مع ذلك فالترقب الدولي هذه المرة للحدث الانتخابي كانت تتغلب عليه اشارة التلهف للجديد المختلف الذي يمكن أن يأتي به فوز الديمقراطيين. ولعله ليس من المألوف دائماً أن تتقارب أماني الدول ازاء المتغيرات الداخلية لبعضها، وبصورة تلقائية، فالواضح أن هناك شبه اجماع علي رهان بمتغيرات حاسمة ستطرأ علي صورة العالم الراهن، وقد أضحت متوقفة علي نتائج الحدث الأمريكي الداخلي، المتعلق بزيادة بضعة نواب جدد من الحزب الديمقراطي تمنحه قوة الأغلبية في الكونغرس مقابل الحزب الجمهوري الحاكم... كأنما هذا التطور الجزئي، الداخلي البحت، يأتي ايذاناً بانتهاء الحقبة البوشية حتي قبل انقضاء فترة الرئاسة الثانية نفسها بنحو سنتين. هذا مع عدم الذهاب بعيداً في المراهنة علي تحولات جذرية في الاستراتيجية الأمريكية الشاملة، وان كانت المسألة العراقية قد لعبت الدور الحاسم في فقدان الشيء الكثير من شعبية بوش الي درجة أن هناك العديد من أعضاء حزبه باتوا أقرب الي طروحات المعارضة الديمقراطية عينها. ولكن الحزب الجمهوري ككل دفع الثمن الباهظ الذي كان يخشاه ضياع سلطة القرار والحسم التي تمتع بها في مجلسي النواب والشيوخ منذ أواسط التسعينيات. غير أنه اذا كانت هذه الانتخابات قد أطاحت نسبياً بالحزب الذي أنتج الحقبة البوشية، الا أن الحزب الآخر، أي الديمقراطي الذي سيمسك بسلطة الغالبية في الكونغرس، لن يكون هو البديل المناقض تماماً لسياسة خصمه. علي الأقل لا من حيث منطلقات الاستراتيجية العامة للدولة الأمريكية، أو لأهدافها التقليدية المعروفة، والمشتقة كلها من مبدأ الهيمنة علي العالم، والضرورة المطلقة في المحافظة علي أحادية التفوق في مختلف الميادين بوسائل السلم كما بالحرب، وهذه الأخيرة، الحرب، أضحت هي الوسيلة المفضلة والفريدة التي ميزت الحقبة البوشية. ولم يكن خيار العنف العسكري بعيداً يوماً عن الخاصية الأولي المميزة لأمريكا منذ نشأتها الأولي بكونها دولة الحرب. وقد كانت لها فلسفتها المسوغة دائماً لمبدئية القوة، لكونها كما تري في نفسها، الرائدة لثورة الديمقراطية، والحاملة لأعباء نشرها في العالم أجمع. فقد أعطت لذاتها حق احتكار المهمات الخلاصية وتحرير الانسانية من أمراضها الأزلية، في خضوعها لظلامات الاستبداد والطغيان. لكن تاريخ الممارسة الفعلية قد جنح بالدولة الأمريكية نحو تغليب الواسطة التي هي تحقيق الهيمنة سلماً أو حرباً، علي الغاية المرفوعة كشعارات حول حقوق الانسان، والتي بقيت هكذا مجرد تبريرات خطابية للعنف وحده الذي تصاعد الي أقصاه مع الحقبة البوشية. فالمستنقع العراقي لم تسقط فيه أمريكا نتيجة غلبة الجمهوريين فقط، فقد صوت الديمقراطيون كذلك الي جانب قرار الحرب. وكانت حجتهم طبعاً التضامن الوطني ضد الارهاب الذي ضرب رموز المؤسسة الأمريكية يوم الحادي عشر من ايلول (سبتمبر). هذا التاريخ شكل المنطق الأهم في سياسة الدولة داخلياً وخارجياً. وتلقفته مؤسسة السلطة كأثمن هدية للاستثمار الاستراتيجي، وسوف يمدها بكل الذرائع الباحثة هي عنها منذ أن فقدت معظمها مع انهيار (العدو) الشيوعي. والسؤال الأعمق الآن هل سيقع التغيير المنتظر علي كلية الحقبة البوشية، اعتباراً من أيديولوجيتها المعلنة ذات العنوان الوحيد وهو الارهاب، الذي انتهي مع الممارسة العنفية المعممة حيال مختلف الملفات الدولية، انتهي عملياً الي الحالة الراهنة التي يمكن القول عنها أنها حالة ارهاب العالم. ما يعني التخطي لكل التصنيفات المتداولة تحت تسميات تصير فرعية، من مثل (الحرب العالمية علي الارهاب)، (الارهاب الاسلاموي) و(الارهاب الدولتي المضاد) الخ.. فما أمست