مفتاح
2025 . الأحد 1 ، حزيران
 
مفتاحك إلى فلسطين
The Palestinian Initiatives for The Promotoion of Global Dialogue and Democracy
 
الرئيسة
 
 
 
 
 
 
 
 
English    
 
 


في الخامس عشر من آذار، من العام ألفين وسبع ميلادية، وفي السنة الثانية عشرة من العام ألف وأربعمائة وثمان وعشرين هجرية، وفي الذكرى السنوية الأولى لرحيل فيصل؛ سرق الليل فضة النهار، وأطاح الشتاء بالربيع. لملمت الشمس أشعّتها واختبأت. بكت السماء، وصرخت الرياح: أواه فيصل.

بين لؤلؤة الخليج ونار فلسطين تأرجح قلبه، بين مدينة تحب الآخرين ومدينة "تدرِّب البشر على حب الآخرين"، بين الجُمّيرة والياسمين، بين الطفولة والشباب، بين مدينة في حجم قلبه، ومدينة تستقر في غور قلبه، عاش وبنى وحلِم، ورحل وفي قبضته أمل العودة.

*****

"يا حبيبي يا أخي بل يا أنا لم تمت أنت ولكني أنا

لم أفقد ابناً باراً فحسب؛ لقد فقدتُ أخاً وصديقاً وحبيباً، كما فقدت العائلةُ صدراً رحباً ورأياً ثاقباً. يلوح فيصلُ أمامي صغيراً حادَّ الذكاء، ينصرف عن التلقين والحفظ إلى التحليل والتركيب. لا يقنعُ سوى بالمنطِق، ولا يرضى بالإجابات السهلةِ السريعة.

ويمرّ أمام عينيّ شاباً متمرداً، يغرف من المعرفة بشغف، دون أن يكتفي بالنظرية العلمية؛ بل يسعى دوماً إلى التطبيق العملي، الذي يرفد النظريةَ العلميةَ، ويجعلها قابلة للحياة. وأراه رجلاً ناضجاً يعرف طريقه، ويسير في اتجاهه بخطى واثقة. يدير عملاً اقتصادياً بكفاءة نادرة، ويربط بين عمله الخاص والعمل الوطني العام. يؤمن بمفهوم الثقافة الواسع، كما يؤمن بأهمية وضرورة إحداث تغيير في وضع المرأة العربية، على جميع الصعد الثقافيةِ والاجتماعيةِ والسياسيةِ والاقتصادية.

ولم يكن إيمانُهُ بدورِ المرأة نظرياً فحسب، لقد جسَّد إيمانَهُ هذا في تعامله اليومي مع والدته وزوجه وابنته وشقيقاته وعموم العائلة، وفي تعامله المهنيّ، مع كل من عرف.

أي فيصل، ما زال صوتُكَ يتردَّدُ في أُذُنيّ، مستفسراً عن صحتي، وصحة والدتك. ما زالت صورَتُكَ أمامي، كلما لاحَ صباحٌ، وخيَّمَ مساء. وسوف تظل مثالاً للشباب الفلسطيني والعربي الحر، الذي يشق طريقه المستقل، ويرتبط بعائلته ووطنه في الوقت ذاته.

قاسم عبد الهادي

*****

"سوف أحكي بضع حكايات عن فيصل: إضاءات من حياته وشخصيته. كان طفلاً مغامراً. كان يحب الفعل، ولا يقتنع إلا بقيمة العمل. أقرب الدروس إلى نفسه الكيمياء. اقتنى مختبراً أكبر من الموجود في مدرسته الثانوية. شكَّل المختبر معبداً صغيراً له. لمن لا يعرفه، قد يبدو الرجل الهادئ المبتسم، وكأنه رجل يقضي حياة هادئة منظمة ومنتظمة وبلا مغامرات؛ لكن حياته كانت في الواقع سلسلة مغامرات عملية وعقلية، سواء تعلق الأمر بالعمل والإدارة أو غيرهما. وحياة مثل هذه لن تخلو من شرر الانفجارات. عام 1967م داهم الاحتلال نابلس فجأة. كانت تنتظر المدد من المشرق، فجاءها المحتل. قبل يوم أو يومين من المفاجأة المرَّة؛ وزعت على بعض الشباب بنادق قديمة.

