الرمزية التي شكلها "أبو عمار" بكوفية فلسطينية مرقطة وخطاب مفعم بالعاطفة واستخدامات متكررة لآيات قرآنية جعلته في عيون الكثير من أبناء شعبه أكثر من رمز، فقد نُسجت له مكانة خاصة عند مختلف الاجيال فلم يكن من المستحيل أن تجد فلسطينيا لا يجيد العربية في تشيلي وآخر في شاتيلا او بلاطة يجمعان على مكانة عرفات القيادية وتأثيره على الوعي بالقضية الفلسطينية. عاش عرفات في عين العاصفة المتكررة أكثر من مرة، كانت علاقاته العربية جيدة وليست كذلك، لم يقطع "شعرة معاوية" في تلك العلاقات.. لعب على متناقضاتها.. حرق الكثير من المراحل.. وظل الرجل يكرر النجاحات والاخفاقات التي حددت له مكانة لم يحظى بها قادة فلسطينيين كثر.. وبالرغم من حالة اللاتسامح التي صبغت علاقاته السياسية الداخلية والفصائلية إلا أنه كان يجد في صفوف شعبه ذلك الهامش من التسامح المفقود سياسيا وتنظيميا.. ولم تحظى كل قرارته وسياساته باجماع لكنها لم تكن تجد معارضة حقيقية ، ربما بفعل غياب قادة تاريخيين في الحركة وبفعل الصراع على مكانتها في الساحة الفلسطينية.. عرض عرفات نفسه في الكثير من المراحل الى نقد جارح وصل في إحدى المرات أن كان عنوانا لغلاف مجلة يسارية فلسطينية بعنوان "الانحراف الخطير"، وبالرغم من ذلك وبعد أن تقدم العمر بالختيار صار أكثر إدراكا لضرورة ان يساهم الكل في الجهد الوطني.. وهذا لا يعني أن نهجا معينا انتشر في "فتح" التي تحولت الى حزب السلطة حتى رحيله قرأ مسألة الجهد المشترك من زاوية فئوية ضيقة.. لقد نمت في "فتح" حالة من الانتهازية المنفرة.. حالة عانى منها عرفات بنفسه في سنوات قيادته الاخيرة وهو الذي ساهم في حماية رموزها فكانت واحدة من المآخذ الكثيرة التي طفت على سطح العلاقة الفلسطينية – الفلسطينية منذ عام 1982.. ليس هناك شك في أن "الختيار" الذي أحاط نفسه وأُحيط بنوع خاص من رجال السياسة والاقتصاد الذين لم يكونوا دائما أنقياء الهدف والممارسة يتحمل مسألة التنفذ الذي فاق مقاسات البعض وانقلب سلبا عليه شخصيا وعلى النضال الفلسطيني.. إنها ذات الشخوص التي استعانت بالوضع الدولي والعربي لفرض نمط عمل يسحب منه صلاحياته وينقلب على مكانته علنا.. حاول عرفات اللعب على المتناقضات الداخلية في حركته وبين مراكز القوى التي نمت على هامش تحول الثورة الى سلطة.. رويدا رويدا سارت الثورة نحو خبو بريقها لمصلحة مصطلحات أخرى أنتجتها عقلية أوسلو وتحويلها الى المألوف ورد غيرها الى التطرف واللاواقعية.. أفرط أبو عمار في تفاؤله بعد دخوله الى غزة في 1994 لكنه اكتشف متأخرا بأن تكتيكاته لم تكن صائبة.. عاد بعد كامب دافيد الى شعبه بطلا قوميا ووطنيا يرفض التنازل عن الحقوق الاساسية.. ليس سرا أن عربا وفلسطينيين انضموا الى جوقة الغاضبين عليه لأنه إنقلب على نفسه في العام 2000.. ربما أدرك وهو يتعرض لتهديدات باراك وكلينتون واولبرايت بحجم الخديعة والفخ الذي نصبوه للقضية، أدرك التخلي العربي عنه طيلة أيام التفاوض والتهديد العلني والمبطن.. دفع عرفات ثمنا كبيرا لتمسكه بثوابت وطنية.. فبعد اندلاع الانتفاضة الثانية ومنعه من التحرك الحر والتوجه الى القمة العربية في بيروت، شهد عرفات تدمير ما أنجزته السلطة من بنية تحتية على أراض فلسطينية.. يُشهد للرجل أنه ثبت وصمد ولم يحمل سماعة الهاتف ليعلن استسلامه فانسجم مع روح الصمود المستمر عند الشعب الفلسطيني.. أثار حنق الكثيرين من القريبين والبعيدين حين لم يتراجع عن مواقفه.. بالامكان الاشارة سريعا إلى مواقف عرفات من معارضيه في التنظيمات الفلسطينية الاخرى والاتهامات التي ذهبت الى حد تخوين الرجل.. لكننا وبلا شك كنا كما غيرنا شهودا على علاقة مختلفة بحركة "حماس" وقيادتها، رغم الاتهامات التي