هذه الوقائع هي المؤسسة لذاكرة الكارثة المستمرة. إنها ذاكرة الحقيقة التي لا يمكن لأية سياسة عربية أن تتجاهلها، حتي لو كانت سياسة لهذه الزمرة من حكام اليوم. فليس ثمة حق لأي منهم في استلاب جديد لحقوق المهجرين. لا يمكن لحكام الأيام العربية العجاف أن يستأصلوا ذاكرة التاريخ. فهي الذاكرة التي لا تزال تصنع الحاضر. إنها الذاكرة القابضة علي حاضر العرب والإسلام. فلا فكاك منها الأمس كما اليوم، كما الغد الذي يعيد تأصيل وقائعها ومعانيها، مجدداً أوامرها المطلقة لكل وجدان إنساني حر. وبدايةً من الأمر الأول، وهو أن استلاب الأوطان مهما طال أَمَدُه لا يعفو عليه قدم الزمن، بل يعمقه، يجذره، ويضاعف من قوة مرجعيته بالنسبة لكل ما يُصطلح عليه باسم حقائق الأمر الواقع. إنها المرجعية المؤسسة لجوهر الشرعية القائمة علي قاعدة أن كل ما بُني علي باطل فهو باطل. وهذه الحكمة هي أكثر من مجرد قاعدة حقوقية. إنها تختصر دروس الصراع الإنساني بما يعني أنه ليس ثمة من قوة مهما عظمت قادرة علي إحقاق الباطل، وإبطال الحق. الوقائع وحدها، ومهما باتت من صناعة الشر المحض فحسب، فإنها لا بد أن تستثير وقائع أخري مضادة. إنها تأتي بفعالية سلب السلب. وهذه الخاصية هي الشاهدة دائماً علي مكر التاريخ. مهما انحرفت عدالة التاريخ فلا بد أن يأتي علي ما يذكّر بها، ويدفع إلي تصحيحها. هذا علي الأقل ما يجعل حياة الجماعة البشرية ممكنة، وإلا لَبطُلَ التاريخُ فيه ببطلان إنسانه، مدنيته. أما الأمر الثاني الذي تطلقه الذاكرة الكارثية، فهو أن الطغيان يستحيل عليه أن ينتج شعباً ودولة وحضارة، تشكو هذه جميعها من علة تكوينية في بنيتها. وهي كونها مجرد مشروع إرادوي اصطنعته حفنة من العقول ذات المطامح الاستراتيجية، علي أمل أن ينتصر المصطنع علي الأصيل، بفضل عناصر من التفوق (العصري) لن تعجز الضحية عن تحصيل مثيلاتها أو ما هو أفعل منها، بالإضافة إلي ما تمتلكه أصلاً من عوامل الصمود والممانعة ضد الجور وأدواته. فإن فلسطين باقية أرضاً ووطناً ببقاء شعبها، وإن كان معظمه خارج حدودها. لكن الجغرافية لا تنفصل عن التاريخ وهو الذي يحتضن ويرعي قصص الحقيقة الدائمة عن تكوين الأوطان والشعوب. فالغياب القسري لشعب عن أراضيه وبيوته ومزارعه لن ينتزع البلاد من تراث فلسطين، لن ينتزع فلسطين من بلاد العرب والإسلام. هذه الحقيقة ليست سياسية، بل مسألة كيانية. وتتخطي حقوقُها الوجودية حتي كلَّ ما يعترف لها به القانون الدولي من قرارات الأمم المتحدة، اعتباراً من قرار التقسيم إلي تسويات أوسلو البائسة وأشباهها. كل هذه المسيرة الموصوفة بالدولية إنما تمارس عملياً البناء علي الباطل الأصلي. إنها فاقدة لشرعية الحق في حد ذاته بالنسبة لاغتصاب فلسطين الذي منحته شرعية القانون الدولي؛ بما يعتبر وصمة حقيقية في تاريخ هذا القانون. فالصفة الدولية لا تخلق شرعية في حد ذاتها وتخصها وحدها. بل هي بالأحري سلطة فَرْضٍ وإرغامٍ قبل أن تكون تعبيراً عن إرادة تفاهم وتوافق بين غالبية الدول، دون تمييز بينها من قوي عظمي وأخري صغري. ما يعني أن القانون الدولي هو صيغة ممارسة وتعبير عن تحكم القوي في الضعيف وعلي المستوي الكوني، مما يلغي عملياً كل الأساطير المتداولة حول مصطلح الديمقراطية العالمية. أما الأمر