مفتاح
2025 . الأحد 25 ، أيار
 
مفتاحك إلى فلسطين
The Palestinian Initiatives for The Promotoion of Global Dialogue and Democracy
 
الرئيسة
 
 
 
 
 
 
 
 
English    
 
 


فتلك رسالة مفتوحة من مواطن فلسطيني بسيط ، لا يحمل بطاقة هوية تثبت ذلك !! بل يحمل وثيقة سفر زرقاء اللون تذكره ، كلما أخرجها من حقيبته لتجديد إقامته بالسعودية كل سنة أو سنتين , أو عندما يحين وقت تجديدها كل خمس سنوات . تذكره بأنه "لاجئ " وليس مواطن تابع لأية دولة على الكرة الأرضية !! لا يستطيع استخدامها للانتقال والسفر بين بلاد الله بيسر وسهولة كباقي البشر ! حتى أ نه بات يطلق عليها تندرا (وثيقة عدم سفر) !!

لم يولد كباقي المواليد على الأرض التي ولد عليها أباه وجده ، بل فتح عينيه للمرة الأولى في أرض الكنانة ، وأخذت رئتاه أول شهيق لها من هواء القاهرة .. وارتوى من ماء نيلها . أثناء حريق القاهرة في أول عام 1951 ، كان لم يزل جنينا في رحم أمه المسكينة التي هاجرت مع والده وبعض الأقارب قسرا بسبب الأحداث المأساوية التي شهدتها مدن وقرى فلسطين في العام 1948 . حينما تم طرد شعب بأكمله من أرضه بقوة السلاح والإرهاب ، ليحل محله مستوطنون جاءوا من هنا وهناك ، بمباركة كبار العالم (الحر) !! تلك أحداث يعلمها الجميع ولا تخفى على أحد . ورغم أنه ولد في شهر أغسطس ، أي في عز الصيف ، إلا أنه أحس بالبرد يجتاح جسده يوم ولادته ! لا يعلم حتى الآن لماذا ؟ وكيف ؟!

بعد ولادته بسنة واحدة قامت ثورة يوليو 1952 . كانت أول ثورة حقيقية تشهدها المنطقة . خرج على إثرها (آخر ملوك مصر من عائلة محمد علي) ولم يعد . وبدأت مرحلة جديدة في تاريخ المنطقة . في عام 1954 كان جلاء آخر جندي بريطاني عن مصر . وفي عام 1956 فحر الرئيس عبد الناصر قنبلة مدوية بتأميم قناة السويس ، القشة التي قصمت ظهر البعير !! لم تحتمل بريطانيا (العظمى) وحلفائها هذا التحدي ، فكان على الأمة أن تواجه غزوا شرسا ثلاثي الأبعاد وسداسي الهوية والمصلحة ، الهدف الرئيس والمعلن له (تركيع) من انتصب واقفا يرفع رأسه ويتحدى (العظماء) !

صيحة ملأت آذانهم بما لا تهوى قلوبهم ولا تصدقه عقولهم .. فكان ما كان .

لم يكن يومها عمر ذلك الطفل سوى خمسة أعوام ، ولكنه كان يشعر بأن هناك شئ ما يحدث (رغم صغر سنه وعقله آنذاك) ! كانت هناك تساؤلات تملأ رأسه وتثقل عقله الصغير .. ولا يجد لها إجابة شافية وافية .

كبر قليلا .. فدخل أول مدرسة له في الحياة عام 1957 . تعلم حروف الكتابة وكيف يقرأ الكلمات المطبوعة على صفحات كتاب القراءة ويطالع رسومه الملونة الجميلة . حينما ينصت إلى معلمته الوقورة (التي ما زال يذكر اسمها وملامح وجهها) كان يتابعها بشغف وهي تروي لهم قصة آدم وحواء مع الشيطان . وقصص أنبياء الله ورسله بدءا من نوح وسفينته والطوفان وانتهاء ببعثة رسولنا الكريم صلى الله عليه وسلم .. مرورا بقصة نبي الله إبراهيم مع أبيه وتحطيم الأصنام ، والنار التي ألقي فيها فكانت بأمر ربها بردا وسلاما عليه وقصته مع ابنه إسماعيل ، التي كانت تدخل الرعب في قلب الصغير كلما تذكرها ، خاصة حين يتخيل نفسه مكان إسماعيل في ذلك المشهد الرهيب . لم يكن يدرك بعقله المحدود المعني الحقيقي من وراء تلك القصة التي يرويها لنا الله في كتابه العزيز ، وهو وجوب طاعة المخلوق لخالفه (دون جدال أو اعتراض) . فالله وحده يعلم كل شئ بعلمه الواسع المحيط .. بينما الإنسان لا يعلم من آيات الله في الكون إلا النذر اليسير . وبالتالي فإن عقله يظل محدودا بحدود الأرض التي قدر له أن يعيش عليها عمره المحدد بسنوات ، مهما طالت ، فسوف تنتهي حتما بموته .