كانت توجه للقيادات الامنية في غزة.. بعد ثلاثة أعوام على رحيله المتوقع بعد مقولته الشهيرة أثناء محاصرته وضرب مقره بالدبابات، المقولة التي حولها البعض الى تندر على عرفات، فاجأ البعض بامتلاكه حاسة سادسة للكيفية التي يتوقع فيها نهايته.. وإن أصرت بعض عقول "المقاطعة" على ضبابية الحقيقة التي أودت بالرجل.. فشخص بحجم عرفات ومكانته التاريخية والنضالية.. مهما اختلفنا عليها.. لا يمكن القبول بكل هذه الضبابية التي تمنع الاجوبة وتترك الاشاعة تحل مكانها وتزيد من قناعات البعض بأنه هناك من تورط في اغتياله بطريقة او أخرى.. بعد أعوام ثلاثة لا يكفي أن يقام له ضريحا أو أن يستعرض البعض "حرس الشرف" عند قبره أو أن يذرف البعض دموعا ـــ حقيقية كانت أم غيرها ـــ على ذكراه وأطلال تاريخه.. نعم، أطلال تاريخ رجل رفض على الاقل أن يقبل التنازل عما يتنازل عنه هؤلاء الذين أحاطوا به وتخلوا عنه ثم عادوا اليه ليورثوه وهو على فراش الموت.. وليتحمل هؤلاء الذين نقصدهم بكلامنا عشر ما كان كنا نقوله بحق الرجل.. فالقاء كلمات " العهد ثم العهد" لا تكفي للاقناع بأنهم يتمسكون بالثوابت وهم يمعنون التفرد بتحديد المستقبل الفلسطيني.. لقد أضاع هؤلاء الذين نقصدهم تراكمات التضحيات الفلسطينية.. فإذا كانت فلسطين التاريخية إنحسرت في الخطابين العربي والفلسطيني الى المحتلة في 67 فلا أقل من الثبات الذي صار بلا طعم ولا لون ولا رائحة عند هؤلاء الذين يتعانقون مع الاسرائيلي ويقدمون مشاريع قرارات للامم المتحدة بحق بعضهم ويؤجلون مسألة الحوار الداخلي وركن منظمة التحرير الفلسطينية على رفوف أوهام أمريكية واسرائيلية.. مصيبا يسأل لاجئ فلسطيني عما كان موقف عرفات لو كان بيننا من مهزلة الكيانات والكانتونات والانشغال بترهات الوعود الامريكية والنصائح الاعتدالية العربية؟ وسيظل مصيبا الشعب الفلسطيني مهما تراكمت عليه جهود تركيعه.. المؤلم الأكبر في إفتقاد عرفات يكمن، إلى جانب أشياء أخرى، في إنفلات التخبط من عقاله .. وبقاء ذات الشخوص الممسكة بمفاعيل العمل بأجندتها التجريبية تتفرد وتتسيد ساحة العمل السياسي والتفاوضي بنظرة دونية للبقية الباقية من الفصائل والشخصيات الوطنية ضاربة بعرض الحائط كل معاني العمل المؤسساتي وشلها لمعظم اجهزة المنظمة والمرجعية الوطنية والدخول العلني في سخافة تصنيف هذا وذاك وفق مقاييس ومعايير "المصلحة الوطنية" التي صار يحتكرها البعض ممن كان يتمنى أن تنتهي حياة عرفات السياسية والقيادية لتفتح الطريق أمام هذه السياسة التي شهدناها على مدى الاعوام الماضية.. والامعان في مسألة التخلي عن ملايين اللاجئين في الشتات وحصر القضية في بنود حسن نوايا لا أكثر ولا أقل... في فترة من الفترات انحط الخطاب السياسي والاعلامي التشهيري على الساحة الفلسطينية الى حد التعامل مع مسألة زواج أبو عمار ضمن التصنيف "الخياني" وكأنه كان ممنوع عليه الزواج بينما بعضهم يفتح 4 منازل في آن واحد.. ثم يُعاد إجترار الخطاب في أيامنا هذه إلى حد التشهير الشخصي بهذا وذاك لازاحته عن الطريق وفق معايير التخوين والوطنية .. وهو نهج يستدعي الشفقة على حال العمل السياسي والاعلامي الفلسطيني.. كما يمنح الدعاية الصهيونية والعربية المتصهينة الكثير من السم المدسوس في العسل.. سواءا اتفقنا أم اختلفنا مع مسيرة الزعيم الفلسطيني الراحل ياسر عرفات فليس غريبا أن يُقرأ عرفات في التأريخ المخصص للقضية الفلسطينية كقائد وطني من جهة ورافض شرس ومُعارض إلى حد خلط الشخصي بالسياسي من جهة أخرى! - مفتاح 12/11/2007 - اقرأ المزيد...
بقلم: ريما كتانة نزال
تاريخ النشر: 2018/7/23
بقلم: جهاد حرب
تاريخ النشر: 2018/5/12
بقلم: وكالة معا الاخبارية
تاريخ النشر: 2018/5/2
|