مفتاح
2025 . الأحد 25 ، أيار
 
مفتاحك إلى فلسطين
The Palestinian Initiatives for The Promotoion of Global Dialogue and Democracy
 
الرئيسة
 
 
 
 
 
 
 
 
English    
 
 


في الأوقات العصيبة، عندما تتعرض بلاد لـمخاطر جسيمة تُهدد كيانها وكينونتها، خاصة حينما تتفسخ الـمصلحة الوطنية العُليا وتتحوّل إلى مصالح فئوية ضيقة متناحرة تؤدي إلى اقتتال داخلي يَعصِف بوحدة البلاد ويُعرض للذوبان مشروعها الوطني، تظهر الحاجة الـماسة والأهمية الفائقة لوجود بوصلة موجِّهة ومُجمِّعة تحمل الهمّ الوطني العام، فتسمو فوق الصِراعات وتتحدى مختلف الصعوبات لتحقيق الانبثاق من الـمحنة. وعدم وجود مثل هذه البوصلة الوطنية غالباً ما يؤدي إلى الانزلاق في الـمتاهات السياسية الحزبية والفئوية والفصائلية الضيقة، ما يُعزّز استمرار التناحر ويُعمّم الفوضى ويُعمّق الأزمة، ويؤدي إلى رزوح البلاد تحت وطأة انفلاش أوضاعها الداخلية والخارجية لفترة مُمتدة.

لا أعتقد بأن أحداً يختلف حول مدى صعوبة أوضاع بلادنا حالياً، والتقليل من هذا الشأن أو التغطية عليه عن طريق محاولة التصرف وكأن الأمور سليمة وطبيعية، لن يحلّ الأزمة بل يُعقدها. وكلـما طال أمد السعي إلى الحلّ زادت التعقيدات وترسخّت. لقد أدخلنا أنفسنا، فوق قهر وظلـم الاحتلال، في متاهة صراع داخلي عاصف لن يخرج منه أحد رابحاً سوى إسرائيل الـمنتشية بتحقيق أطماعها تحت غِطاء الصراعات الفلسطينية الداخلية التي تستهلك كل طاقاتنا وتُلطخ سمعة نضالنا التحرري بالخارج. وإذا استمر الحال الفلسطيني على هذا الـمِنوال فلن تقوم لنا قائمة لفترة مديدة قادمة، بل قد يؤدي تردي أحوالنا إلى الرضوخ لتسويات لـم نكن لنقبل بها لولا ما أوصلنا إليه أنفسنا من سوء حال. رغم صعوبة الـمرحلة واحتدام الـمواقف وغليان الـمشاعر، يجب ألاّ نفقد البوصلة الـموجِّهة والـمجمِّعة. وتحقيق الـمصلحة الوطنية الفلسطينية العُليا لا يمكن أن يتجسد من خلال تقسيم الـمُقَسّم أصلاً من بقايا فلسطين، بل بالإصرار الـمبدئي والفعلي على تجميع الـمُقَسّم ليس فقط سياسياً، وإنما جغرافياً أيضاً. لن تقوم لنا قائمة إن تكرّس انفصال قطاع غزة سياسياً عن الضفة، فالـمشروع الوطني الفلسطيني هو مشروع تجميع وليس تقسيم، ويكفي ما لدينا من تَشتُت وشتات فلسطيني كي نتعظ ونُصّر على ضرورة إنهاء الحالة الشاذة التي أوصلنا أنفسنا إليها، وبأسرع وقت ممكن.

واضح أنه لن يكون سهلاً على الإطلاق القفز عمّا جرى من أخطاء وخطايا اقتُرفت خلال الفترة الـماضية، ومجرد الدعوة إلى ذلك تكون دعوة ساذجة وطوباوية. بل على العكس تماماً فإن القفز عن ذلك يُعتبر "طبطبة" مضرّة، وقد يكون ما أوصلنا إلى الوضع الحالي مسلسل من "الطبطبات" السابقة وعدم حسم قضايا رئيسية عالقة. علينا الآن ونحن في خضم الأزمة، ولكي نخرج منها، أن نُخضِع أنفسنا إلى عملية مُحاسبة ومُساءلة لا تطال فقط القشور، وإنما تصل إلى الجذور. وفي الـمعالجة يجب عدم التركيز فقط على اتخاذ إجراءات وإنما فتح ملف الـمُسببات كي تكون الـمُراجعة شاملة واستخلاص العِبر جذرياً. ولكي يتحقق ذلك ونخرج من أتون الانزلاق الـمستمر في دوامة الفعل وردَّة الفعل إلى مجال الـمعالجة الإستراتيجية، لـم يَعُد أمامنا مجال إلا الحسم في القضايا التالية، كونها تُشكّل الـمداخل الأساسية لتقويم الوضع الفلسطيني.