الثالث الذي لا تكفّ الذاكرة الكارثية عن تكراره مخاطبةً به الوجدان الإنساني أولاً قبل أن تكون له صفة وطنية أو جنسية ما، هو أن القبول بالقهر قد لا يقل إيذاءً أو تأثيراً سلبياً عن القهر ذاته. والعرب لم يكونوا أمة مقهورة إلاّ لأن هذه فشلت فشلاً ذريعاً في إنتاج أنظمة حكم تكون أقرب إلي مصالح أجيالها الصاعدة منها إلي مصالح القوي الأجنبية المتكالبة علي نهب أوطان العرب وإذلال شعوبهم. فلقد شكلت هذه الأنظمة نوعاً من طبقة متعالية، منفصلة كلياً عن هموم الغالبيات العظمي من الناس الذين تتحكم بأرزاقهم اليومية، وتبتزهم آمالهم القومية المحطمة، من هزيمة سياسية أو عسكرية إلي أخري، في مسلسل من الصراع العقيم مع (العدو التاريخي) كمصطلح لفظوي أكثر منه واقعاً مزمناً مهدداً لكلية المصير العربي، بصرف النظر عن توزعه الاجتماعي أو القطري. ربما خُيِّل أخيراً إلي أرباب النظام أن مجتمعاتهم تآلفت مع اتّضاع الأحوال والانقلاب إلي معاناة اليأس من التغيير، بحيث يصير معظم الناس إلي حال الانصياع للقهر والقبول بآفاته كما لو كانت ظرفاً طبيعياً عادياً. فلا التفاتة جماعية جادة لأوضاع الوطن المباشر؛ فكيف يكون الأمر بالنسبة للقضايا القومية الشاملة، وفي مركزها الصراع مع إسرائيل. لكن الصدمة (القومية) حدثت مع ذلك بدءاً من الصدمة النفسية التي هزت وعياً جماهيرياً خاملاً فيما مضي، بيد أنه أصيب بما يشبه لسعة النار مع سماعه بخبر (المبادرة العربية للسلام) لم يكن الأمر مجرد خبر، بل كان قراراً لِقَمّةٍ عربية، وجاء جازماً قاطعاً، كما لو كان مجرد إذاعته كتعبير عن منطوق إرادة جامعة للحكام العرب، يعني إعلاناً واقعياً عن إنهاء الصراع مع إسرائيل من لحظته. ليس ثمة انتظار لمفاوضات أو سواها. إنه القرار المبرم الذي يسبق كل تعليلاته، الحقوقية علي الأقل، ولا يتطلب من الطرف الآخر في الصراع إلا قبولاً مبدئياً. إنه أكثر من إعلان نوايا بحسب الاصطلاح القانوني. إنه الخيار الأخير الذي لا بد للطرف الثاني من أن يقبله. أما كل حديث عن الشروط المنصوص عليها في نص القرار، فهو أنها فاقدة سلفاً أية قدرة لها علي التأثير في مجريات اتفاق تمَّ إبرامه من ورائها، كما من وراء فلسطين والعرب والإسلام. هذه الحقيقة المذهلة تصبُّ كذلك في مسيرة القهر الدولي الإقليمي المعهودة التي انفجرت مع كارثة فلسطين منذ تسعة وخمسين عاماً، ولا تزال تتابع فصول الطغيان عينها، مع هذا التغيير في الشكل علي الأقل، إذ يغدو فيه النظام العربي شريكاً كاملاً ونهائياً للجانب الطغياني من السلطة الدولية العمياء؛ وهي المسؤولة عن أكبر سرقة لوطن في هذا العصر، وقتل وتهجير شعب كامل وتشريده سواء فيما تبقي له من أرضه المسلوبة أو أوطان جيرانه. ما لم يفهمه هذا الجانب الطاغي من المجتمع الدولي أنه إذا أمكنه إيقاع القهر في الآخر فإنه لن يستطيع أن يفرض عليه القبول به. هذه الحكمة الفلسفية البسيطة تريد أن تؤكد أن برهان الحرية إنما ينبع من هذا الهامش المعنوي ما بين إيقاع الشر والقبول به. فالقوة قادرة لكن الأقوي منها هو رفضها. وقد استمرت قضية فلسطين حية طيلة عمر الاغتصاب الاسرائيلي. وكذلك عاشت ثقافة النهضة العربية المعاصرة علي هذه الحقيقة، حتي أمست فلسطين المنكوبة علي رأس أعظم قضايا الحق