تعنيه حالة ارهاب العالم هو الترجمة المادية المباشرة للعولمة الاقتصادية الي مجرد عولمة أمنية بوليسية. فلا تكاد أية دولة غربية خاصة قادرة علي تخطيط أمنها القومي الا اعتباراً من أولوية التهديد الارهابي ومدي سلطانه السحري الأسود علي عقول القادة السياسيين والاعلاميين، وحتي بعض الثقافيين. ثم أن هذه الأولوية لخطر السحر الأسود الجديد راحت تفرض انقلابات نوعية ظاهرة في عمق الثقافة المدنية. فتهتز بعض أركانها الأساسية المكتسبة من تجارب التاريخ الاجتماعي الحافل بثورات المبادئ الكونية الآيلة الي هذا التميز الافتخاري ببناء الشخصية المفهومية للغرب الحداثوي، المطابقة قليلاً أو كثيراً لبداهات العقلانية الكونية. المسألة اذن لا تتوقف عند ظاهرة هذا الابتهاج شبه العالمي بكون الناخب الأمريكي استطاع أن يُنزل أول عقاب برئيسه، الذي لا يزال يحكم وكأنه الرئيس الأبدي. وقد يبدو أنه غير حافل أو عابئ، بل مستوعب لدلالة هذه الظاهرة وما تنذر به من تطورات لا يريد هو وفريقه من اليمين الجديد الاعتراف بها. لن يتخلي هذا الفريق عن اعتقاده بأن الحقبة البوشية، رغم كل شيء، قد نجحت في تحقيق الصميم من مشروع ارهاب العالم، وذلك باطلاق مختلف أدواته، أو وحوشه ما قبل التاريخانية، انه النجاح باعادة انتاج نماذج الانغلاقات الفئوية المؤدلجة بالاستيهامات الشعبوية، من وثنية العنصريات المختلفة، التي يبلغ الغرب في قبالتها ذروةَ العنصرية الأخطر المعتمدة علي رهانات التفوق الحضاري والانفراد الاحتكاري والسلبي بعناصرها المؤسسة دون بقية البشرية، ومهما حاولت حضارات أخري، ومن قلب هذا الشرق كالصين والهند، أن تختطف بعض شرارات من شعلة الاله بروميتيوس، الذي كان هو الأول في اختطاف نار المعرفة من لدن آلهة الأولمب، ومنحها للانسان. لكن الانسان الأبيض وحده هو الذي ينبغي له أن يسود المعمورة السفلي هذه. ان الميثالوجيا الاغريقية تجد لها قريناً عصرياً جداً في ابتكار وترسيخ ما يسمي بثقافة العوالم الافتراضية. وان (ارهاب العالم) يصير مع الحقبة البوشية الي أحد هذه العوالم، تطبيقاً لنموذج الأسطرة الافتراضية التي تنقلب الي واقع بالرغم من كل حمولة الوهم والاستيهام المرافقة له. قد يكون الناخب الأمريكي هو السباق في الصحو في سحر هذا التنويم. لكن من يقول منذ الآن أن بادرة الاختلاف والمغايرة الحالية يمكنها أن تبلغ حد الوعي يوماً بضرورة الثورة علي الحقبة البوشية، وليس فقط الاكتفاء بتغيير بعض رموزها ومن داخل بنية السلطة، وليس من ذلك الخارج الآخر الذي يملأه المجتمع الأمريكي المبعد دستورياً حتي الآن عن ممارسة حقوقه الانتخابية واختيار ممثليه من خارج حزبي السلطة. لذلك ليس ثمة طموح بعيد المدي في ألا تغدو البوشية هي كنيسة المستقبل السياسي الدولتي لأمريكا، التي سوف تتمكن من بناء سلالة بوشية بأسماء ووجوه أخري من رؤساء ونواب وحكام. فلقد حقق مؤسس هذه السلالة وادارته ما يجعله ورعيته يطمئنون الي امكانية الاستمرارية المستقبلية، بعد أن تمكنوا، كما يعتقدون، من ترسيخ قاعدة ثابتة للانقلابية المستديمة في صلب بنية السلطة الدستورية، وهي المتمثلة في (شرعنة) ضمنية للنقلة الصامتة ولكن الحاسمة من النظام الرئاسي الي نظام الديكتاتورية المقنعة ديمقراطياً صورياً، لكنها السافرة منذ الآن بكل ماضي انجازاتها القريبة، والواعدة بالانجازات الأخطر تحت هيمنة ايديولوجيا: ارهاب العالم دائماً. - مفتاح 13/11/2006 - اقرأ المزيد...
بقلم: ريما كتانة نزال
تاريخ النشر: 2018/7/23
بقلم: جهاد حرب
تاريخ النشر: 2018/5/12
بقلم: وكالة معا الاخبارية
تاريخ النشر: 2018/5/2
|