يسرح خياله إلى ما وراء أسوار مدرسته .. يتمثل أماكن وقوع تلك الأحداث وكيفية حدوثها ، ويرسم في ذهنه صورا لأولئك الرسل والأنبياء .. صلوات الله وسلامه عليهم جميعا .

كانت تراوده في تلك الأيام أحلام الطفولة ببراءتها وشفافيتها .. يحلم بأن يعود إلى أرض فلسطين التي طالما حدثه عنها والده ووالدته وجدته .. يافا مدينة أباه وجده . تلك المدينة الساحلية الجميلة ، التي لم يقدر له أن يراها أو يشم رائحة هوائها أو يشرب ولو قطرة واحدة من مائها . أو أن تلامس قدميه تراب شوارعها وأزقتها .. أو أن يتذوق ولو برتقالة واحدة من برتقالها .. إلا في أحلامه !!

حق أسير لا يجد من يطلق سراحه أو ينصره في زمن ينزلق ببشره وحجره نحو هاوية ، لا يعلم إلا الله مداها . أمة لم تسلب منها فقط أرض ولكن مقومات حياة كريمة أمام أنظار عالم "متحضر". جريمة مكتملة الأركان .. فالجاني والمجني عليه وجسم الجريمة ماثلون أمام أنظار العالم الحر. ولكن للأسف تسجل في سجلات (الشرعية الدولية) الجديدة .. والمحافل "الأممية" العتيدة ، وفي ظل واقع صنعه الأقوياء ، ضد مجهول ! لا بل يلاحق المجني عليه ويحارب بكافة الوسائل إن حاول استعادة حقه أو حتى الدفاع عن نفسه !! كارثة من العيار الثقيل .. أليس كذلك ؟! فإلى متى نظل صامتين .. قابعين داخل نعوش أوهامنا ؟ إلى متى ؟!

الهواجس أنشبت مخالبها داخل عقله الحائر واقتلعته من جذوره وهددت أمنه . لم يتمكن من الوصول إلى شاطئ آمن يحتضنه أو طوق نجاة يبعده عن خطر الغرق في بحورها . تجول بين مرافيء باردة موحشة يبحث عن هوية .. تناثرت أشلاؤها تحت وطأة أحداث يصنعها آخرون . لا يدري إن كان يبحث عنها أم تبحث عنه !! قبع داخل قلعة من خيال يشاهد أحداثا دراماتيكية دامية تصل أحيانا إلى حد السفه وتتحدى العقل الراجح والمنطق السليم .

الأوراق البيضاء تستفزني .. فلديّ ما أكتبه . والصمت يدوي في أذني .. فلديّ مشاعر تأبى إلا أن تصرخ في وجه أباطرة الزمان والمكان. ولكن من يتصدى للكتابة في مواضيع تمس حياته وفي نفس الوقت تلامس قلوب وعقول من حوله وتتعلق بقضية قد تهم "الجميع" ، فلا بد أن يملك ذاكرة قوية تمكنه من استحضار شريط أحداث مضت ، وأحداث نجري علي الساحة وشخوصها من : مؤلفين ومخرجين وكتاب سيناريو ومهندسو ديكور وممثلون .. ومهرجين !! لا بد أن يتذكر الأشخاص الذين تعامل معهم وتأثر بهم خلال سنوات حياته كون كل ما سبق ذكره يمثل حجر الزاوية في تكوين مبادئه وبناؤه الثقافي ، والفكري ، والعقدي والاجتماعي . كما يكسبه حصيلة لا بأس بها من خبرات وتجارب تلعب دورا كبيرا ومهما في سير حياته كإنسان .. وصاحب قضية .

