لم تعد الخلافات السياسية في مجتمعاتنا تخضع لقاعدة (الاختلاف في إطار الوحدة) أي الاختلاف بما لا يمس الثوابت الوطنية أو المصلحة الوطنية العليا، بل أصبح صراعا علي هذه الثوابت، وعندما يصبح الصراع السياسي علي الثوابت والمرجعيات أو تصبح هذه محل تساؤل آنذاك يصبح كل شيء مباحا حتي دماء أبناء الوطن باسم ثوابت ومرجعيات موهومة لهذا الحزب أو ذاك ويصبح الأمر أكثر خطورة عندما يتم إضفاء طابع القدسية علي هذه الثوابت والمرجعيات. إن كان عالم السياسة هو عالم الصراع والاختلاف ـ دون تجاهل أوجه الاتفاق والتعاون التي يفترض أن تحكم مكونات النظام السياسي بما يحفظ وحدة واستقرار هذا النظام ـ فإن وجود واستمرارية الأمم يجب ألا يُرتهن بعالم السياسة وتعقيداته، بل هناك ما يُؤمن للامم والشعوب استمراريتها ويحفظ لها خصوصيتها ومكانتها بين الأمم ونقصد يذلك الثقافة والهوية الوطنية، وإن كانت السياسة تُفرق فيُفترض بالثقافة أن تُوحِد، حيث القواسم الثقافية المشتركة بين أبناء الأمة الواحدة هي أوسع مما هي عليه بالنسبة للسياسة، الثقافة والمثقفون أسمي من السياسة والسياسيين، فالأولون ثابتون وأصيلون لأنهم مرتبطون بما هو ثابت واصيل نسبيا والآخرون عابرون ومتغيرون لأنهم مرتبطون بما هو متغير، وعلي هذا الاساس يمكن للثقافة أن تُصلح أخطاء السياسة ويمكن للمثقفين أن يُخرجوا الأمة من بؤس السياسة بل أن يكونوا أدوات الإصلاح والحوار بين الفرقاء السياسيين، إلا أن هذا يتطلب أن يمارس المثقفون دورهم كمثقفين حقيقيين وأن يعيد البعض منهم النظر بعلاقته مع السياسة والسياسيين ليس بمعني القطيعة ولكن بما يمنحهم درجة من حرية التفكير والتصرف بعيدا عن إغراءات السياسة والتبعية لرموزها، فكثير من المثقفين لا يدرك أن احترام الجمهور للمثقف هو احترام لذاته كمثقف مُنتج ومعبر عن الثقافة بكل مكوناتها وليس من كونه محسوبا علي هذا الحزب أو ذلك أو هذا الزعيم السياسي أو ذاك، مع الإدراك بأن المثقف يصبح احيانا سياسيا حتي وإن لم يشأ ذلك. هذا التمايز والتنافر بين المجالين السياسي والثقافي هو اكثر وضوحا وجلاء في مجتمعاتنا العربية والإسلامية، فيما هو أقل بروزا في المجتمعات المتقدمة حيث الخلافات السياسية اكثر تحضرا وعقلانية وأقل تهديدا لوحدة الامة وثقافتها وهويتها. عندما تختلف الأمة علي الثوابت ويأخذ الاحتلاف بين الفرقاء السياسيين طابع الصراع الدموي ويمتد اجتماعيا وثقافيا لخلق حالة من الاستقطاب الإثني والطائفي والمناطقي، آنذاك تصبح كل محاولات استنهاض الأمة وتنميتها سياسيا واقتصاديا واجتماعيا هباء منثورا. ومن يتعمق في جوهر الصراعات والحروب الاهلية المتجولة من بلد عربي وإسلامي لآخر والمتأبدة في بعض البلدان، وبعيدا عن القراءات السطحية للحدث، سيجد أن جوهر الصراع يكمن في الاحتلاف حول ما يُفترض ان تكون ثوابت اي ما يحدد هوية الامة وكينونتها، أو علي الأقل توظف القوي والاحزاب السياسية مقولة الثوابت والمرجعيات لتخفي أهدافا أخري كالسعي للسلطة أو الانفصال عن الأمة، والجماهير بعفويتها وجهلها احيانا تنساق في الصراع معتقدة انها تدافع عن ثوابت الأمة الدينية أو القومية او الوطنية. لا محاجة بأن الحديث عن ثوابت الامة وضرورة الالتزام بها والدفاع عنها هو محل توافق الجميع إلا ان تحيين وتبيئة هذا الأمر في مجتمعاتنا التي تعاقبت عليها نظم وثقافات وكانت محل اطماع دول اجنبية بثقافات مغايرة، وما ترتب