وما فكّر أحدٌ منا أن شيئاً من ذلك ينطبقُ على حركة «حماس». بل وما تساءل أحدٌ منا لماذا تأخر هؤلاء الإسلاميون العقائديون الى التسعينات حتى بدأوا بمقاتلة اسرائيل بخلاف القوميين واليساريين الذين أقبلوا على الكفاح المسلح منذ الستينات. فـ «حماس» قاتلت ضدّ العدوّ الصهيوني فقط، وهي أظهرت جذريةً تجاوزت حتى راديكاليات جورج حبش، وقد بلغني أن الرئيس العراقي السابق صدام حسين كان يقول: كل الإسلاميين أهل دنيا وسلطة إلاّ الشيخ أحمد ياسين وحركة «حماس»! وعندما تزايدت العمليات الانتحارية قبل الانتفاضة الثانية وبعدها، وتناقشنا في ذلك كثيراً، قررنا أنا والراحل جوزف سماحة أن الأمر غير مفهوم، لكن ينبغي تناسيه، في حين أصر زميلنا حازم صاغية على ضرورة نقد تلك الممارسات وادانتها! ان الخطأ الذي وقعتُ فيه (وأكثر من غيري، لأنني متخصص بالعقائد الدينية الإسلامية) أنه مع تبلور التوجه السياسي لحركات الإحياء، تناسيتُ الأصل الديني، ورُحت أركز على هدفها السياسي. إنها تريد الوصول الى السلطة، وللتيارات الرئيسية فيها شعبيةٌ كبرى تستطيع من خلالها (وبمغادرة العنف، وتصدُّر الحركات من أجل الديموقراطية) الوصول الى السلطة وتحقيق مشروعها أو المشاركة بفاعلية على الأقل. وما تنبهتُ الى أن السلفية الطهورية، والقائلة بالعُنف الشعائري (الولاء والبراء، والتكفير) لا تستطيعُ اقامة سلطةٍ جامعةٍ أو شبه جامعة، لقيامها على الإقصاء والاستبعاد العنيف. كادت تلك الطهورية أن تدمّر الدولة السعودية الناشئة بالضربات الداخلية والخارجية، لولا أن اجتث الملك عبدالعزيز جانبها العنيف، واستأنس الجانب الآخر. ثم انني ما تنبهتُ الى نتائج تحليلي الأول القائل بانشقاقية حركات الإحياء، وحركات الهوية. حركات الهوية القومية تُقصي الخارج، وتميل الى دمج الداخل بالحُسنى وبالقوة. أما حركات الإحياء الديني فهو انشقاقاتٌ داخليةٌ ولذلك فهي تدورُ حول نفسها، وتعتبر أن المؤامرة داخلية، والخصوم داخليين. ومن أجل ذلك فإن الاتهام بالتغريب لا يعني إزالة الغرب، والاتهام بالتصهين لا يعني إزالة الصهيونية، بل إزالة «أعداء الله» الذين تغربوا وتصهينوا. وهذا ما فعلتهُ حركة «حماس» قبل أيامٍ حين أزالت «المتصهينين» من وجهة نظرها من الفلسطينيين! والمهول والمأسوي أنني سمعت شيئاً من ذاك عندما كنتٌ أناقش مسألة العمليات الانتحارية، فقد أراد أحد الزملاء الفلسطينيين طمأنتي الى أن الظاهرة، أي ظاهرة العمليات الانتحارية عابرة، إذ قال: «حماس» تريد في الحقيقة اعادة الشعب الفلسطيني الى الإسلام وليس إبادة اليهود (وقال لي في ما بعد: ولا تحرير فلسطين!)، أما ما تراه فهو مزايدات على «فتح» من أجل كسب الشعبية في وقتٍ قصير. انها تريد حرق المراحل للتعويض عن عدم مشاركتها في مشروع التحرير الوطني على مدى الثلاثين سنة الماضية! وكنت وما أزالُ أؤمن بأن للقيادة دوراً أساسياً في الضبط والتوجيه وصُنع الوعي الآخر. وفي السياق الذي نتحدث عنه كان بوسع خالد مشعل واسماعيل هنية ومحمود الزهار، وقد فازوا في الانتخابات، أن يُهمشوا العقائديين التكفيريين وذوي الأخلاق الميليشيوية، لكنهم لم يفعلوا بل قاموا بالعكس اذ جمعوهم في «القوة التنفيذية» التي كانت مهمتها ولا تزال التصدّي للخصوم الداخليين الذين تربوا على كراهيتهم وتكفيريهم. أما لماذا فعلوا ذلك الآن، وبعد ميثاق مكة، وقيام حكومة الوحدة الوطنية، ولم يفعلوه من قبل، فهنا يأتي دور «قطعة الأرض» (دار الإسلام) التي تحدث عنها العقّاد، ودورُ السياسات الدولية والاقليمية. فالثوران الديني السني والشيعي مستمرٌ منذ الأربعينات. وفي الستينات