أسجل هنا تجربة إنسانية لإنسان يشعر بالظلم والقهر. الخواطر تتداعى على خياله ، المستيقظ دائما ، كشلال منهمر. وذاكرته تقف أمامه في كل موقف يتعرض له ، سلبا أو إيجابا . قراءة صادقة وترجمة أمينة لنفس إنسانية تعيش زمن أحداثه تنزلق بسرعة فائقة ككرة ثلج متدحرجة على جبل الجليد .. ما إن تصل للسفح حتى يكون حجمها ربما بحجم الجبل نفسه !!

قضية كهل يبحث عن هوية تاهت وسط زحام الفضائيات ومواقع الانترنت في زمن العولمة . يبحث عن قارب صيد أبحر من نصف قرن أو يزيد وسط عواصف وأمواج . أبحر ولم يعد حتى الآن !! ربما غرق .. وغرقت معه شباك الصيد والأسماك !‍‍‍‍ وربما طاب له المقام وراء الحدود .. أو ربما سطا عليه قراصنة البحار في عرض البحر .. في ليلة ظلماء .. غاب عنها وجه القمر !!

تغيرت أحوال الدنيا وتبدل طعمها .. لقمة العيش وشربة الماء ورائحة الهواء . اختنق الفضاء بصور أثيرية لا تقوى العيون على تجاهلها ، وروائح لا تستطيع الأنوف إغفالها. وأفكار لا تقوى أغلب العقول على الصمود أمامها . سهام موجهة تعرف طريقها جيدا في زمان لا يعترف إلا بالقوة المادية .. وأن الحق يكمن في القوة !! احترقت أسهم الفضيلة في بنوك الزيف والخداع وانطلقت شعارات تحت عناوين براقة تلبس عباءات مختلفة اللون والشكل ، ولكنها تحمل نفس الهدف .

لم نعد نسمع إلا خطابات ملتهبة يقف لها شعر الرأس إكبارا واحتراما ، وتشرئب لها الأعناق محاولة الوصول إلى مصدر الصوت فلا تصل إلى شئ . وتنفتح أمامها العيون ، لعلها تجد قبس من نور تستعين به للوصول إلى آخر النفق ، فلا تجد إلا أنفاق مظلمة تمتلئ بالقوارض والحشرات الزاحفة والطائرة والمتسلقة . نجا منها من نجا وأصيب بالعمى من قبع داخلها ، مفضلا الظلام على ضوء الشمس !!

تغيرت الوجوه .. واختلفت ملامح من اعتلوا المنابر بفعل عاملي الزمن والتعرية . والتي لم تقودنا إلا إلى مناطق مجهولة في بيداء مقفرة ، بحثا عن كلأ لم نر منه إلا النذر اليسير وماء لم نعد نراه إلا سرابا . العقل سدت شرايينه وتقطعت به السبل وسط أحداث لاهثة بين أصنام السياسة وضبابها وصقيع المحافل وغبارها . وزعت الأدوار ونفذت تذاكر الدخول وامتلأت مقاعد المتفرجين وأطفئت الأنوار . فصول المسرحية تقترب من المشهد الأخير وما زلنا غير قادرين على تقرير مصيرنا بأيدينا !!

بتنا رهائن في سجون أوهام أصنام صنعناها بأيدينا .. وتعبدنا في محرابها !! أيعقل هذا ؟!

قضيتنا العادلة ماثلة أمامنا ليل نهار .. ولا نقوى إلا على الشجب والاستنكار!! نقرأ مقالات أصحاب الأقلام الساحرة والوجوه اللامعة .. فتزداد حيرتنا !! ننصت لتحليلات قادة الفكر والرأي في ساحتنا .. فنغيب عن الواقع !! نسمع ما نسمع عبر الإذاعات .. ونشاهد ما نشاهد عبر القنوات .. نمط الشفاه غيظا وتعجبا .. وفي النهاية نبتسم !! خطب وشعارات من المنابر تنطلق .. نصفق دقائق ونبكي بقية السنة ‍‍‍!! أية أمة ؟ وأية قضية ؟!

لست خبيرا عسكريا أو سياسيا محنكا. ولا أجيد لعبة التمييع والتلميع ولبس الأقنعة . ولست ممن يدعون المعرفة ببواطن الأمور . ولكني إنسان بسيط يعيش على أرض مبتلة .. وتحت سماء مليئة بالغيوم !! لا يعرف أرضا غيرها أو سماء غير السماء . لم يسبح في أي البحور خوف البلل أو ربما الغرق ! أثقلته جبال الأسئلة وحيرته دهاليز سياسة العبث وذبحه الإعلام بمقصلة صحافته وسهام قنواته الفضائية !!

