مفتاح
2025 . الإثنين 2 ، حزيران
 
مفتاحك إلى فلسطين
The Palestinian Initiatives for The Promotoion of Global Dialogue and Democracy
 
الرئيسة
 
 
 
 
 
 
 
 
English    
 
 


فشلت كل محاولاتي للقراءة في البيت، اصطحبت الكتاب وذهبت إلى شجرتي الـمفضلة في أعالي جبل الطويل كما يحلو لي أحيانا في الصيف القائظ. وكنت قد اعتدت أيام الـمدرسة على القراءة وحفظ الشعر تحت شجرة بلوط في سفح (العاصور). وصلت الـمكان ولـم أجد الشجرة هذه الـمرة، حمت حوله غيدة وذهابا ولـم أجدها. وجدت مكانها أساسات بناء جديد، سيرتفع بعد أسابيع قليلة بالتأكيد. فنحن نعيش عصر البناء السريع. جلست قريبا من الـمكان وعدت بذاكرتي إلى تلك الشجرة، شجرة التين وارفة الظلال متشابكة الأوراق والأغصان التي تظلل مكان خلوة القراءة والتأمل الحر خاصتي. كانت التينة تقوم بدور مظلة كبيرة تمتص الحرارة الـمتصاعدة ظهرا، وكان يتسلل من بين أوراقها الخضراء الداكنة نسيم متدفق برائحة منعشة.

لا أستطيع القراءة في هذا الـمكان بعد الآن، تنهدت غاضبا وأمعنت في التساؤل حول لون جديد من الحرمان الجمالي، حرمان من شجرة لطالـما شحذت عقلي بصور جمالية. كانت التينة تخطف انتباهي نحو تداعيات حرة، وتداعب مخزون ذاكرة يمتد إلى طفولة شقية وحاضر لا يخلو من دراما. "الأشجار تموت واقفة"، ماتت تينة الطويل، ماتت صنوبرة الإرسال الباسقة، وماتت أشجار أخرى داخل مدينة رام الله ــ البيرة ومحيطها. كان موت الأشجار في كل الأحوال غيلة. الـمتهم: كتل اسمنتية صماء قامت باحتلال مكان الأشجار، وكتل أخرى احتلت حيز حدائق بيوت تراثية، وكتل استوطنت حيز حدائق مدارس وساحات مساجد.

فلول أشجار أخرى تبدو وكأنها تتآكل وتهرم وتترقرق أغصانها بانتظار لحظة النهاية. كتلة حجرية اسمنتية في كل مكان تتربص جميعا بتلك الأشجار. لا أحد يقدم قليلا من ماء يكفي لإنقاذ شجرة، لا فأس تحلج الأشواك والاعشاب الضارة، ولا أحد يقلـم الاغصان الـمتسربلة. لا مدرسة ترسل تلاميذها لإزالة الأكياس السوداء وعلب العصير وزجاجات الكولا والـمنكر الـمنتشرة تحت الأشجار. الاشجار تموت واقفة أمام الكتل الصماء التي تنتظر الانقضاض وأحيانا لا تقوى على الانتظار.

هل سمع رؤساء البلديات والـمحافظون والنواب وعمداء الكليات ومعالي الوزراء ومدراء الـمدارس، بالـمحميات الطبيعية والحدائق العامة وحدائق الأطفال؟. الجواب ليس لديهم متسع من الوقت، فجل وقتهم مستغرق لـمقاومة الاحتلال الإسرائيلي! هل سمع هؤلاء بتخطيط الـمدن الذي يستوعب نموها لقرن قادم؟ الجواب سمعوا وخططوا فأضافوا موقفا للسيارات في كل فسحة قائمة ومحتملة، أقاموا (كراجا) بدلا من سينما دنيا في رام الله، (وكراجا) آخر مكان بناء تاريخي "مطعم سام" لا يبعد عن الأول سوى أمتار قليلة وأقاموا موقفاً آخر مكان البناء التاريخي للشرطة وعززوا سوق الخضار بمواقف من داخله وخارجه، إنجازات عديدة فرضت على الجميع دخول الشارع الوحيد في الـمدينة الـمزدوجة كي لا يستطيعوا الخروج إلا منهكين. شكراً للسلطات الـمحلية ولوزارة التخطيط والبلديات، وشكر خاص للـمحافظين. الأشجار تموت واقفة، الـمحتلون يكرهون أشجارنا، يكرهون شجرة النور الـمقدسة، يكرهون الزيتون فيقتلعونه بالديناميت، يجتثونه من الجذور ويزرعون مكانه الصنوبر والنخيل. معركة الزيتون هي معركة هوية الـمكان. "نحن نعيش من الزيت، نحن شعب الزيت" حولنا الزيتون حياة كاملة حولناه لحماً وبخوراً ودواء". معركة الأشجار بدأت ولـم تنته رغم الـمجازر التي ارتكبت بأشجارنا. "الزيتون بحر أزرق" كالبحر الأبيض لا ينضب إلا بالقدر الذي نمتنع فيه عن زراعته. وفي كل الأحوال "سوف نرى شجيرات الصبر في كل مكان شاهداً على صبرنا" كما يقول إلياس خوري في رائعته (باب الشمس).