والسبعينات صار له مشروعٌ سياسي. وقد تمكن الثوران الشيعي من الاستيلاء على السلطة في ايران فصارت له دولةٌ وطنيةٌ، وانضبط بالمؤسسة الدينية القوية التي تستخدمهُ منذ ذلك الحين لصون المصالح الوطنية الإيرانية من جهة، وصون التشيُّع الذي تتزعم سائر جماعاته الأساسية في العالم. أما الثوران السني، صاحب المشروع السياسي منذ السبعينات والثمانينات، فإنه ما استطاع الوصول الى السلطة على قطعة أرضٍ اسلاميةٍ كبرى أو وُسطى. ولذلك لا يزال يصطدم بكلِّ ما يواجهه: بالدول والأنظمة، وبالمؤسسة الدينية التقليدية، وبالمجتمع الدولي. أُسامة بن لادن الذي ما استطاع الاستقرار إلاّ لسنوات معدودة وفي ظلّ «طالبان» ضرب في الولايات المتحدة، وفي أوروبا، لكن أيضاً في الدول العربية والإسلامية. والجهاديون المُشابهون راحوا يجربون حظَّهم في العراق وفي الصومال بعد أن تخلى عنهم النظام السوداني. و «جبهة الانقاذ» الجزائرية وحركة «حماس»، اللتان لم تنفع الانتخابات في جعلهما ينفردان بأرض الله الصغيرة، لجآ الى العنف. الأولون انطلاقاً من الجبال والأدغال، والأخيرون انطلاقاً من مقر رئاسة الحكومة الفلسطينية! وقد تعجب مستشار الرئيس الفلسطيني أحمد عبدالرحمن، لماذا بدأت القوة التنفيذية التابعة لـ «حماس» بالإغارة على القوات الفلسطينية في شمال غزة، وتلك القوات ليست من الأمن الوقائي، ولم تتدخل في النزاع الداخلي، وانما تُواجه اسرائيل على حدود غزة مع فلسطين المحتلة! لكأنما غاب عن وعيه أن المقصود السيطرة على الأرض وعلى الحدود مع العدوّ، لأن ذلك (أي مواجهة العدو) هو المبرّر الظاهرُ لإرادة السطوة والاستيلاء! إن هذا الشوقَ والتوقَ لقطعة الأرض المسيطر عليها بالكامل، هو الذي أفضى أيضاً الى تحول كثيرٍ من الحركات الجهادية الى ثوار محترفين تُحركهم الأيدي الاقليمية والدولية. حدث ذلك في أفغانستان في الثمانينات والتسعينات عندما تلاعبت الولايات المتحدة وتلاعبت باكستان بتنظيمات المجاهدين أفغاناً وعرباً وغير أفغانٍ وعرب. وحدث ذلك من جانب سورية في لبنان والعراق وفلسطين ومنذ الثمانينات، ويحدث ذلك من سنوات وسنوات من جانب ايران في لبنان والعراق وأفغانستان واليمن، والآن في فلسطين. ففي شمال لبنان، وفي المخيمات الفلسطينية، شبانٌ متشددون معروفٌ بعضهم منذ عقد ونصف عقد، وقد كانوا يستظلون بـ «فتح» وياسر عرفات، ثم ورثهم النظام السوري فاستخدمهم لابتزاز الحريري وابتزاز السعودية وابتزاز السلطة اللبنانية الضعيفة بعد الطائف باعتبار أن لبنان لا يزال بحاجة لقوى النظام السوري من أجل الأمن والأمان. واحتفظت الأجهزة السورية بصلات مع مجموعات منهم في المخيمات وخارجها بعد خروج الجيش السوري من لبنان. وهي تعود الآن لاستخدام هؤلاء مضيفةً اليهم ضائعين ممن استدرجهم النظام السوري بحجة المقاومة في العراق، واختلف النظام الايراني مع الولايات المتحدة بعد عام 2005 على أثر انهيار التنسيق بينهما في الحرب على أفغانستان وعلى العراق، ولذلك عمد الى استخدام «حزب الله» تنظيمه المفضَّل في حرب تموز (يوليو)، وهو يستخدم منذ ذلك الحين تنظيمات دينية وسياسية وشخصيات في العراق ولبنان وفلسطين إضافةً لاستتباع النظام السوري أو التنسيق الوثيق معه في المصالح والأهداف المشتركة. وفي أسابيع المفاوضات المتعثرة مع الغرب والولايات المتحدة ضرب النظام الإيراني (والسوري) الضربة الثانية بعد حرب تموز باستيلاء «حماس» على غزة التي كانت تترأسُ حكومتها! وقد كنتُ أظن أن غزة – 2 ستكون في لبنان، لكنها وقعت في غزة ثانيةً. ولا شيء يمنع أن تحدث غزة – 3 في لبنان بعد استقدام «فتح