قد لا تسعف الذاكرة كهل ذو لحية بيضاء وجسد يمتلئ ، ولله الحمد ، بأمراض تفتك بأقوى الأجساد . ولكنه يتذكر جيدا نكسة يونيو 1967الموجعة .. التي أدمت القلوب وشلت معظم العقول لبعض الوقت .. يذكر جيدا كيف بدأت الجراثيم والطفيليات تعرف طريقها نحو جسد أمة أنهكته مقاصل ساسة لا يحترمون عقول شعوبهم أو شعورهم . وإعلام متلون .. لا يرحم أحدا في ظل "شرعية دولية" مزعومة !! فأين هي الشرعية الدولية من حقوقنا كشعب طرد من أرضه بقوة السلاح والإرهاب والجريمة المنظمة ؟ أين هي الشرعة الدولية من آلاف البشر الذين يموتون يوميا من الجوع والعطش ، رغم أن بلادهم تزخر بكميات هائلة من الثروات الطبيعية .. فقط لأن أقوياء العالم يريدون هذا .. لغرض ما في نفس يعقوب !! أين هي الشرعية الدولية من الصواريخ (الذكية) التي لا تخطئ الهدف ؟ والقنابل (العنقودية) التي تلقى على رؤوسنا ليل نهار ؟

ولكن ، على كل حال ، فالهزيمة لا تأتي من الخارج وإنما تكمن داخل الإنسان .

كان شابا في مقتبل العمر حينما داهمت الهزيمة أمته . طالب في المرحلة المتوسطة .. يبحث عن ذاته وسط كم هائل من المثبطات والمحبطات . لم يكن يملك وقتها (وربما حتى الآن) إلا الأحلام !! حلم كثيرا بمدينة فاضلة يسودها السلام بين البشر !! بجزيرة أحلام عدد سكانها شخص واحد .. فقط !! وبعض الأشجار ، وكثير من الهواء النقي .. وطائر أبيض يقف أمامه ينظر إليه بدهشة .. كأنما يسأله عن سبب وجوده في تلك الجزيرة الخالية !! يبادله النظرات يبثه همومه في دنيا البشر وما آلت إليه الأحوال . يكرر الطائر السؤال ، فلا يستطيع ذلك الشاب أن يجيبه إجابة منطقية !! فماذا يقول له ؟ أ يبرر له الهروب ؟ أ يخبره بعجزه عن مواصلة الحياة بين الدروب ؟ لا يحتمل الطائر ذلك الصمت المحير ، ولا يقوى على فهم ذلك الإنسان .. الغريب !! يشيح عنه وجهه .. يقرر الرحيل .. ويطير !!

لم يهدأ عقله وقلبه عن الحلم . أمله كان كبيرا ، بحجم السماء ! يحلم بالعودة إلى أرض أجداده فلسطين .. نعم العودة !! ولم لا ؟ فقد تورمت أذناه بأناشيد العودة !! وانتفخت شرايين عقله بما كان يقدمه (الكبار) من وعود وخطب وشعارات (لم تكن في الغالب تتجاوز جدران الصالة أو القاعة التي تلقى فيها)

ثم جاءت حرب العاشر من رمضان (أكتوبر 73) .. التي بدأت بانتصارات رائعة في ميدان القتال . حيث استطاع أبطالنا البواسل عبور قناة السويس وإذابة الساتر الترابي الهائل الذي كان يسمى (خط بارليف) . تمت إذابته بخراطيم الماء !! فكرة غاية في الذكاء .. ومن توصل إليها فقد دخل التاريخ من أوسع أبوابه وأعطى درسا في العلوم العسكرية لكل العالم . وأثبت أن العقل العربي لا يزال بخير وأنه قادر على صنع ما يراه البعض مستحيلا !!

