وليس يغيّر من هذا أن وقفاً للاقتتال حصل، وأن “حكومة وحدة وطنية” تشكلت في أعقاب “اتفاق مكة”، وبمقتضى أحكامه، فهذا أيضا كان من مقتضيات الهدنة حتى تكون هدنة، وحتى تُؤتي بعض الثمرات السياسية الفورية المطلوبة منها. في كل حال، أتى الصدام المسلح المتجدد بين فصيلي السلطة يقيم دليلاً من نفسه على أن الأمر يتعلق بهدنة، وأن الهدنة هذه هشة بحيث لم تعمّر طويلاً. هي هدنة هشة لأنها مغشوشة أو قامت على غش متبادل. لم يكن أحد من فريقيها جاهزاً - على الصعيدين السياسي والنفسي - للاعتراف بشراكة الآخر له في السلطة على ما اقتضته هدنة مكة. فلا “فتح” استساغت هزيمتها الانتخابية ونجاح “حماس” في الوصول الى سلطة بنتها “فتح” وحدها لكي تبقى فيها، ولا استساغت أن تصبح مجرد شريك في حكومة يرأسها أحد قادة “حماس”. ولا حركة “حماس” استساغت أن يسرق أحد منها نصرها الانتخابي فيشاركها في اقتسام حق حسبته حصرياً لها، ولو تحت عنوان وطني برّاق (الوحدة الوطنية)، أو استساغت أن يقال لها - حتى من النزهاء الحريصين على الدفاع عن حقوقها المشروعة - إن التوازنات الفلسطينية الداخلية لا تسمح بتكوين حكومة من لون واحد، حتى وإن تمتعت بغالبية “نيابية” مريحة. كان كل فريق يحدث نفسه غير آبه بما يجري أمامه من حقائق، وكأن ما يدور من أفكار في رأسه هو وحده ما يرسم له جدول أعماله السياسي. كانت “فتح” مسكونة بحال من الذهول مما جرى في الخامس والعشرين من يناير/كانون الثاني ،2006 “قبلت” هزيمتها على مضض متحينة الفرصة لكي تأخذ باليسرى ما فقدته باليمنى. تركت للحصار الدولي والعربي لحكومة “حماس” ان يفعل فعله ويثمر أوضاعاً داخلية جديدة قابلة للاستثمار. ولقد استثمرت الضائقة المالية وحركت جموع الجائعين من موظفي السلطة، وزادت فأنزلت مسلحيها “النظاميين” (الأجهزة الأمنية) والميليشياويين لرفع جرعة الضغط. ثم لم تلبث أن أنضجت موقفها الانقلابي تحت عنوان الذهاب الى انتخابات جديدة، أي الذهاب الى مشهد سياسي جديد تتغير فيه معادلات القوة والتمثيل في الداخل الفلسطيني بعد ان وقع إرهاق المجتمع بالحصار الدولي وتدفيعه ثمن التصويت لمرشحي “حماس”. في المقابل، كانت “حماس” مسكونة بشعورها الظفراوي المبالغ فيه، لعلها ما صدقت أنها قوة سياسية وتمثيلية بالحجم الذي كشفت عنه انتخابات “المجلس التشريعي”، وما صدقت ذلك منبهرة حتى صدقت وهمها بأنها القوة الأكبر والرئيسية في الساحة الفلسطينية، وأنها تستطيع وحدها أن تحكم. وحين كانت تسمع من يقول لها إن فلسطين لا تُحكم من فصيل واحد- وهي الزاخرة بالفصائل والأطياف والبرامج - وإن المصلحة الوطنية تقتضي بناء شراكة سياسية في السلطة، كانت شديدة الاطمئنان الى وجاهة ردودها وسداد منطقها حين تقول: “إن “فتح تملك الرئاسة، وهي تعشش في أجهزة الأمن، ثم أنها انفردت طويلاً بالنظام السياسي الفلسطيني: رئاسة وحكومة ومجلساً، وما اعترض عليها أحد، فكيف يعترض على انفراد “حماس” بالحكومة؟ ولقائل أن يقول إن فكرة الشراكة في الحكومة نضجت فلسطينياً، في الحوار بين “فتح” و”حماس” وبين عباس ومشعل وهنية، قبل لقاء مكة، وإن في ذلك دليلاً على أن الأمور اتجهت نحو تنازل متبادل عن المطلقات السياسية والمواقف الحدية قبل أن يجد لها “اتفاق مكة” إخراجاً سياسياً. وهذا صحيح من وجه ظاهر، لكن صحته لا تكتمل إلا متى أدركنا أن ذلك التنازل المتبادل أتى اضطرارياً وتكتيكياً لتهدئة وضع تدهور وليس لإنتاج حل سياسي توافقي، فحركة “فتح” لم تقتنع بأن إزاحة “حماس” من السلطة خيار سيئ وقرار خاطئ ومُجاف للتقاليد الديمقراطية، بل واعتداء صارخ على إرادة الشعب المعبر عنها في صناديق الاقتراع، وإنما اقتنعت بأن تكلفة تلك الإزاحة عالية جدا بالنظر الى قوة “حماس” وقدرتها على الدفاع عن سلطتها، وبأن بلوغ هدفها ممتنع في المرحلة الراهنة. وهذا ما أنضج في وعي بعض قادتها فكرة الشراكة من خلال حكومة وحدة وطنية (بعد أن كانت قد رفضتها ابتداء حين تكليف محمود عباس، إسماعيل هنية تشكل الحكومة في ربيع العام 2006). وبالمثل، لم تقتنع “حماس” بأن احتكار السلطة قرار خاطئ، وبأن شراكة سياسية فيها مع “فتح” وفصائل أخرى خيار عقلاني ونهج مطلوب في مرحلة تحتاج الى منطق الإجماع والتوافق لا الى منطق الأغلبية العددية في “المجلس التشريعي”، ومنطق السلطة والمعارضة في نظام سياسي غير مكتمل (بسبب انعدام وجود دولة وطنية وسيادة واستقلال)، وإنما هي اقتنعت بأن استمرار التمسك بحكومة من لون واحد سيزيد من الخناق الدولي المضروب عليها، ومن ضغط الاحتجاج الشعبي على عدم دفعها رواتب الموظفين، وقد يهدد بسقوطها أو بترجيح سيناريو انتخابات مبكرة. في الحالين، لم تنضج فكرة “حكومة الوحدة الوطنية” كمراجعة لخيار إزاحة “حماس” من السلطة، ولخيار احتكارها للحكومة، أو كإدراك للحاجة الى بناء توافق وطني، وإنما تبلورت كاضطرار وإكراه من الجانبين، ووقع التعامل معها بمنطق أحكام الضروة: وهي أحكام استثناء، فيما ظلت القاعدة هي رؤية كل من الفريقين الى السلطة بوصفها حقاً مخصوصاً وحصرياً، والنظر الى الآخر - غريمه - نظرة شك وحذر وتهيب مع كثير من عدم مشاعر الثقة به حتى لا نقول الرغبة في الكيد له! هكذا ذهب الفريقان الى لقاء مكة مسكونين بالشعور بأنهما يتفاوضان على هدنة مؤقتة لا يجد أي منهما فيها ما يريد، وعينه على مستقبل قريب تتغير فيه الظروف والأحوال، ويصبح ممكناً فيه حسم حال الازدواجية في السلطة والقرار أو - على الأقل- تغيير قواعد اللعبة. وبهذا المعنى هي هدنة مغشوشة، ولا يشبهها في الغش غير قرارات وقف القتال المنهمرة على الورق والأذن انهمار رصاص القتلة من الجانبين على أجساد المواطنين، وعلى مشروع وطني يتحالف عليه أبناؤه! ولا حول ولا قوة إلا بالله. اقرأ المزيد...
بقلم: ريما كتانة نزال
تاريخ النشر: 2018/7/23
بقلم: جهاد حرب
تاريخ النشر: 2018/5/12
بقلم: وكالة معا الاخبارية
تاريخ النشر: 2018/5/2
|