إن الدساتير التي تستند إلى الشعب لتسوّغ وجودها تحوله إلى وجود متعالٍ Transcendental لتستمدّ باسمه قوة التشريع، التشريع نفسه الذي يُحكم الشعب باسمه. أي أنها تقوم بعمل مزدوج، فهي (أولاً) تنزع من الشعب حقيقته الاجتماعية، باللجوء إليه مجرّداً وغير قابل للتحديد، وهي (ثانياً) تفرّغه من إرادته وأهليته بالقرار بأن تجعل منه، باسمه أيضاً، موضوعاً لتنصيصاتها وأحكامها. ذلك يعني أن الأفراد يقرّون تعطيلَ إرادتهم بإرادتهم.(1) ويَسِمون أنفسهم بأنفسهم بالجمود واللاإنتاجية. 2 هذه إحدى صيغ بلاغة الاستبداد. إن اللغة التقريرية للمواد، والطابع الحقوقي المسيطر على تنسيق هذه المواد وتفرعاتها يوحيان بإطلاقيّة المدلولات وتعالي الخطاب ويقينيّته. 3 في فهمه للدولة، يرى شتيرنر أن الدولة نفسها هي تجريد أيديولوجي، كالله بشكل ما، إنها توجد فقط لأننا نسمح لها بأن توجد، لأننا نتنازل لها عن سلطتنا الخاصة.(2) إن الأكثر أهمية من مؤسسة الدولة هو "مبدأ الحكم"، هو فكرة الدولة التي، بكلمة أخرى، تحكمنا. وما يذهب شتيرنر باتجاهه مباشرة هو أن القدرة على الهيمنة والتسلط التي تميز الدولة تنبع من أنها "توجد غالباً في عقول موضوعاتها" و"سلطة الدولة إنما هي مؤسسة على سلطة الأفراد كونهم غير قادرين على اكتشاف السلطة في أنفسهم". يريد شتيرنر أن يُظهر أن الجهاز الأيديولوجي ليس معنياً بالمسألة الاقتصادية أو السياسية فقط، إنه أيضا متجذر في الحاجات النفسية، طالما أن هيمنة الدولة كما يقترح تعتمد على إرادتنا في أن ندعها تهيمن علينا. لقد وُصف هذا النقد بالمثالية المفرطة، ولكننا نعلم أن الإرادة هي جزء لا يتجزّأ من الممارسة السياسية، إذ بغير الإرادة تكون الممارسة سياقاً مفارقاً ليس في حاجة إلى شرط إنساني يفعّله، ويمنحه القدرة على التطوّر. إن رفض مبدأ الإرادة يعني مصادرة الممكنات ونهاية التاريخ.. أي إقامة نموذج ماضوي لمساءلة مستقبل لم يأت بعد. إن معادلة ضرورة الدولة بكونها وعاء حفظ وصيانة وحصر القوانين لا تصمد هي الأخرى أمام إشكالية عمومية موضوع القانون وصدقيّة شعبيته، إذ غالباً ما تتم إحالة المصلحة العامة على قيمة أسطورية غير متحققة في الواقع، في حين ترتدّ اللوائح والسنن لتدعم المصالح الخاصة.. لقد رأى روسو (وهذه إحدى نبوءاته المتألقة) أن عمومية موضوع القانون لا يمكن لها أن تتحقق إلا في الديمقراطية الشعبية المباشرة.(3) 4 ثمة، إذن، إضمار مزدوج كامن في الأساس التشريعي لمبدأ الحكم، وما يتمظهر فيه من تشريعات وقوانين معدّة لتوطينه وتنظيمه وتعميمه. وليس كثيراً ما يمكن أن يمنحه الإدعاء الديمقراطي لنزع هذه الإزدواجية. 5 فيما يتصل بالإدراك التاريخي للموضوع فإن الديمقراطية في صيغتها التعددية ظلّت مقتصرة على جغرافيا محدودة، كما أن تعميمها لم يتم إلا بنوع من المواربة على جوهر فكرة التعددية ذاتها. أما في الوقت الحالي فإننا نعرف جميعاً أن الالتزام بالمبدأ التعددي يمثّل بالنسبة للكثير من الحكومات الآسيوية والأفريقية والأمريكية الجنوبية والأوروبية [إنه العالم مقتطعةً منه الولايات المتحدة وعدد قليل من الحلفاء] نوعاً من المحاباة لإضفاء الشرعية على الترسيم أو، بالأحرى، التعميد الجيوبوليتيكي الأمريكي لتلك الحكومات. 