الأرض أرضنا .. فلماذا لا تقف معنا وتؤازرنا ؟ والسماء سماؤنا .. فلماذا لا تمطر صواريخ على رؤوس الصهاينة المعتدين ؟ والماء ماؤنا .. فلماذا يتخلى عنا في ذلك الموقف الصعب ؟ وقد كان بالفعل .. أجاب الجميع على الأسئلة باقتدار وظهرت النتيجة ، ونجح الجميع بامتياز إلا من ارتضى لنفسه الرسوب ‍‍.. والهزيمة !! ‍‍‍‍‍

كان وقتها في رحلة بحث عن لقمة عيش كريمة بين ربوع بلاد "المختار".. ذلك البطل الفذ الذي قدم روحه فداء لقضية بلاده ضد المستعمر الإيطالي . جرّب ذلك الشاب حظه أولا في مدينة بنغازي .. ولكن استقر به المقام لعدة شهور في العاصمة طرابلس . هتف مع الآخرين فرحا بالنصر !! قال يومها في جلسة سياسية ملتهبة ضمت شباب في مثل عمره أو أكبر قليلا ينتمون إلى عدة بلدان عربية : لقد بدأنا عصر العزة والكرامة !! لقد مضى عهد الانكسار إلى غير رجعة !! ولكن .. ما أن سكتت المدافع إلا وبدا سيناريو جديد يفرض نفسه على الساحة بدأت المصابيح في دهاليز السياسة تتوهج من جديد !! سأل نفسه وقتها : هل يعقل أن العرب إثر هزيمة 1967 قالوا (لا) بالثلاثة في مؤتمر الخرطوم الشهير وهم (مهزومون) في حين أنهم الآن (وهم منتصرون) يقدمون التنازلات المجانية وتوسلات السلام ويقولون (نعم) لعدو لا يعرف إلا مبدأ : الحق يكمن في القوة ؟! أليس غريبا هذا الأمر ؟!

يدمع القلب قبل العين مما نراه ونسمعه هذه الأيام عبر وسائل الإعلام . مشاهد تعتصر القلب ويقف اللسان أمامها عاجزا عن الكلام . ما هذا الذي نراه ونسمعه ؟ كيف وصلت الأمور بنا إلى تلك المحطة القاتمة ؟ هذا والله لا يرضي أحد !! أين ذهبت عقولنا ؟

بعيدا عن التفاصيل ، حتى لا نعطي الشيطان تذكرة مجانية لدخول قاعة مسرحنا التجريبي !! أشعر ، كواحد من أبناء القضية ، بالإحباط وعدم التوازن والمرارة . لقد كان كفاحنا وجهادنا محل تقدير وتشجيع جميع الشرفاء من أبناء جلدتنا وغيرهم ، عندما كنا نعمل متضامنين من أجل فلسطين . عانينا كثيرا وسالت دماء شهدائنا على ترابنا الوطني ضد عدونا ، الذي نعرفه جميعا !! استطعنا النجاح سياسيا ، إلى حد ما ، بالمفاوضات "المباشرة" .. و"غير" المباشرة . قطعنا شوطا كبيرا في كلا الدربين والتوجهين . فلماذا يحاول (البعض) هدم ما بنيناه ؟!

سؤال واضح وصريح يجب أن نعرف أجابته جيدا حتى نصل إلى بر الأمان . يجب أن نعمل حسبما تمليه علينا مصلحتنا الوطنية من أجل فلسطين .. من أجل الرازحين تحت الاحتلال .. من أجل الملايين في الشتات ، الذين فقد الكثير منهم هويته وضاع وسط الزحام !! لا يهمني هنا أن أسجل ما بداخلي من شعور ، فلدي الكثير من الحزن والألم ، ولكني أتحسر على اللبن المسكوب على قارعة طريق لا نعرف إلى أين يقودنا !! ما يهمني بالفعل هو أن يجيب الأخوة "الفرقاء" على أسئلة طفل صغير من صغارنا (الكبار) حينما يرى أحد أخويه الكبار يرتدي زيا بشعار معين ويحمل سلاح على كتفه (آت من هنا) .. بينما يرى أخاه الأخر يخرج من نفس البيت وهو يلبس زيا مختلفا عن أخيه ويحمل سلاحا (آت من هناك) !! ليتقاتلا وتسيل الدماء (الأخوية) في مشهد لا يتصوره أحد ولم تألفه عيوننا وقلوبنا وعقولنا من قبل ؟

أسئلة (صغارنا) يا سادة هي الأهم .. أعلم أنه يصعب الآن على (كبارنا) الإجابة عليها بصدق وشفافية !! لا لشئ إلا لأنها قد تكون مخجلة .. وتدعو للرثاء !! فإلى أين تأخذونا يا أخوة الأرض والدم والسلاح ؟! إلى أين تتجه مؤشرات عقولكم يا أبناء القضية الواحدة ؟ وفي أي البحور تبحر قواربكم ؟ احذروا .. فالأمواج عاتية .. وأطواق النجاة لا تستطع أعيننا أن تراها وهي مغمضة !! ولا تستطيع عقولنا أن تعرف مكانها وهي مغلقة !! ولا تستطيع قلوبنا أن تبصرها وهي مريضة بالأنانية والأثرة !!

