عندما تتلامس الروح الأدبيّة المبدعة مع النظرة السياسيّة الثاقبة ، و الاجتهاد و التميّز المهني الذي يفوق قدرات الرجال مع روح أنثويّة شفافّة تأخذك نحو العواطف المتّزنة التي تخدم قضيّة من أقدس قضايا البشريّة ، تكون حينها مع حنان عشراوي العضو السابق في المجلس التشريعي الفلسطينيّ و المتحدّثة الرسميّة السابقة لمنظّمة التحرير الفلسطينيّة ، في كتاب مذكراتها مع عمليّة السلام (هذا الجانب من السلام). فعلى الرغم من كون شخصيّات السلطة الفلسطينيّة هي شخصيّات جدليّة بامتياز ، لاسيّما بعد اتفاقيّة أوسلو للسلام، إلاّ أنّ حنان عشراوي قد تمكّنت بذكاء بالغ أن تُبقي صورتها المشرقة على كافّة المحافل ؛ النضال .. المستوى الأكاديميّ الرفيع .. أجندة المرأة الفلسطينيّة المناضلة .. الأمّ و الزوجة .. المفاوِضة .. الحاسمة في حقوق الشعب الفلسطينيّ ؛ ما جعلها تنسحب من منصبها الرسميّ في أعقاب اتفاقيّة أوسلو محتجّة حينها على ما رأته تفريطاً في حقوق الشعب الفلسطينيّ ، أو كما وصفه صديقها المفكّر الفلسطينيّ العالمي إدوارد سعيد "أوسلو.. سلام بلا أرض". من أشهر عبارات عشراوي في حقل أوسلو ، و التي تطرح وجهة نظرها بصدق و دقّة ، و التي ارتأيت نقلها للعربيّة ، قولها : "لم تكن المسألة يوماً ما مسألة أرض ، فالأرض لنا دوماً و هم من اغتصبوها .. أنا و فيصل الحسيني لدينا حسّ تاريخيّ تجاه العمليّة .لدينا بحث روحيّ جمّ و مساءلات ذاتيّة ؛ لقد ابتدأنا بنظرة للسلام و حلم بالحريّة ، و لكنّ أوسلو التي طُبِخت بعيداً عن أعين المفاوضين الفلسطينيّن ، لم تكن أبداً ما قد أفنينا عمرنا من أجله و عرّضنا سلامتنا و مستقبل أولادنا للخطر في سبيله. لقد ابتدأت الآن مرحلة جديدة من المجهول و الألم و الغموض ، لقد أطلقت القوى المدّعية للسلام ليديها العنان ، مهدّدّة بجعل هذا السلام أشدّ بطشاً من الحرب، كما قد مهّدت للعالم بأنّ التطبيع لاسيّما الاقتصادي قد غدا متاحاً للتدشين منذ اليوم فصاعداً ". و أعقبته بقول : " عندما تمّ توقيع اتفاقيّة القاهرة المتمّمّة لأوسلو ، غادرت يومها للقدس ، لا أدري إن كان ذلك هرباً أم لا .. و لكني عزمت حينها على الانسحاب ، و إن كنت أعلم أنّه قرار سأكون فيه وحيدة و مفعّمة بالألم بعد كلّ ما كنت أسعى لبذله ". استطاعت حنان عشراوي بجدارة فائقة أن توجد لذاتها كياناً سياسيّاً مرموقاً وسط محاولات تثبيط بالغة تطرّقت إليها في مذكّراتها ، فتارة كان يسعى من حولها لتقزيم دورها السياسيّ بتسميتها "مترجمة فيصل الحسيني" ، و تارة أخرى بادّعاء أنّ ما أبقاها في السلطة هو "إتقانها الشديد للغة الإنجليزيّة " أو "قدرتها على الحديث الإعلاميّ". و لعلّ ثقتها و تصميمها يتمثّل في ما روته عن سؤال المذيع الأمريكي في قناة (الآي بي سي) الأمريكيّة (بيتر جيننجز) لها عندما رآها تفعل كلّ شيء في مباحثات السلام في موسكو و واشنطن بلا استكانة و لا هدوء، بينما بعض زملاؤها الرجال يكتفون بإصدار الأوامر ، قالت "المسألة معقّدة و ضخمة بشكل ، بما لا يسمح إلاّ بامرأة