الإسلام» وإقبال «الجبهة الشعبية – القيادة العامة» (التابعة لسورية) على ضرب القوات الدولية في جنوب لبنان. أما النظام السوري فيريد الانتقام من اللبنانيين الذين أخرجوه، والذين يهددونه بالمحكمة الدولية. وأما النظام الإيراني فيريد اضافة الولايات المتحدة والغرب واسرائيل ودفعهم للتفاوض معه على الشراكة في المنطقة والعالم. لكنه يريد أيضاً (وأداتُهُ الانشقاقُ الأُصولي داخل أهل السُنّة) دفع السعودية ومصر للتسليم له أو يهدّد أمنهم الداخلي دينياً وسياسياً. وقد رفع الراية الفلسطينية، ثم هو يرفع الآن راية التوتر السني/ السني، والتوتر الشيعي/ السني. وتتكاثر الاتهامات المتبادلة بين ايران والولايات المتحدة وأطراف في المنطقة بأن الأجهزة الإيرانية هي التي تُسلح وتموّل الأصوليات الجهادية (ومنها «طالبان» و «القاعدة»)، والتي كان يقالُ من قبل إنها تُعاديها لنزوعها السلفي وحساسياتها الزائدة تجاه الشيعة! وما حدث في غزّة لا يفيد ايران وسورية فقط، بل يُفيد الولايات المتحدة واسرائيل. ولذلك - وبعيداً من تهمة التآمر - لا يبعدُ أن تقوداها الى نهاياتها أيضاً. فالعرب هجموا بعد الخروج من كابوس العراق بمبادرة السلام التي قابلتها اسرائيل والولايات المتحدة ببرود، وعارضتها ايران وسورية. وقد عمدت السعودية لإجراء اتفاق مكة لتوحيد الجبهة الفلسطينية، واسقاط حجّة عدم وجود شريك فلسطيني في عملية السلام. ولا شكَّ في أن ما حدث في غزة يحوّلها الى «معزل» أقلّ ازعاجاً لإسرائيل للإجماع على عدم شرعيته، كما أنه يُعطي ذريعةً لأميركا واسرائيل بعدم تلبية طلبات العودة الى المفاوضات، والاكتفاء بالثناء على محمود عباس. أما السوريون والإيرانيون فسيعتبرون أن جبهة الرفض للهيمنة الأميركية كسبت دويلةً جديدةً هي دويلةُ «حماس» في غزة. وسيكون على السعوديين والمصريين والأردنيين ايجاد مخرج بين عدم التسليم بالأمر الواقع في غزة، والاهتمام بعدم تجويع وعزل مليون ونصف المليون فلسطيني في القطاع. وهناك الآن تحديان، أولهما يواجه العرب الكبار في فلسطين ولبنان والعراق. وثانيهما يواجه الحركات الإسلامية الكبيرة في مصر والأردن وفلسطين على الخصوص. التحدي الأول يقتضي مواجهة السياسات الأميركية والإيرانية والسورية، التي تزعزع الاستقرار، وتزيد من الانشقاقات والانقسامات الداخلية، وتُهدّد مستقبل المشرق العربي. وأما التحدي الثاني المتمثل في القتل الشعائري الذي مارسته «حماس»، وهي في الأصل من تنظيمات «الإخوان المسلمين» – فإنه يقتضي من قادة «الإخوان» في الأردن ومصر وفلسطين المحتلة التبرؤ من العنف وذيوله مهما كانت الأسباب. فقد بنى هؤلاء خلال العقود الماضية جسوراً من الثقة بينهم وبين الجمهور بحيث صارت لهم صدقيةٌ معتبرةٌ، دفعت جهاتٍ عربية ودولية معنية بالتحول الديموقراطي الى الاستحثاث على اشراكهم حقاً وصدقاً في ادارة الشأن العام بالآليات المعروفة. وما فعلته «حماس» – الفائزة في الانتخابات، وعلى رغم الضغوط عليها، يعني أنها لا تزال تنظيماً أصولياً انشقاقياً لا يتحمل مسؤوليات التعددية ولا يقبلُ بها. بيد أن تحدي التحديات والذي يواجه العرب جميعاً فهو تلك الانشقاقية الفظيعة، التي تضرب الإسلام، وتُسخفُ قضايا الأمة بتحويلها الى مسائل ايمان وكُفر وملثمين وملثمات، ومنقبين ومنقبات، وانتحاريين وانتحاريات، وتدمير كنائس وبارات، وأندية قمارٍ واذاعات: يا أمةً ضحكت من جهلها الأممُ! - الحياة 26/6/2007 - اقرأ المزيد...
بقلم: ريما كتانة نزال
تاريخ النشر: 2018/7/23
بقلم: جهاد حرب
تاريخ النشر: 2018/5/12
بقلم: وكالة معا الاخبارية
تاريخ النشر: 2018/5/2
|