لم نعد نرى الشمس في رابعة النهار .. أو النجم القطبي في الليالي المظلمة !! فكيف نعرف دربنا بين دروب البشر ؟! وكيف بالله ننتصر ؟!

لله درّك يا ابن الوليد .. أين أنت الآن ؟ قل لي .. أين أنت ؟ قد ذاب ثلج الجبل .. واهترأت عند سفحه الأكفان قد ثار بركان عقلي.. قد فاض في قلبي الطوفان أين ذهب الأمس ؟ أين عيون الشمس ؟ وأين ذهبت تلك الأقمار ؟ شيطان يقف أمامي الآن .. يرفع في وجهي علامة نصر ‍‍ بالأمس رجيم .. واليوم أصبح رمزا للعدل !! والفأر أصبح في العتمة .. ثعبان !! ‍‍ أين نمور الأرض ؟ أين نسور الجو ؟ وأين الحيتان ؟ قد كان .. وكان .. وكان .. ما زال يقف أمامي .. وما زلت أبحث عن ذات !! أهذي نثرا في دنيا الكلمات .. أصرخ شعرا على تلك الصفحات أتلقى الطعنات .. أرفد وحدي في ذاك القبر كهل يبحث عن ذات !! مازال .. وما زلت عاري الصدر .. حافي القدمين فقد الرأس .. وفقد الذيل .. وذاك المنقار ليس لإيجار أو بيع .. ذاك الكهل عين في الدنيا وعين في القبر فهل تبقى النغمات ؟ وهل ينطق بعد الموت .. من مات ؟!

آسف يا وطني .. فلقد جبنت عن تقديم نفسي أثناء الشباب من أجلك وأرجو المعذرة .. فأنا الآن كهل هزيل الجسد .. لا يملك إلا الدعاء والنصيحة لم يستطع كسر قيد أسره .. ولم يستطع تحطيم جدران سجنه لم يستطع إلا الجدال والسفسطة داخل صالونات الترف ماذا يقول لأبنائه عند السؤال ؟ هل يلوم نفسه ؟ أم الظروف القاهرة ؟ ولكن ماذا عساه أن يفعل ؟ ماذا عسانا نحن في الشتات أن نفعل ؟

والله ليس شعرا أو حتى كلاما منثورا لملء الفراغ .. ولكن شعور حقيقي يسكن إنسان أبعدته الجغرافيا والسياسة والكيمياء وحساب المثلثات واللوغاريتمات عن أرضه !! معادلات كيميائية لا يفهمها إلا من تخصص في علوم : الإذابة ، والتحنيط ، وتحضير الغازات السامة المميتة والمحبطة ، والمغيبة للعقول .. والمسيلة للدموع !!

تلك خلجات قلب مواطن بسيط ـ ربما يكون أميرا وربما يكون صعلوكا ـ لكنه في النهاية إنسان يشعر بالبرد في بيداء مقفرة .. أحلامه تعثرت .. آماله تلاشت وتوارت خجلا مما يراه على ساحتنا .. المغلوبة على أمرها !! لا يستطيع الكلام إلا همسا .. ولا الكتابة إلا لنفسه !! ولكن صرخته تخرج أحيانا عن نطاق سيطرة عقله لتستقر على الأوراق البيضاء .. فقط !!

صرختي يا سادة نابعة من قلب جريح .. تنطلق من أعماق قلب طائر بلا غصن ولكنه يهوي التغريد ، حتى وإن لم يعجب صوته نسر الأجواء أو الهدهد .. قائد أمن الأغصان ، أو غراب الجيران .. أو بعض طيور الأغصان !!

أستحلفكم بالله يا أبناء الأرض والقضية أن تنصتوا لصوت العقل وأن تتقوا الله في جماهيركم التي باتت تئن في كل مكان . أستحلف بالله كل من يحمل قطعة سلاح ألا يوجهها نحو أخيه .. بل في وجه عدونا المشترك . أستحلف بالله كل مسئول في سلطتنا الوطنية ورجالها المخلصون ، بدءا من الرئيس أبو مازن وحتى أصغر مسئول فيها (وكلنا كبار) .

