ففي يوم رمضاني أردت التمشّي بأسواق هذه المدينة التي لها في قلبي معزة خاصة، وذلك لأتسوق بعض الحاجيات الغذائية لأسرتي-- من حلويات وفواكه وهي الحاجيات التي تزخر بها أسواق المدينة في شهر رمضان، ورمضان في نابلس ذو نكهة خاصة، ويترافق كل عام مع طقوس وتقاليد مميزة.. وكعادتي دخلت أسواق حي القصبة ( السوق العتم وسوق البصل والبوابة الشرقية وبوابة البيك والمنارة و و.. ) حيث الحاجيات هناك ارخص بشكل ملحوظ، الأمر الذي يجعل كل الفقراء وذوي الدخل المحدود يتجهون دوما إلى هناك حيث الحي التاريخي الضارب بالقدم.. كان المتسوقون بأعداد ضخمة ضاقت بهم أزقة الحي، وقام التجار بعرض بضائعهم على واجهات المحال وأمامها بأشكال فنية، مما تسبب بحالة اكتظاظ وازدحام شديدين لحركة السير.. وفي أثناء تجوالي كانت أذناي تلتقطان همس وصراخ وحديث ونقاش المتسوقين، الذين هم بالعادة من سكان المدينة ومن قراها ومخيماتها.. كان الحديث الغالب عن غلاء الأسعار وعن ضيق العيش.. وكان التذمر طاغ على الجميع، حيث الاحتياجات كثيرة لكن الإمكانيات اقل بكثير، والبضائع متوفرة لكن الأسعار مرتفعة.. واصلت السير إلى أن اقتربت من المجمع الشرقي، حيث سيارات مخيمنا تتوقف هناك لنقل الركاب.. لكن شيئا ما كان يحدث في العمارة المقابلة للمجمع، إذ كان عشرات المواطنين يقفون أمام بوابة صيدلية مغلقة، اقتربت من المكان الذي احتشد فيه الناس، وكانت هناك لوحة كرتون انكب الناس على قراءة ما كتب عليها، ولاحظت أن الجميع عندما ينتهي من قراءتها يصاب بالامتعاض والحنق، ويطلق تعليقات تهكمية تطال السلطة والمسئولين.. تقدمت إلى حيث وضع لوح الكرتون، وعليها قرأت العبارة التالية: ( الصيدلية مغلقة بأمر من المحافظ لأنها تبيع الأدوية بأسعار مخفضة ).. وعلمت فيما بعد أن أصحاب الصيدلية هم من وضعوا هذا الإعلان بأنفسهم-- كشكل من أشكال جذب التعاطف معهم، وشكل من أشكال التهكم والتحريض الغير مباشر ضد من أمر بإغلاق الصيدلية.. شدني الموضوع كثيرا وبدأت اسأل المواطنين المتواجدين في المكان عن القضية.. وقد وجدت إجماعا كبيرا على استنكار إغلاق تلك الصيدلية، وعندما سالت عن أسباب ذلك الاستنكار سمعت قصصا كثيرة.. لكن الغالب منها يفيد بان الناس غاضبون لأنهم خسروا فرصة شراء الأدوية بأسعار مخفضة.. وقال لي رجل طاعن بالسن : يا ابني والله إن هذه الصيدلية كانت رحمة لكل الناس الغلابا.. بل ولكل الشعب، فالأدوية فيها ارخص بكثير من أي صيدلية أخرى.. وقالت امرأة ريفية: يا أخي ضاعت الرحمة من قلوب المسئولين.. وبدلا من أن يكونوا عونا للشعب.. هاهم يتسببون أكثر بزيادة مصاعبه الاقتصادية.. وقد حدثني سائق سيارة وقال لي: لو كنت هنا لحظة مجيء قوة الشرطة لإغلاق الصيدلية لرأيت كم تعاطف الناس مع أصحابها، وكيف كانوا يصرخون برجال الشرطة، ويحاولوا منعهم من إغلاق الصيدلية-- لدرجة أنهم كادوا يخرجون بمظاهرة ضد أمر الإغلاق.. عدت إلى منزلي والفضول يسيطر علي، وبدأت اتصل بأصدقاء لي من أطباء وصيادلة ومسئولين، وعرفت حينها تفاصيل أكثر عن القضية، واتضح لي أن أسعار الأدوية في هذه الصيدلية اقل بكثير من الصيدليات الأخرى، وهذا راجع لان صاحب الصيدلية اكتفى بتحقيق ربح قليل، ( وهو الربح الذي يعطيه إياه موردي الأدوية، حيث يعطونه 20% ربحا- بونس- على كل كمية دواء يشتريها منهم ) .. وقد قرر صاحب الصيدلية لأسباب إنسانية عدم إضافة أل 30% على أسعار الأدوية-- كما هو متبع ووفق قوانين نقابة الصيادلة – وعلمت أيضا أن نقابة الصيادلة كانت قد رفعت سابقا العديد من القضايا على هذه الصيدلية أمام المحاكم لنفس السبب، وأجبرتها أكثر من مرة على دفع غرامات باهظة.. وذلك بتهمة عدم التقيد بالتسعيرة التي وضعتها النقابة وهي تحقيق نسبة ربح تصل إلى 30% .. وقد جاء أمر الإغلاق الأخير بدعم من المحافظ الذي استجاب لضغوط نقابة الصيادلة.. العجيب في الأمر.. أن المسئولين وبدلا من أن يساهموا بالتخفيف عن المواطنين، ويقوموا بالثناء على ما أقدمت عليه هذه الصيدلية.. قاموا بمعاقبتها، وكان القانون يمنع تخفيض الأسعار.. ونقابة الصيادلة التي كان عليها أن تقوم هي بتخفيض نسبة أرباح الصيدليات إلى 10% مثلا.. بالإضافة إلى أل 20% التي تحصل عليها من مصانع الأدوية.. بدلا من ذلك تعاقب هذه الصيدلية الشجاعة الأكثر إحساسا بمصاعب الناس الاقتصادية.. إن هذه القضية تفتح من جديد موضوع تقاسم الأعباء الذي على كل فئات المجتمع أن تقوم به فلا يعقل أن تستمر الفئات الشعبية وحدها بحمل وزر الانتفاضة، وعواقب سياسات الاحتلال، والأزمات الاقتصادية الخانقة، وعلى فئات المجتمع الأخرى-- كالأطباء والصيادلة والمهندسين والمحامين والمستشفيات الاستثمارية-- إعادة النظر بسلوكها الغير منطقي، والتنازل جزئيا عن نسب أرباحها، خدمة للغلابا والمسحوقين، الذين انخفضت مستويات معيشتهم بشكل حاد، ويعيشون اليوم ظروف البطالة والبؤس والفقر المدقع. - مفتاح 10/1/2007 - اقرأ المزيد...
بقلم: ريما كتانة نزال
تاريخ النشر: 2018/7/23
بقلم: جهاد حرب
تاريخ النشر: 2018/5/12
بقلم: وكالة معا الاخبارية
تاريخ النشر: 2018/5/2
|