يثير إعجاب اليمين العلماني الأوروبي. ولا يرغب ليبرمان كما يدعي هو في إثارة إعجاب العالم ولا العرب. والعربي الذي يريد أن يكون مواطنا يجب أن يخدم في الجيش. وكل من يرفض الخدمة في الجيش عليه أن يقبل بمنزلة “قاطن” أو “مقيم” من دون حقوق مواطن ومن دون حق اقتراع. الحديث هنا عن ترانسفير حقوقي لمن تبقى ولم يتم التبادل به. أما مستمعوه من المهاجرين الروس فيأتون من بلاد شكل فيها نقل ملايين الناس من مكان لآخر وإزالة شعوب و”إنشاء أخرى” تفاصيل في عهد ستالين، وهم يتصرفون أصلا كمتفاجئين من وجود عرب في البلاد، لم يخبرهم احد بذلك!!. من الصعب أن تستمع إلى مهاجر روسي لا يتميز بذكاء أو ثقافة، ولا يتقن العبرية بشكل معقول بعد، رغم انه هاجر إلى هذه البلاد قبل ما يقارب ثلاثين عاما، وهو يقول لك عبر وسائل الإعلام ما هي شروط مواطنتك في هذه البلاد ومن الصعب أن تستمع بجدية إلى من رأيته بأم عينيك طالبا جبانا في الجامعة في تلك الفترة، ينضم حال وصوله من روسيا إلى عصابة اليمين المتطرف العنيف بقيادة تساحي هنغبي ويهدد ويشارك اليمين في العنف ضدنا، عندما كنا طلابا نبني الحركة الطلابية العربية في الجامعات “الإسرائيلية”، رغم معرفتنا في حينه بجبنه عن تجربة. المشكلة أنه يعرف أننا نعرف، ولذلك لديه عقدة من بعضنا. لا يراودني هذا الشعور دائما، فكل السياسيين المتعجرفين بقوة عسكرية وسجون وغيره لديهم من يعرفهم شبابا، ولا شك في أن لجورج بوش أترابا يعرفونه سكيرا غير فالح في شيء.. هذا لا يساعد كثيرا، ولكن الملاحظة تأبى إلا أن تقال عند بعض المفترقات. فكيف أكتب وأحلل ظاهرة ليبرمان بجدية من دون أن أقول شيئا عن متوسطية هذا الشخص وتفاهته وجبنه الشخصي، وهو الذي يحض على الحرب من دون توقف، ولكن ألم يكن هذا حالنا مع أغلبية الحركات الفاشية في التاريخ. ليس هنالك ما يعزي في هذه المعرفة إلا لغرض الحرية الداخلية الشخصية من تفاهات وأكاذيب المشاهير بشكل عام. يدخل اليمين المتطرف إلى وكر انتهازيين فيبدو مبدئيا، يدخل إلى سادوم وعامورة السياسة والصفقات، فيبدو تقيا ورعا. ولقد أصاب ليبرمان بمجرد دخوله هذا عصفورين بضربة واحدة. أولا ربح الشرعية أنه طرف شرعي وليس مجرد مهاجر أحمق يريد نظام رجل قوي، نصب نفسه نذيرا وطنيا يستنفر الناس ضد الخطر الإيراني، دون أن يتميز بعقل استراتيجي، فمن كل الأهداف في الدنيا هدد في الماضي بقصف سد أسوان. وثانيا، لم يطالب بمناصب وزارية لغرض التوظيف وغيره، بل طالب بتفصيل وزارة واحدة له تشكل تجسيدا للمبدأ الذي يطرحه، فهو يبدو كأنه الوحيد الذي جاء لتطبيق برنامجه السياسي. لقد فصلت له وزارة تحمل عنوان “وزارة التهديدات الاستراتيجية”. فقط في “إسرائيل” يمكن تفصيل كائن من هذا النوع. دولة لم تعين بعد وزيرا للرفاه الاجتماعي لكنها أصبحت بعد مفاوضات ائتلافية تم فيها تفصيل وزارة للتهديدات الاستراتيجية. ويمكن في المستقبل أن تقوم “وزارة المخاوف الامنية” أو “وزارة الخطر الديمغرافي” أو “وزارة عدم الاعتراف ب”إسرائيل”” أو “وزارة العالم كله ضدنا” أو “وزارة شعب الله المختار” أو “وزارة التاريخ وأرض “إسرائيل” الكاملة”. إنها وزارة تجسد موقفا ايديولوجيا يقول إن أهم ما يواجه “إسرائيل” حاليا هو التهديد الإيراني والتحالف السوري - الإيراني مع حزب الله وحماس. حسنا، ولكن التصدي لهذا التحالف كان دائما مهمة الخارجية والدفاع والمخابرات وغيرها...ما الحاجة لوزارة جديدة يشغلها رجل لا ماضي امنيا له، اللهم إلا إذا جمعته علاقات مع المافيا الروسية، ولا يتميز بفكر استراتيجي خارق. هذه وزارة للتحريض والتعبئة والتآمر. وهي وزارة لكسب شعبية في الشارع “الاسرائيلي” من التطبيل والتزمير ضد “العدو”. ومجرد دخول ليبرمان الى الحكومة سوف يضعف حزب “العمل” الذي سيبدو بمجرد قبوله الجلوس معه أكثر انتهازية ورغبة في الحفاظ على المنصب. وسوف يكون هنالك عنوان لأي خلاف مستقبلي داخله: الموقف من انضمام ليبرمان.. وبعد أن يضعف حزب العمل ومع الائتلاف القديم قد يختار ليبرمان أن يغادر الحكومة متى شاء إذا كان قادرا بمغادرته على التسبب في حلها. في مثل هذه الحالة يصبح هو نجم اليمين. اقرأ المزيد...
بقلم: ريما كتانة نزال
تاريخ النشر: 2018/7/23
بقلم: جهاد حرب
تاريخ النشر: 2018/5/12
بقلم: وكالة معا الاخبارية
تاريخ النشر: 2018/5/2
|