لإنجازها ". حنان عشراوي التي تذمّر منها الأمريكيّون و الإسرائيليّون مراراً و تكراراً في خضمّ مفاوضات السلام ، بسبب حسمها الشديد في حقوق الفلسطينيّن ، بالإضافة لما وصفها به إدوارد سعيد أمام العالم قائلاً "حنان عشراوي .. مجدّدّة اللغة الفلسطينيّة أمام العالم " ، عدا عن وصفها من قِبل الأكاديميّين الفلسطينيّن في جامعة بير زيت الفلسطينيّة بأنّها قد "أتقنت المفاوضات مع العدوّ مذ أن كانت عميدة الآداب في خضمّ مفاوضاتها المستميتة حينها لحماية الطلبة الفلسطينيّن من اقتحامات الجنود الإسرائيليّين لحرم الجامعة" ، لتعُدّ شهادات برتبة وسام شرف يحفظه لها التاريخ الفلسطينيّ . و كما "وراء كلّ رجل عظيم امرأة " فإنّ "وراء كلّ امرأة عظيمة رجل".. فحنان عشراوي الابنة الخامسة بين شقيقاتها ، هي نتاج رائع لدعم والدها الدكتور و المناضل الفلسطينيّ داوود ميخائيل ، و زوجها إيميل عشراويّ ، اللذان وقفا بجانبها مانحين إيّاها الثقة و الدعم و التشجيع حتّى ارتقت قمّة السلّم الأكاديميّ في اللغة الإنجليزيّة ، و قمّة السلّم السياسيّ كواحدة من كبار مفاوضي السلام و المقرّبين من الرئيس السابق ياسر عرفات و من محور الأحداث المباشر في تلك الفترة . و إذ تتطرّق عشراوي لزملائها جميعاً في كتابها ، فإنّها تخصّ بالذكر أقربهم إليها و هما فيصل الحسينيّ و الدكتور حيدر عبد الشافي ، و إن كانت تستذكر كثيراً عبارة زميلها الأكاديميّ المناضل غسّان الخطيب عندما قال " لا مفرّ من مفاوضات السلام مع الإسرائيليّين ..و إذا ما جلس الضحيّة للحوار فإنّ أحداً لن يشكّكّ بعدها بمدى الألم الذي يرزح تحته .. لأنّه من الصعب أن تجد و لو فلسطينيّاً واحداً لم يكن ضحيّة بشكل أو بآخر"... (هذا الجانب من السلام) .. ليس فقط مذكّرات عن عمليّة السلام و شخصيّاتها من كلا الجانبين ، بل هو إثبات أمام العالم أجمع على استحالة المفاوضة مع السفّاح الإسرائيليّ منذ فجر التاريخ و حتى يومنا هذا ؛ فالتاريخ يعيد ذاته منذ أيّام سيّدنا موسى عليه السلام و حتى آخر سفّاح إسرائيليّ باقٍ على وجه الأرض. كما أنّه إثبات أكبر عن التحيّز الأمريكيّ الصارخ المرير ضدّ الفلسطينيّن ، و الذي قالت فيه عشراوي مخاطبة الأمريكيّين في مفاوضات السلام " في كلّ يوم نتأكّد أنّه ربّما من الأجدى أن نتحاور مع الإسرائيليّين شخصيّاً بدلاً من اللجوء إليكم كوسيلة ضغط عليهم ". (هذا الجانب من السلام) .. هو شرح عن الجانب الخفيّ للسلام ، الذي امتهنت في إسرائيل و أمريكا كلّ المعايير الإنسانيّة ، جانب قالت فيه حنان عشراوي بعد أوسلو: "من حيث وقفنا ، من هذا الجانب من السلام ، فإنّ المستقبل يبدو نحيساً و مؤلماً و أبعد ما يكون عن السلام". فمن سخرية الأقدار أن يرضخ جميع هؤلاء الأكاديميّين الفلسطينيّن المرموقين لِحفنة من السفّاحين ، الذين لم يتوانوا عن ارتكاب مجازر ساحقة حتّى في أثناء الهدنة و اتفاقيّات السلام .. فعشراوي لم تبخل على القارئ حتّى بأدقّ تفاصيل المباحثات الممتهنة للفلسطينيّن ، حيث كان العدوّ يحدّدّ مكان هذه المفاوضات ، ليتمّ تغيير الترتيبات في آخر لحظة ، و في مرّات كثيرة عند وصول الوفد الفلسطينيّ لمطار الدولة المزمع عقد المفاوضات بها .. عدا عن الإذلال على صعيد اختيار الألفاظ مع الفلسطينيّن ، و حتّى محاولة تهديد معظمهم . محمود درويش في أحد دواوينه الشعريّة (كزهر اللوز أو أبعد) .. و ديوانه النثريّ (في حضرة الغياب) .. إدوارد سعيد في بعض كتبه ك (المسألة الفلسطينيّة).. (السلام في الشرق الأوسط) .. (غزّة أريحا.. سلام أمريكيّ).. ناجي العلي و رمزه الشهير (حنظلة) .. غسّان كنفاني و بعض قصصه ك(رجال تحت الشمس) .. (موت سرير رقم 12) .. (عائد إلى حيفا) .. (أرض البرتقال الحزين) .. سميح القاسم و شيء من قصائده ك (جيل المأساة) .. (ليلاً، على باب فدريكو) .. و فرسان مشهورون و أضعافُهم مجهولون . أرّخوا فلسطين و معاناتها حروفاً و كلمات .. و لعلّ من بينهم حنان عشراويّ و (هذا الجانب من السلام) و معين لا ينضب لها من المقالات و القصائد .. حنان التي لم تقتصر "فلسطينيّتها" على ملامحها الفلسطينيّة التقليديّة ، و لا على سجّلها النضاليّ الحافل ، بل على الشجن الفلسطينيّ في عرضها "للأثواب الفلسطينيّة .. الدبكة الفلسطينيّة .. الفرح الفلسطينيّ الذي سرعان ما يلجمه الشعور بالذنب من الفرح .. عبارتها الشهيرة و هي أنّ حسرة فقدان فلسطين حرمتنا من شعور السعادة و الاستمتاع بالانتماء إليها .. (الأمانة) التي قلّدها الشعب الفلسطينيّ لهم في مرحلة ما كسلطة ممثّلة لهم .. ". و لعلّ من أجمل عبارات حنان عشراوي في كتابها الذي صاغته بلغة إنجليزيّة متميّزة "الآن و بعد مضيّ أكثر من نصف قرن على مأساتنا .. لا زال هناك ملايين الفلسطينيّن الذين يعشقون أصولهم ، ممّن وُلِدوا في إحدى مخيّمات اللاجئين في الأردن أو سوريا أو لبنان .. أو في إحدى ضواحي واشنطن أو لوس أنجلس .. أو في إحدى المدن العالميّة كلندن .. بون .. باريس .. لا زال منهم من يخبرك أنّه من حيفا أو يافا أو اللدّ أو إحدى قرى فلسطين المغمورة ... بهذه الذاكرة التاريخيّة .. أصبحنا أناساً يرفضون الغياب و التلاشي من ذاكرة التاريخ ...". و عبارتها " بالنسبة لنا كفلسطينيّين .. فإنّ فلسطين مركّبة من جملة متناقضات .. التاريخ و الأسطورة .. الذكريات و الأحلام .. الحنين و التطلّعات .. الامتلاك و الفقدان .. فقدانها صبغنا بصبغة حزن و انكسار و بذات الوقت شراسة و قوّة .. كتبنا شعراً و غنّينا أغان و بذات الوقت أطلقنا الرصاص و رمينا الحجارة .. صنعناً القوانين و خرقناها .. بقينا في الأرض و تشتّتّنا في المنفى .. و بيدٍ واحدة غطّى العالم عينيه عن مأساتنا ، و بيده الثانية دفعنا بقوّة كي نشوح عن وجهه مع آلامنا .. و بذات الوقت طرحنا مبادرات للسلام ، علّ فتاتاً يعود إلينا من أرضنا المسلوبة .. كيّ تلتحم في نهاية المطاف ببطء و كيّ يلتئم الجرح ...".
اقرأ المزيد...
بقلم: ريما كتانة نزال
تاريخ النشر: 2018/7/23
بقلم: جهاد حرب
تاريخ النشر: 2018/5/12
بقلم: وكالة معا الاخبارية
تاريخ النشر: 2018/5/2
|