لم تكن قرية بلعين مشهورة قبل الجدار وأظن أنها لم تكن معروفة إلا لقلة قليلة من خارج منطقة رام الله الغربية. مسألة الشهرة هذه بالنسبة لي انطوت على مفارقة، فقبل فترة وجيزة تعرفت إلى مجموعة من السياح الإيطاليين الذين كانوا يقضون اجازتهم الصيفية في منتجع شرم الشيخ، وفي سياق تعارفنا ذكرت لهم بأنني فلسطيني فبادروا لسؤالي على الفور فيما إذا كنت أعرف قرية بلعين أو فيما إذا كنت انحدر من منطقة قريبة منها. لفت انتباهي واستغرابي انهم لم يذكروا لي مدينة القدس أو رام الله، أو حتى بيت لحم، وقد بان على ملامحي ـ على ما يبدو ـ هذا الانتباه وهذا الاستغراب فسارعوا بالقول إنهم من نشطاء السلام الذين زاروا فلسطين، وأقاموا فيها لشهور عدة وانهم ظلوا يشاركون في مسيرة الجمعة البلعينية ضد الجدار طوال فترة اقامتهم وتواجدهم في فلسطين. بالأمس (الثلاثاء ظهراً) اتصل بي الصديق جعفر الخواجا ليقول لي: اسمع، سأقول لك خبراً مهماً، بل وفي منتهى الأهمية (أراد جعفر أن يكسر روتين جوابه المعتاد على سؤالي المعتاد الذي نبدأ به مكالماتنا اليومية ـ شو في اخبار مهمة ـ المحكمة الإسرائيلية على ما يبدو اخذت قراراً بإرجاع الجدار الى الخلف وربما الى الحدود القديمة، الخط الأخضر أو الهدنة.. لا أعرف ولكن الموضوع مهم ومهم جداً وهذا القرار سيعيد للناس أرضهم واعتقد أن هذا القرار مهم بالنسبة لقضايا كثيرة وخصوصاً أشكال النضال المناسبة للحالة الفلسطينية.. ألا ترى معي صحة ذلك؟. تذكرت مع انتهاء المكالمة مع جعفر تلك المجموعة الايطالية وتذكرت عشرات من نشطاء السلام الذين ظلوا يتوافدون على بلادنا من كل بلاد الدنيا، متخذين من بلعين قبلة لهم ومن مسيرة الجدار الأسبوعية واجبهم الأول، تذكرت أهالي تلك القرية الفلسطينية الذين اعتادوا على مسيرة الجمعة كما تعتاد الناس أشياءها اليومية، اعتادوا على نشطاء السلام الإسرائيليين والأجانب، تذكرت فتيان القرية كيف يحضرون أنفسهم بصورة معتادة ليوم الجمعة تماماً كما يحضرون أنفسهم للصلاة، وكما يعتاد الفتية للذهاب الى المدرسة، وتذكرت بضع عشرات وأحياناً مئات الذين "داوموا" على هذه المسيرة على مدى شهور وشهور كاملة دون كلل أو ملل ودون ان يفقدوا ذرة واحدة من ايمانهم بجدوى هذا الشكل من الكفاح وتعاظم أهميته وتأثيره. في مناسبات عدة، كان أعضاء لجنة مقاومة الجدار يحرصون على إفهامنا جدوى هذه المقاومة ولم ييأسوا قط من "تحريضنا" على إدراك تعاظم دور وتأثير هذا الشكل من الكفاح، وظل أعضاء هذه اللجنة يطاردوننا في كل مؤتمر وندوة وحوار وظلوا يناشدوننا حمل الرسالة معهم والى جانبهم، ولم يتبق أحياناً غير أن يتوسلوا منا مناصرتهم والاهتمام "بقضيتهم" وايصال صوتهم الى الرأي العام والى الشارع والى القوى السياسية وقيادات البلد والمسؤولين عن القرار فيها. وأقول الآن بكل صراحة بأن قلة قليلة منا هي التي اهتمت بهم وحملت معهم بعضاً من عبء المسؤولية الكبيرة التي ثابروا على تحملها وصبروا طويلاً قبل صدور هذا القرار أكثر من ألف واربعمائة دونم من الأراضي ستعود الى أهلها والبقية تأتي ثمرة من ثمرات المثابرة والصبر والمسؤولية. يحق لكل بيت في