عالمياً. فكيف تتصور بعض العباءات العربية أنها قادرة علي حجب هذا التراث ومحوه من ذاكرة العصر الكوني، وليس فحسب من وجدان الزمن العربي والاسلامي. فالمجتمع الدولي، من طغاته إلي أسويائه يلحُّ ويجاهر بصريح القول والرأي، أن السلام العالمي ما بين شعوب المعمورة داخل أوطانها، وليس ذلك السلام الشكلي ما بين الدول فقط، إنما يتوقف علي الانتهاء من الصراع الفلسطيني الإسرائيلي؛ وإلا فلا حلَّ جذرياً أبداً لما يسمي (بظاهرة الإرهاب العالمي)، التي برهنت علي مدي فاعليتها غير المسبوقة في تهديد الأمن المدني، وبدءاً من أمثولة 11 ايلول (سبتمبر) ضد الطاغية الأكبر الأمريكي، الذي أصيب في عقر داره وفي الصميم من رموز جبروته. لكن بدلاً من مواجهة الأسباب الحقيقية لظاهرة الإرهاب، بل بدلاً من الاقرار بفشل المشروع الاسرائيلي في محو فلسطين وشعبها معها، والعجز المضطرد في السيطرة السياسية والاقتصادية علي مجمل محيطها العربي، حتي عمقه الاسلامي الأبعد، فقد اتُخذت ـ الظاهرة ـ هذه حجةً شيطانيةً لتفجير صراع الحضارات رغماً عن إرادة شعوبها وقياداتها، وإدخال العالم هكذا في أظلم حقبة من تاريخه الراهن، وتحت العنوان المشؤوم: الإرهاب ومكافحته، وانطلاقاً خاصة من حرب الأمبطرة الأمريكية الموصوفة بالاستباقية ضد شعوب القارة العربية الاسلامية. لن تكون المبادرة العربية حتي في حال تقبل إسرائيل لبعض بنودها، سوي مجرد حلِّ لبعض عقابيل الصراع، وليس لأسبابه وحيثياته التاريخية بل الوجودية. فقد حصرت المبادرةُ (الخلاف)، وليس الصراع، حول إعادة الأراضي العربية المحتلة فقط، وتجاهلت عن عمد، أصل المشكلة، وهو اغتصاب فلسطين كوطن. حتي لو اعترفت إسرائيل بحق العودة للمواطنين الأصليين، وهو أشبه بالمستحيل بالنسبة لأيديولوجيا الصهيونية، أو (أجازت) قيام الدويلة الفلسطينية، فلن يغير ذلك شيئاً من حقائق القضية، وهي كونها أساساً قضية وطن واحد لأبنائه، وقابل لاستقبال من يرضي لنفسه وضعية المواطن السويّ بصرف النظر عن انتماءاته أو معتقداته الشخصية. ما تقوله (القضية) في الحس العربي بل الإنساني، هو أن يعود الشعب المهجر إلي فلسطين الأصلية، وليس إلي دويلتين عربية وعبرية، مصطنعتين وزائفتين معاً. مع هذا العيد الكارثي التاسع والخمسين ينبغي لدعاة السلام الصادقين، في أي معسكر كانوا أن يضعوا حدّاً لمسلسل الحلول العابثة. وآخرها هذه المبادرة البائسة لجامعة الحكام. فقد هبطت كأنها تعويض مجاني يبذله القادة العرب عن فشل المشروع الصهيوني المتمثل في استكمال اغتصاب الأرض بمحو أصحابها الأصليين من كل خارطة جغرافية أو اجتماعية. فهؤلاء (السكان الأصليون) لا يريدون أن يستردوا بيوتهم فقط، بل وطنهم. ولعل هذا الوطن الجديد القديم سيكون من السعة والرحابة بحيث يمنح جنسيته حتي لمن كان يغتصبه ويحتكره لقومه ولملته. (فلسطين المواطنية العادلة) لكل أبنائها هي نهاية الكارثة المستديمة. كل الحلول الأخري تغذيةٌ عمياء للذاكرة الكارثية، التي لن تكفَّ عن تكذيب كل الحلول الزائفة من أية جهة أتت وإن من لدن بعض العرب أنفسهم. - الحياة 30/4/2007 - اقرأ المزيد...
بقلم: ريما كتانة نزال
تاريخ النشر: 2018/7/23
بقلم: جهاد حرب
تاريخ النشر: 2018/5/12
بقلم: وكالة معا الاخبارية
تاريخ النشر: 2018/5/2
|