مفتاح
2025 . الجمعة 23 ، أيار
 
مفتاحك إلى فلسطين
The Palestinian Initiatives for The Promotoion of Global Dialogue and Democracy
 
الرئيسة
 
 
 
 
 
 
 
 
English    
 
 

وجفت قلوبنا وكادت تخرج من حناجرنا، وتطلعنا إلى السماء نرجوها أن لا ترينا تمزق الثوب وظهور عورة إخوتنا، واندفعت الذاكرة الحزينة خلف عربات التموين تجرها الحمير وبعضها يجرها احد لاجئينا، ينحني تارة ليتجاوز حفرة، أو ليمر من فوق حدبة أرض. ويعتدل أخرى ويميل للخلف وهو يجري في منخفض يرجو من وراء اعتداله أن يؤمن الوصول لنهايته دون تعثر، وينظر بين الفينة والفينة خلفه ليرى إن كان الزبون يتبعه، وربما يكون صاحب الشيلة منهمكاً مثله في الجري والانخفاض والارتفاع وهو يتذكر الأفواه الجائعة التي تنتظر، وعلى جانب الطريق ضجيج كلام النسوة تتصارع على ملء جرارها بماء تؤمنه وكالة غوث وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين، ولو كان أحدهم من "السنتيشن" فله الأولوية لان "بيت المية" يحتاج لتنظيف حيث يستخدمه خمسة بيوت على الأقل في كل حارة.

تجلس السيدات على عتبات المنازل بعد أن ترخي الجدران ظلالها على مكان السمر، وربما تخجل من في وجهها حسن وجمال فتفضل الجلوس بعد أن يرخي الليل سدوله، وتبدأ مجموعات الشباب في "الكسدرة" المعتادة. وفي الصيف تصبح أكثر تشويقاً بوجود بعض النشاطات، وربما يسعد الحظ هذا المخيم أو ذاك فتحضر سينما الوكالة ومشغلها الحاج وكان اسمه هكذا فقط. استحضر كل هذا وغيره وأنا أرقب ذلك المنظر وأتخيل شوارعنا وحاراتنا تبكي وتعول وهي تأن من أقدام تجري هنا وهناك باحثة عن صيد أو أخ لتنزل فوق رأسه بهراوتها، أو آخر يجري مرتبكاً وهو ينظر مذعوراً للملثم ترتفع قبضته ليهوي بها عليه.

قلنا وجفت قلوبنا وكادت تخرج من حناجرنا ونحن نرى ذلك الشاب الذي ينحني على الأرض ليبدأ صلاته بوسط الشارع وذراع أخيه ترتفع ليهوي عليه، تصرخ ابنتي ثم تتنهد ارتياحاً أن الراكع لله لم يتلق على رأسه تلك الضربة، وتسألني من هؤلاء، أجبتها فكانت كلمتها التلقائية "الله لا يوفقهم"، الطريف في الأمر أن صاحب الهراوة تطلع للمصور والكاميرا فامتنع عن ضرب الراكع فوق رأسه، لكنه توعده بان لا يفلت من العقاب، وهو يدور وينظر كما الثعلب أو ابن آوى ينتظر الدجاجة بمجرد خروجها من القن. وبالفعل انقض عليه بمجرد أن أنهى صلاته ليكون تحت مطرقة الألم والضرب والركل والإهانة، في تغيير مباشر للجو الديني المفترض والذي ينتقل فيه من جنته وحور عينه وأرائكه وقرة عينه وخشوعه، وآماله في آخرة يستره الله فيها، إلى جحيم حقيقي، ليس فقط بسبب الضرب ولكن بسبب الألم الروحي والوجداني الذي تحدثه حتماً قسوة الأخ على أخيه. آخ كم استبيحت شوارعنا وطرقاتنا في هذا اليوم الحزين. آه كم تمنينا أن تنتهي الصرخات والضجيج والعبث فتمسح بيدها الحانية دمعنا وآهاتنا وتعود لتلك الأيام والليالي الهانئة بكل ما فيها من البؤس والبساطة، وكم رجونا أن يتعلم أهلنا بعض صبرها وهي ترى أبناءها يحملون فوق ظهورهم كل رزايا الدنيا الظالمة، وينظرون صوب الأفق الذي أضاعوه منتظرين يوم القيامة، ولم يكن في أسوأ كوابيسهم أنها بهذا الشكل وبهذه الصورة، ويتراءى دمعها سراباً يلمع بلون أحمر كدم أبنائنا المستباح في شوارع غزة وساحاتها.