التسوية السياسية: لـم يعد بالإمكان الاستمرار بعملية تسوية سياسية غير واضحة الـمعالـم أو محددة النتائج. فالتفاوض ليس غاية، وإنما وسيلة لتحقيق غاية. ومن التجربة السابقة فإن الإسرائيليين استهلكونا في "رحلة" مفاوضات عدمية امتدّت ثلاثة أضعاف الـمُدة الزمنية الـمقررة أصلاً، ولـم تنتج سوى الـمزيد من تقطيع أوصال البلاد إلى كانتونات، والإيغال في عملية الاستيطان وبناء الجدار العازل، وتحويل حياة الفلسطينيين إلى جحيم بين فاقة وفقر وبطالة ومذلّة وإهانات واستهدافات. لـم يكن هذا هو القصد من عملية التسوية السياسية بالنسبة للفلسطينيين، بل كان الهدف إنهاء الاحتلال وإقامة الدولة الـمستقلة والسيادية على حدود العام 1967.

لقد أدى التعثُّر في مسيرة التسوية السياسية، والـمترافق مع إصرار فلسطيني على الاستمرار في العملية التفاوضية والدفاع عنها وإعطاء مختلف التبريرات لاستمرارها، إلى تأزيم الوضع الفلسطيني الداخلي بشكلٍ مستمر ومتصاعد. ومع أنه توجد أسباب داخلية عديدة تراكمت وأدت إلى حالة الاحتراب والاقتتال الداخلي، إلا أن غياب الأفق السياسي للتسوية كان سبباً رئيسياً لـما وصل إليه الحال الفلسطيني الداخلي.

بإمعان ودون مغالطة أو تغطية أو تقديم تبريرات، يجب الفحص والتحقق فلسطينياً من مدى إمكانية تحقق حلّ الدولتين على أرض الواقع. هل هذا الحلّ ما زال قائماً وممكناً مع كل التغيرات التي فرضتها إسرائيل على أرض الواقع؟ هل إسرائيل التي تعرقل التوصل للتسوية بدعم أميركي وقبول دولي وإقليمي وصمت فلسطيني لا تزال معنيّة بحلِّ الدولتين، أم أن حلّ الدولتين يعني لها ضرورة قبول الفلسطينيين بالبقايا التي لا تريدها نظراً للكثافة السكانية الفلسطينية التي من الـممكن أن تحولّ إسرائيل، إن لـم يتم التخلص منها، إلى دولة ثنائية القومية؟ وهل سنقبل نحن بالبقايا التي تريد إسرائيل التخلص منها ونقيم عليها دويلة منقوصة السيادة والاستقلال، ونطيح بحق العودة وندعي أن التسوية قد تحققت والـمفاوضات نجحت؟!

لا يمكن الحصول على أجوبة شافية عن هذه الأسئلة إلاّ بوضع أنفسنا وإسرائيل والـمجتمع الدولي على الـمحك: إما أن يتم خلال فترة زمنية محددة التوصل إلى تسوية سياسية وفق مبدأ إقامة الدولتين على حدود العام 1967، وحل قضية اللاجئين وفق قرارات الشرعية الدولية، وإما يُعلن عن إغلاق الباب على حلِّ الدولتين وفتح باب آخر على الدولة ثنائية القومية، ما يتطلب قراراً جريئاً بحلِّ السلطة الفلسطينية التي جاءت لتكون مؤقتة وتحولت بفعل الـمماطلة الإسرائيلية والقبول الفلسطيني إلى حالة دائمة. وبالتالي فإن القضية التي يجب حسمها بوضوح تتمثل باتخاذ قرار باستمرار السلطة أو عدم استمرارها، وهذا يعتمد على ما إذا بقي هناك إمكانية واقعية وفعلية لإقامة دولة فلسطينية على حدود العام 1967. الإجابة عن هذه القضية الحيوية يجب أن تأتي من إسرائيل والولايات الـمتحدة، ويجب أن نتوقف عن إعطاء الذرائع لهما لعدم تقديمهما الجواب الصريح والواضح والـمحدد زمنياً. أما استمرار "دويخّة" العودة إلى مسار التفاوض فالأجدى لنا أن نغلقه إلا إذا كانت النتيجة محددة مضمونياً وزمنياً.

في هذا السياق من الـمفيد الإشارة إلى أن إنهاء الحصار الاقتصادي عن السلطة الفلسطينية والتمكن من دفع رواتب موظفيها، مع كونه يخفف وطأة العقوبات والإجحاف الذي نتعرض له، لا يُشكّل الهدف الاستراتيجي للنضال الوطني الفلسطيني، إلا إذا وصل بنا سوء الحال إلى هذا الـمآل. لذلك يجب عدم اعتبار فك الحصار انتصاراً استراتيجياً فلسطينياً، خصوصاً وأنه يأتي مصحوباً بالعديد من الاشتراطات والضغوط للقبول بالتسوية السياسية وفق الاشتراطات الإسرائيلية.

القانون الأساسي: إذا عولجت القضية السابقة بجدية، وتم التوصل إلى قناعة إستراتيجية بجدوى استمرار وجود السلطة الفلسطينية لتحقيق الهدف الإستراتيجي الفلسطيني الـمتمثل بإنهاء الاحتلال وإقامة الدولة خلال فترة زمنية محددة وملتزم بها، فإن القضية الثانية التي تحتاج إلى حسم، وبشكل مُلحّ، تتمثل بتحديد الـمرجعية الفلسفية / القيمية / القانونية التي يجب أن تحكم العلاقة بين الفرد والـمجتمع والدولة العتيدة.

واضح تماماً أن القانون الأساسي الـمعمول به حالياً ليس مفيداً في هذا السياق. فقد رُكّب تركيباً في البداية، ودون طول تفكر وتبصّر وأناة، ثم عانى من عمليات تطويع متتالية جراّء تناحرات داخلية أو تدخلات خارجية. وأدى كل ذلك إلى وجود مجال مفتوح للازدواجية والضبابية، ما سمح بالكثير من التأويلات حسب الحاجة والطلب والجهة القائمة بعملية التأويل. وهذا سبّب حتى الآن إرباكاً حقيقياً في مسألة تنظيم الحياة العامة والسياسية الفلسطينية. وقد أوقعنا هذا الأمر في سجالات وصدامات كان يمكن تلافيها لو تم التأكد أصلاً من رجاحة محتوى ومتانة نصّ هذا القانون ووضوحه.

لا يمكن الاستمرار في الاحتكام إلى قانون أساسي يعاني من الكثير من الجوانب السلبية الـمعروفة. كما لا يمكن الاستمرار بالادعاء أن الوقت غير مناسب لإصدار بديل عنه بدعوى أن الـمرحلة لا تزال انتقالية. إن كان مشروع إقامة الدولة الفلسطينية جديّاً، ونظراً لـما مررنا به من تجارب وأحداث سلبية، فإن علينا واجب إصدار قانون أساسي جديد، يكون بمثابة الدستور للدولة العتيدة، وتتحدد فيه الـمرجعية العامة الـمتفق عليها لتنظم العلاقات بين الفرد والـمجتمع والدولة. هذا يتطلب نظرة إستراتيجية تحدد بوضوح تام علاقة منظمة التحرير بالسلطة، وتقرّر ماهية النظام السياسي الـمعمول به، وتفصّل علاقات أجزائه ببعضها، بحيث يتم ضمان سيادة القانون وفصل السلطات وتداول السلطة وكيفية حلّ النزاعات بين السلطتين التنفيذية والتشريعية في حال وقوع خلاف بينهما. كما ويتطلب أيضاً تحديد نطاق الحقوق والحريات العامة والفردية، بما في ذلك كفالة هذه الحقوق والحريات وأسباب ونطاق تقليصها إن دعت الضرورة إلى ذلك. هذه مسائل ليست إجرائية أو شكلية يتم تضمينها في وثيقة نقلاً عن وثائق أُخرى لتظهر نظرياً بصورة بهيّة، بينما يصار عملياً إلى تكييفها وتحويرها كلـما دعت الحاجة السياسية للطرف الحاكم دون أدنى اعتبار لـمشروعية وقانونية ذلك. من هذا الـمنطلق، ولكي يتم استتباب أمر الحكم في فلسطين، يجدر التفكير الآن بتشكيل لجنة وطنية لإعداد وثيقة قانون أساس يمكن أن تُعرض في الـمستقبل على استفتاء شعبي عام، ويتم العمل بموجبها بعد ذلك. هذه قضية تحتاج إلى الكثير من الوقت والجهد والتفكير السديد، وكلـما بادرنا إلى إنجازها بسرعة جنبنا البلاد أزمات قادمة.