علي ذلك من غياب عامل الاستقرار الذي يتيح للثقافة أن تستقر وتطور مكوناتها ورموزها... يصطدم بكثير من العقبات علي مستوي الممارسة ويشكل تحديا كبيرا امام من يتنطع للحديث باسم الامة وثوابتها، وتصبح المسألة أكثر إشكالا إن كان المجتمع يعرف تعددية إثنية أو طائفية او كلتيهما أو يخضع لتجاذبات صراعات إقليمية. في الحالة الفلسطينية تصبح الأمور اكثر تعقيدا والتحدي اكبر سواء بالنسبة للاتفاق علي الثوابت والمرجعيات أو بالنسبة للعلاقة بين السياسي والثقافي. المخاطر المهددة لثقافتنا وهويتنا الوطنية متعددة، فبالإضافة إلي ما تعرفه الثقافة والهوية في المجتمعات العربية الأخري من تحديات، هناك خطر الإحتلال وهو خطر لا يهدد فقط الأرض بل يهدد ثقافتنا وهويتنا الوطنية إنه نقيض وجودنا بما تتضمنه كلمة الوجود من حموله ثقافية وحضارية، بل يمكن القول بأن الخطر الذي يهدد هويتنا وثقافتنا الوطنية لا يقل خطورة عن الخطر الذي يهدد الارض، بالإضافة إلي وقوع القضية الفلسطينية محل تجاذب صراعات واجندة إقليمية ودولية لكل منها ايديولوجيتها وخصوصيتها الثقافية، هذه القوي تحاول توظيف ما تقدمه من مساعدات مالية أو مواقف سياسية لتقوض أسس ثقافتنا وهويتنا الوطنية ومشروعنا الوطني المؤسس عليهما. لقد أثبت الواقع وخصوصا في السنوات الأخيرة أن الارتباط بهذه الاجندة الخارجية وبايديولوجياتها الثقافية والعقائدية وما نتج عنها من حالة استقطاب صدامية كان علي حساب ثقافتنا وهويتنا مما شكل تهديدا لمشروعنا الوطني المستقل ووضع مكونات النظام السياسي بل المجتمع ككل فيما يشبه الحرب الأهلية، اي حزب أو جماعة يكون امتدادا لجماعة أو حزب مقرها أو مرجعيتها خارج الوطن يصبح مصير هذه الجماعة الوطنية مرتبطا بمصير مركزها بالخارج. ثقافتنا الوطنية، ثقافة شعب وأرض مهد الديانات والتي تمتد لآلاف السنين، هذه الثقافة التي احتضنت كل الديانات والثقافات ومزجت بينها بشكل ابداعي وتعززت عبر السنين بروح شعب واجه الاحتلال ودعم ثقافته التاريخية بثقافة المقاومة والمواجهة ثم بثقافة الديمقراطية عندما فُرض عليه التحدي الديمقراطي وهو في مرحلة التحرر الوطني، ثقافتنا الوطنية لا تحتاج لأن تُلحق بأحد تكون أو أن تكون امتدادا سياسيا لأحد خارج الوطن فلسطين، في ثقافتنا الوطنية هذه متسع للجميع ،فيها متسع لكل القوي والاحزاب والتيارات والايديولوجيات ما دامت وجهتها فلسطين، إن ثقافتنا الوطنية الحاضنة لهويتنا الوطنية متفتحة ومستوعبة لكل الثقافات وخصوصا للثقافة القومية والثقافة الإسلامية والعلاقة بينهم علاقة جدلية وتفاعلية ولكن مع ترتيب الاولويات نظرا لخصوصية الحالة الفلسطينية، ثقافتنا الوطنية ثقافة تحترم التعددية الملتزمة بتفهم واحترام الخصوصية، وهذا يتطلب توطين أو تبيئة كل الايديولوجيات والثقافات بحيث تصبح جزءا من ثقافتنا الوطنية، هذه الخصوصية تحتم أن يكون المثقف أو السياسي الفلسطيني وطنيا أولا ثم قوميا أو عقائديا إسلاميا أو يساريا أو أي إنتماء آخر، لا يعني هذا سمو الوطني أو الثقافة الوطنية علي القومي أو الإسلامي، بل معناه أن خصوصية القضية والحضور الضاغط لنقيض هويتنا وثقافتنا ووجودنا وهو الاحتلال، يحتم تسبيق الوطني علي غيره. - القدس العربي 21/8/2007 - اقرأ المزيد...
بقلم: ريما كتانة نزال
تاريخ النشر: 2018/7/23
بقلم: جهاد حرب
تاريخ النشر: 2018/5/12
بقلم: وكالة معا الاخبارية
تاريخ النشر: 2018/5/2
|