أستحلف بالله كل مسئول في حركة حماس الجهادية (سياسيا كان أم عسكريا) ألا يسقط من حساباته لعبة السياسة الدولية . فنحن لا نعيش على الأرض وحدنا .. وليس مطلوبا منا أن نغمض أعيننا عن واقع دولي مفروض (صنعه من صنعه) . قد يروق لبعضنا وقد لا يروق للبعض الآخر ، ولكننا (جميعا) مجبرين ، لكي نكمل المسيرة ، أن نسير في دروبه (الشائكة) وأن يبحر قاربنا بين أمواجه (العاتية) !! ورياحه التي لا تأتي بما تشتهيه سفننا !! أستحلفكم بالله جميعا أن تحكموا العقل في معالجة قضية شعبكم المطحون الذي أصبح كالكرة التي تتقاذفها الأيدي والأرجل .

لا نريد قبلات (مجانية) قد تنقل لنا فيروسات أمراض معدية (ربما تكون فتاكة قاتلة أو ربما تكون من النوع الذي ينهك الجسد ويثبط عزيمته ، فلا يعود يقوى حتى على الحركة !! كما لا نريد صواريخ (إعلامية) لا تسمن ولا تغني من جوع !!

العالم يا سادة لا يحترم إلا الأقوياء !! والقوة لا تأتي أبدا بالفرقة والتشرذم بل بتضافر الجهود والتكاتف وحشد الطاقات وإنكار ألذات ، وقبل كل هذا الإيمان بالله الواحد القهار ، والإخلاص له وحده في كل أعمالنا) .

ما نحتاجه الآن هو المصداقية والشفافية ، وتغليب المصلحة الوطنية العليا لشعبنا ، الذي تحمل الكثير . دعونا نبحر في قارب واحد قوي البناء يسعنا جميعا . قارب بألف ذراع وألف شراع ولكنه لا يحمل إلا بوصلة واحدة ذات مؤشر واحد .. وقبطان واحد فقط . لا يعني هذا عدم الاختلاف في الرأي أحيانا ، فلا يخلو الأمر ، ولكن الحوار يجب أن يكون في جو (أخوي) وضمن حدود وضوابط يلتزم بها الجميع .. شريطة أن يكون الجميع متفقين على أي الدروب سنسلك . وأي المركبات سنستقل ؟ ومن سيقود المركبة ؟!

فلسطين ليست بعيدة ، كما قد يتخيل البعض ، فهي ماثلة أمامنا جميعا ليل نهار .. ولكننا نحن من بعد عنها .. بالفوضى (غير الخلاقة) !! وبالفرقة ، والأجندات التي تحط على أرضنا عبر الطائرات النفاثة العملاقة والخطوط الهاتفية الساخنة والفاكسات الملتهبة المكتوبة بلغات غريبة قد يستطيع مترجمونا (الأفاضل) ترجمتها بشكل صحيح .. وقد لا يستطيعون ‍!!

لا نريد فلسطين (الأرض) فقط .. وإنما فلسطين الأرض والكرامة وصدق التوجه .. والإيمان بالله عز وجل . نريد فلسطين (نظيفة) يسودها السلام .

قضيتنا قضية وجود وليست قضية حدود .. فلماذا تخوننا الذاكرة أحيانا ؟‍

فلنحاول أن نلتقي عند منصف الطريق .. وليسمع كل منا رأي الآخر جيدا . وليفكر كثيرا قبل أن يدلو بدلوه في بئر القضية !! الكفاح المسلح والجهاد لا تلغيه القنوات السياسية .. كما أن السياسة يجب إلا تتوقف حتى نحصل على كامل حقوقنا .

ولنحمل (غصن الزيتون) في يد و(السلاح) في اليد الأخرى .. كما قالها قائد مسيرتنا النضالية ومعلمنا طيب الذكر "أبو عمار" يرحمه الله .

دعونا نتفق .. ولو مرة واحدة !!! - مفتاح 28/6/2007 -

 
 
اقرأ المزيد...
 
Footer
اتصل بنا
العنوان البريدي:
صندوق بريد 69647
القدس
عمارة الريماوي، الطابق الثالث
شارع ايميل توما 14
حي المصايف، رام الله
الرمز البريدي P6058131

فلسطين
972-2-298 9490/1
972-2-298 9492
info@miftah.org
للانضمام الى القائمة البريدية
* indicates required