قرية بلعين أن يفخر بأنه استضاف ناشطاً وأطعم مناصراً واستقبل مجموعة، ويحق لفتيان القرية أن يرفعوا رؤوسهم بهذا الانتصار ويحق لعشرات الفتية من القرى المجاورة ومن نشطاء الحركات والمنظمات السياسية والاجتماعية التي آمنت بهذه المعركة ولم تتراجع وهي ترى هذا الجدار وهو يتسلل كالأفعى مخلفاً مئات الأشجار والغراس الميتة على جانبيه، ويحق لكل نشطاء السلام في اسرائيل ومن العالم ان يعتزوا بما قاموا به من جهد لا يلين ومن ارادة لم يقهرها جو الخراب الذي أشاعه الجدار في جمالية تلك التلال الرائعة. ويحق لأعضاء لجنة مقاومة الجدار أن تعتب علينا جميعاً كيف أننا تركناها وحدها في معظم الأحيان. نعم لقد انتصرت بلعين علينا لأننا لم ندرك بالقدر الكافي ولا بالشكل المناسب ما كان يجب علينا أن نفعله، لم نؤمن ان الكفاح الوطني مسألة أكبر وأخطر وربما أصعب من قول الشعارات أو اطلاق الرصاص، فمعركة بلعين اثبتت لنا ومن المفترض أنها ستثبت لكل الذين اكتفوا بالتضامن من بعيد أن الأرض الفلسطينية تحتاج الى بلعين في كل قرية أقيم على أرضها الجدار، وفي كل بقعة يهددها هذا الجدار، ومعركة بلعين أثبتت لنا وستثبت أكثر في الأيام المقبلة أن المعارك الوطنية كبيرها وصغيرها لا تخاض في صالونات النقاش ولا في الاجتماعات الانتخابية وانما بالمشاركة والاسهام المباشر للناس وفي المقدمة منهم الطلائع الوطنية والقوى السياسية الحية المخلصة للأرض والوطن والشعب والقضية. أثبتت معركة بلعين أن قضيتنا العادلة تمتلك احتياطاً هائلاً من أنصار العدل والحق والحرية إذا عرفنا كيف نقدم هذه القضية، وإذا عرفنا كيف نحدد وسائلنا وإذا أدركنا الأهمية الاستثنائية للمحافظة على البعد الإنساني والتحرري والديمقراطي لها، وأثبتت معركة بلعين أن العالم يعج بأنصار السلام والعدالة والحق رغم كل هذه الصورة القاتمة التي تطالعنا في وجه الغرب وعلى كامل المشهد الإسرائيلي المقابل، وأثبتت معركة بلعين بأنه كما للعنصرية جيوش مدججة بالسلاح والبغضاء تحميها فإن للعدل والحق وقيمة الحرية أنصاراً ومقاتلين يدافعون عنها ويفتدونها حتى بأرواحهم إذا اقتضت الضرورة. معركة بلعين رغم أن النصر النهائي فيها لم يتحقق بعد وان النصر فيها ما زال جزئياً إلا أنه نصر أهم وأعظم من كل الانتصارات الوهمية للحسم العسكري ومعارك التحرير الزائفة وهي حقيقة أسطع من كل الرهانات على حلول سياسية سرابية ومن كل الأوهام على حلول سلام حقيقي وقابل للحياة دون عشرات المعارك والانتصارات كالتي خيضت في بلعين، ومعركة بلعين هي النموذج الذي ترنو إليه أفئدة الفلسطينيين وقلوبهم وليس معارك التشهير والتخوين والاقصاء المتبادل. معركة بلعين وصمة عار في جبين كل جندي احتلالي أطلق النار على جموع لا تطلب إلا بعض العدل وبعض الحق ولم تشهر في وجه جيش حاقد غير صوتها وهتافاتها وما امتلكت حناجرها. معركة بلعين خط فاصل بين المعارك الوهمية الزائفة وبين المعارك القادمة التي ما زالت تنتظر من يخوضها.
اقرأ المزيد...
بقلم: ريما كتانة نزال
تاريخ النشر: 2018/7/23
بقلم: جهاد حرب
تاريخ النشر: 2018/5/12
بقلم: وكالة معا الاخبارية
تاريخ النشر: 2018/5/2
|