أليس فينا من يعقل؟ أليس فينا من يصفح ويسامح؟ أليس فينا من بكى فوق هذى الأرض فحنت عليه وكانت كالأم الرءوم؟ فلم هذا الجحود يا عباد الرحمن؟ ألا يذكر هؤلاء القساة غلاظ القلب أنها تراقبهم بعيون الثكلى؟ وأنها بدل أن ترى ثوباً طهوراً يمسح جرحها ودمعها المنهمر كمطر الخريف على طرقات الخوف والفزع الساكن فينا. هي تشعر بسياط القهر تلهب ظهرها وتدميه فيختلط بأشواق الأهل لعودة الروح إليها واليهم فيزداد الألم.

أيها الموتى بين جوانحنا، أيها المارون فوق أجساد الشهداء رفقاً بنا وبهم، رفقاً بأنفسكم، فوالله ما نزفت فلسطين إلا من خناجركم، وما ارتجفت أعطافنا خوفاً إلا من غدركم، فمن أين تأتون بهذي النماذج الغريبة؟ ومن أين تعبئون أوانيكم بكل هذا الحقد والجنون؟ ستلفظكم شوارعنا وحوارينا، ستقتلكم ساحاتنا وأماكن سجودنا فثوبوا إلى الله ورشدكم.

لا تبكي أيتها الأماكن الساكنة فينا، فلا رماة النار يقدرون على نفيك من قلوبنا ولا غلاظ القلب سيتمكنون من انتزاعك من أرواحنا.

يا الله كم كان هذا اليوم طويلاً ورهيباً عليك، وكم أشفقنا عليك ورأينا وجعك ودمعك، ورأينا كيف يتوحد الكل في الكل وتتوه عقول القساة المجانين فيخلطون ويغلطون ولا تفرق هراواتهم وقبضاتهم بين مريض ومعافى، أو بين صغير وكبير، وتصبح اللوحة سريالية بلا ألوان لكنها تعطي نموذجنا الجديد الذي تم تصميمه بخداع الوهم أو خداع الذات.

لا أعرف كيف استطاع هؤلاء جمع هؤلاء؟، وكيف تم شحنهم وإقناعهم ليفعلوا كل هذا؟

من أين لشعبنا كل هذا الحقد والتحامل؟ ولماذا صبرنا حتى اللحظة لنرى موتنا البطيء المؤلم وخيبتنا الكبيرة؟

هل كان هناك ما يستدعي كل الذي جرى؟ ومن له كل هذا الحمق والحقد ليؤذي ساحات وشوارع تتقدس بأقدام من ساروا عليها ذات يوم وهم يجرون على أكتافهم هم شعبهم ويحملون أناته وتيهه الذي طال؟ فأخرجهم منه إلى آفاق الحلم بوطن يرونه على بعد خطوات ويغصون كل لحظة بمرارتهم، فقدم لهم ماءً قراحاً وأزال المرارة والإحباط فاستحق أن تبسط له الساحات والحواري والشوارع قلبها وقالبها.

لماذا يقتلون الحلم وهم من قصوا علينا حكايته؟ لماذا يجرحون القلب وهم من نادى باله يحاسب على القلوب؟ ولماذا أخيراً يحرمون احتضان ثرى الوطن سواء بالسجود أو بشهادة قالوا أنها منتهى المراد من رب العباد؟ وهل سيستظلون أخيراً بظلال جدراننا ونصب الشهداء وجندينا المجهول؟ أم ستبقى أنات شوارعنا وشكوى ساحاتنا؟ ولماذا تنكس راياتنا فيها؟ وهل يعلم هؤلاء أن هذه التي احتضنت كل بؤسنا وكل بأسنا وكل أحلامنا وبعض هزائمنا ستقلب لهم ظهر المجن وتلفظهم إن استمروا؟

لماذا لا نحمل جميعاً كل ما نستطيع ونمسح عنها كل خطايانا، ونثوب جميعاً إلى حضن لم يكن يوماً إلا حانياً؟ ونتطهر فربما نستطيع إعادة الحب بين ظهرانينا لتزهو شوارعنا وساحاتنا.

 
 
اقرأ المزيد...
 
Footer
اتصل بنا
العنوان البريدي:
صندوق بريد 69647
القدس
عمارة الريماوي، الطابق الثالث
شارع ايميل توما 14
حي المصايف، رام الله
الرمز البريدي P6058131

فلسطين
972-2-298 9490/1
972-2-298 9492
info@miftah.org
للانضمام الى القائمة البريدية
* indicates required