لم يتمكن من الوصول إلى مدخل مدينة نابلس للتصدّي. كانت الدبابات التي وصلت مركز المدينة أسرع منه. صعد مع صديقين له على سطح عمارة عند دوار نابلس. أصيبت العمارة بقذيفة في أعلاها، ظلت آثارها شاخصة حتى مطلع التسعينيات. انسحب فيصل الشاب مع زملائه. وكانت هذه معركة أولى صغيرة. كانت معركة الإعلان عن الإرادة.

عام 1977م تخرج وعمل سنة في عمان، ثم انتقل إلى دولة الإمارات. عملت معه في الثمانينات وكان لي شرف مساعدته في أكبر انجازاته هناك. انطلق هذا الإنجاز من فكرة خلاقة لم يدرك أهميتها الكثيرون في البداية: إقامة أول ميناء برّي في دولة الإمارات.

منذ عودتي إلى فلسطين عام 1993م مع الوالدة، "الفوج الأول للمبعدين العائدين"، أصبحت عودته أملاً دائما يشغل باله وعقله، هو الذي تسلل خارج نابلس بعد سجنه فيها عام 1967م؛ لكنه كان يتردد في التوجه إلى سفارة الاحتلال. كان هذا فوق ما يطيق. كنت أشجعه قائلا: هذه بلادنا ويجب أن نعود إليها، حتى لو تم ذلك عبر ذل فيزا الاحتلال وتصاريحه. هذه بلادنا، هي تعرفنا ونحن نعرفها، ولن يغير هذه الحقيقة أي شيء. وكان يتردد.

لكن الشوق إلى العودة كان أقوى من كل شيء، ففي مطلع عام 2006 بالذات، سجل بحماسة فائقة للحضور إلى مؤتمر الاستثمار، الذي كان هناك تخطيط لإقامته في نيسان، في القدس وبيت لحم وغزة. أعد العدة كي يعود ولو زائراً إلى وطنه، ومسقط رأسه؛ لكن يبدو أن القدر كان مع موقفه الأول، موقفه الممانع للعودة عبر فيزا يختمها المحتل. أوقفه القدر. ومضى فيصل، وظل حلم العودة. ربما ستكون العودة من دون فيزا، من حظ ولديه قاسم وفارس، وابنته رزان.

بعد أن تركت الإمارات عام 90م، حافظت على إقامتي فيها لهدف واحد، أن أعود باستمرار لزيارة فيصل. وفي كل مرة كنا نمضي كامل وقتنا معاً، كنا نتحدث عن السياسة والاقتصاد والتجارة. نتحدث عن شؤوننا الخاصة، وعن بيتنا الذي تربينا فيه في نابلس. حدثته مرة عن زيارتي للبيت وعن خزانته خاصة. حين دخلت البيت سألت رب العائلة المستأجرة عن خزائننا. قال لي إنها ما زالت على حالها، وإنهم ما زالوا يستعملونها لأطفالهم. وأضاف: لكن هناك خزانة واحدة منها، تملأها الخربشات في كل مكان. أدركت أنه يتحدث عن خزانة فيصل.

وقفت أمام الخزانة، التي ذكرتني رؤيتها بيوم اعتقال الوالدة الأول، بعد أيام من الاحتلال. عاث يومها جنود الاحتلال فساداً بكل شيء في البيت. فتحوا خزاناتنا كلها؛ لكن خزانة فيصل، المقفلة بمفتاح صغير، أحرنت. وكنت أرجو أنا الطفل ألاّ يفتح بابها، إذ كنت أدرك بشكل غامض أنه يخبّئ فيها شيئا محظوراً. لم أكن أعرف أنها منشورات؛ لكنني كنت أعرف أنها أشياء خطرة ومحظورة. رفضت الخزانة أن تفتح. ثم حصل أمر، جعل جنود الاحتلال يغادرون سريعاً. وهكذا تركوا الخزانة مقفلة ومضوا.

شعرت بانتصار كبير، وشكرت في قلبي الخزانة وإصرارها. ما زالت خزانة فيصل على حالها في البيت القديم في نابلس. إنها مثل قلبه الذي انفتح دوماً لكل شيء، إلا للاحتلال. سعد قاسم عبد الهادي

faihaab@gmail.com - مفتاح 26/3/2007 -

 
 
اقرأ المزيد...
 
Footer
اتصل بنا
العنوان البريدي:
صندوق بريد 69647
القدس
عمارة الريماوي، الطابق الثالث
شارع ايميل توما 14
حي المصايف، رام الله
الرمز البريدي P6058131

فلسطين
972-2-298 9490/1
972-2-298 9492
info@miftah.org
للانضمام الى القائمة البريدية
* indicates required