دمر الإسرائيليون نصف مليون شجرة 80% منها أشجار زيتون. ودمر الإسرائيليون واقتلعوا خلال السنوات الست الـماضية من (الانتفاضة الثانية)، مليون وثلاث مائة وخمسين ألف شجرة في الأراضي الـمحتلة عام 67، وجرى الاستيلاء على 125 ألف شجرة مقتلعة بينها 36 ألف شجرة زيتون وإعادة زراعتها داخل الخط الأخضر. الطرق الالتفافية وجدار الفصل العنصري والتوسعات الاستيطانية عزلت عشرات آلاف الاشجار عن أصحابها وأصبحت بلا عناية ولا تقطف.

إن اقتلاع هذا العدد الضخم من الأشجار يكشف الطبيعة الإقصائية للاحتلال الإسرائيلي. فاقتلاع الأشجار بالجملة يستهدف خلخلة العلاقة بين الإنسان والأرض وتقويض مقومات حياة الشعب الفلسطيني على أرضه، انها جزء لا يتجزأ من عملية تطهير عرقي بطرائق جديدة. ومن ناحية أخرى فإن اقتلاع وتدمير هذا العدد الضخم من الأشجار الـمترافق مع نقل مصانع الـمبيدات والأسمدة الـممنوعة، وعدم توفر مكبات نظامية للنفايات، وفقدان نظام صرف صحي، كل هذا من شأنه أن يلحق أضرارا جسيمة بالبيئة الفلسطينية والـمحيطة.

معركة الأشجار غير متكافئة، أعداد الأشجار الـمقتلعة تفوق كثيرا أعداد الأشجار الـمزروعة، وفي ظل سيادة ثقافة فلسطينية لا تكترث كثيرا بتجديد زراعة الأشجار، وفي غياب استراتيجية للدفاع عن الأشجار والزراعة يبقى الوضع مختلا. كان أجدادنا وآباؤنا يملكون ثقافة تشجير وزراعة أفضل بكثير من أجيالنا والأجيال الناشئة. كم زرع الأجداد والآباء وكم زرع الأبناء؟ الـمعادلة مختلة لـمصلحة الأجداد والآباء، والـمعادلة مختلة في الصراع على الأشجار مع الاحتلال.

مبادرة مجموعة من الـمنظمات غير الحكومية والحكومية لزراعة مليون شجرة كرد على اقتلاع مليون ونصف الـمليون شجرة، تعد بكل الـمقاييس مبادرة بناءة وقيمة وتستحق الدعم والإسناد. يقول الناشط مقبل ابو جيش من الإغاثة الزراعية، لقد أنجزت الـمنظمات توزيع أكثر من نصف مليون شتلة لاشجار مثمرة حتى الآن. وربط بين تنفيذ الخطة والدعم الـمالي الذي تحصل عليه الـمنظمات، ونوه لدعم الـمتبرعين في دبي الذين قدموا 600 ألف دولار لدعم الـمشروع.

غير أن انجاح الـمشروع وتطويره يرتبط بوضع خطة وبرمجة للـمنفذين والداعمين، وبالتوعية الـمحلية والخارجية عبر حملات إعلامية تتوجه للـمؤسسات الاقتصادية ورأس الـمال الفلسطيني، وتحفز العمل التطوعي والـمبادرات الفردية والـمحلية. ولنبدأ برفع شعار: كل مواطن يزرع شجرة، كل مدينة تؤسس حديقة، كل محافظة تنشئ محمية، من أجل فلسطين خضراء.

جريدة الأيام (03/06/2007).

 
 
اقرأ المزيد...
 
Footer
اتصل بنا
العنوان البريدي:
صندوق بريد 69647
القدس
عمارة الريماوي، الطابق الثالث
شارع ايميل توما 14
حي المصايف، رام الله
الرمز البريدي P6058131

فلسطين
972-2-298 9490/1
972-2-298 9492
info@miftah.org
للانضمام الى القائمة البريدية
* indicates required