قانون الانتخابات: كما هو معروف، يمكن لقانون الانتخابات أن يعمل على تفكيك البلاد، ويمكن له أن يحقق تجميعها. ونحن نواجه بفعل الاحتلال الإسرائيلي من جهة، وبسبب تناحراتنا الداخلية من جهة ثانية، إجراءات لتفتيت البلاد. لذلك يجب أن يُواجه هذا الأمر بقانون انتخابي يحقق وحدة البلاد السياسية، كونها تُشكّل وحدة جغرافية واحدة بالأساس.

يجدر العمل على إعداد قانون انتخابي جديد لأن إنهاء الأزمة الحالية يتطلب في مرحلة قادمة الذهاب إلى انتخابات عامة جديدة. وإعداد مثل هذا القانون يتطلب أيضاً الكثير من الجهد والوقت والتوافق لأن استقرار النظام السياسي مرهون بوجود قانون انتخابي مستقر لا يتعرض للتغيير أو التلاعب لتحقيق مصالح سياسية آنية.

في هذا الـمجال تجدر الإشارة إلى أن النظام الانتخابي الـمختلط يُعتبر أسوأ النظم الانتخابية، ولذلك يجب اتخاذ قرار إما بالعمل على أساس قانون انتخابي تمثيلي يكون أساسه اعتماد القائمة الانتخابية، وإما اعتماد قانون يكون أساسه الدوائر الانتخابية الـمتعددة والترشيح فيه يكون على أساس فردي. وللـمحافظة على وحدة البلاد فإن نظام القائمة الانتخابية الـموحدة هو الأفضل.

إصلاحات في الـمجال العام: أخيراً، ولكن ليس آخراً، يجب إجراء إصلاحات عميقة وجذرية في الأداء العام، إن كان على صعيد بيروقراطية السلطة ومجال خدمتها الـمدنية التي يجب أن تخرج عن النطاق السياسي (الانفرادي أو التحاصصي) وتتحدد في الـمجال الإداري، أو على صعيد صيانة واستعادة استقلالية وفاعلية السلطة القضائية وتمكينها من أداء مهامها، أو على صعيد إصلاح الأجهزة الأمنية لتحديد صلاحياتها ومهامها وإنهاء تداخلاتها السياسية. كانت هناك أخطاء وخروق عديدة في هذه الـمجالات الثلاثة، ويجدر الاتعاظ من التجربة الـمريرة السابقة، والقيام بما يلزم (وهو معروف) كي توضع الأُسس السليمة لضبط وانضباط الحياة الفلسطينية.

لن يساعدنا أحد إن لـم نقرر مساعدة أنفسنا بأنفسنا. علينا استيعاب الدرس وتخطي الظرف الصعب والقيام بما يلزم للحيلولة دون الوقوع مجدداً في شرك التناحر والاقتتال وتقسيم البلاد. إن استمرار الـمناكفة والصراع الداخلي لن يُسعد سوى أعدائنا والـمغرضين، ولن يؤدي إلى تحقيق تغييب طرف فلسطيني من قبل طرف آخر. لذلك، على الجميع تحمّل الـمسؤولية: مسؤولية البناء الإيجابي لـمن يُصرّ على أن لفلسطين وللفلسطينيين مستقبلاً يجب أن يكون واعداً ومشرقاً، ومسؤولية التعثر وتدمير الهدف الفلسطيني لـمن يريد أن يستمر في عملية التناحر والتصارع على فُتات سلطة لـم تتحول بعد إلى دولة منشودة.

قد يعتقد البعض بأن طرح القضايا السابقة الآن ضرب من ضروب السذاجة والطوباوية في خضم احتدام الصراع وغليان الـمشاعر. ولكن استمرار التمترس على الصراع وحول الصراع لن يجدي القضية الوطنية نفعاً.

وعلى جميع العقلاء عدم فقدان البوصلة. ajarbawi@yahoo.com - الأيام 21/6/2007 -

 
 
اقرأ المزيد...
 
Footer
اتصل بنا
العنوان البريدي:
صندوق بريد 69647
القدس
عمارة الريماوي، الطابق الثالث
شارع ايميل توما 14
حي المصايف، رام الله
الرمز البريدي P6058131

فلسطين
972-2-298 9490/1
972-2-298 9492
info@miftah.org
للانضمام الى القائمة البريدية
* indicates required