6 لقد أنتجت التجارب السياسية عدة تعريفات للديمقراطية ممتدةً من الاشتراطات المحلية للحكومات الراغبة في مواكبة الدفع المعولم Globalized مع الإصرار على تثبيت بنية التبعيّة؛ إلى الاشتراطات الليبرالية، وعلى رأسها التعددية، دون التدقيق في صدقيّة أي من الطرفين لإثبات أن هذا الاختيار أو ذاك ليس مواربة على وضع سائد يخفي تحت شعاراته استبداداً وتفرّداً ورغبة في المزيد من السيطرة ونشر مناطق النفاذيّة والتابعيّة. 7 من بين التخالفات (إذا اعتبرنا التخالف درجة أدنى من الاختلاف في مجال الإعلام والميديا لترويج صحة الادعاءات السياسية) وهي عديدة، يمكن اللجوء إلى مدخلين للديمقراطية، إذ هناك دائماً التعريف المعجمي، والتعريف العملي. 8 إن التعريف العملي هو ما يمكن أن تتشبث به جميع الأطراف لمنح تجاربها قدراً من الصدقيّة في الممارسة. عادة ما يكون الإخفاق في التداول السلمي للسلطة تهمة جاهزة يمكن النبش عن قرائنها تحت الدعوى الفضفاضة لضرورة الأخذ بالاشتراطات المحلية. كما أن الميديا الكونيّة قد رسّبت حتى الآن قناعة لدى الجميع بارتباط الليبرالية والتعددية بمنظومة أخلاقية صلبة الأساس، صحيّة وملتزمة بالكرامة الإنسانية والحرية، وإن كانت عرضة في الوقت نفسه للإستغلال وخاصة في تبرير السيطرة الأمريكية، ونزع صفتها العدوانية، واستبطان دورها القيادي في العالم. هذه الوضعية المترسبة في اللاوعي الجماعي ساهمت في جعل الحكم على سياسة أمريكا الخارجية غير قارٍ ولا يتبع نسقاً واضحاً، فأصبح من شبه اللازم التريّث كلما اشتعلت بؤرة من بؤر التوتر في العالم وانتظار ما ستسفر عنه الأحداث. ولن يكون انتظاراً طويلاً على أي حال، لأن السرعة والبطء هما معياران حاسمان. إذ "يعمل أحد أكبر مظاهر تفاوت السلطة والقوة في العالم اليوم على تقسيم الأقطار إلى غنية وفقيرة، ولكن هذا التوزيع غير المتكافئ للسلطة، والذي يؤثر على حياة البلايين منا، سوف يتبدل قريباً فيما ينتشر نظام جديد لخلق الثروة.. من الآن فصاعداً سينقسم العالم إلى عالم بطيء وعالم سريع".(4) 9 لتفهّم "الديمقراطي"، إذن، يطال التداول الشائع تصنيفين: - الأول: المُتصوَّر. ونفكر ضمنه في تاريخ المفهوم، وتبدّلاته، هنا يمكن لتلك القيم أن تظهر بين حين وآخر في مقارنات أخلاقية، ونستطيع استعادة مدن الشمس، والخير المشترك، ونبوءة الإنجيل حول الحمل والذئب، إننا بالتعريف المعجمي للديمقراطية (تشومسكي) أو العقلنة التواصلية لعالم الحياة (هابرماس)، لا نكون بعيدين تماماً عن التفاؤل. فما يمكن استخلاصه في العموم للتعبير عن مختلف التجارب في مقارباتها للعمل الديمقراطي، وينطوي ذلك على جميع النجاحات التي تحققت بغض النظر عن مكانها، وحصرها في التداول النظري لا ينتقص من قيمتها باعتبارها تتجلي أخيراً كقيمة يتم العمل على تحقيقها في الواقع، وتُقاس بها الأساليب والإجراءات. إن هذا التعريف يستبطن ارتياد الساحة Agura الإغريقية كأصل للمشاركة في تقرير المصير، كما أنه فعّال في تحديد المقارنات. وبشكل مباشر وحاسم.. ألم تكن حكومة الليندي مثلاً ديمقراطية بالرغم من رفض الولايات المتحدة لها، في حين أن حكومة بينوشيه تظل أكثر الأمثلة ديكتاتوريةً بالرغم مما حظيت به من تلفيق أمريكي باسم الديمقراطية. وهل حكومة شافيز مستبدّة قياساً بالحكومة البديلة المختارة من تحالف الليبراليين والأثرياء في فنزويلا، بالرغم من أن هؤلاء ليسوا قلّة عدديّة.. من جرّم هذا وبرّأ ذاك؟ إن السلوك الصادر عن "الحكومة الديمقراطية"، ليس في الواقع سوى سلوك القلّة الاحتكارية Oligopoly، ولا علاقة له إطلاقاً بالدلالة المباشرة لكلمة "ديمقراطية". [أصل كلمة Dimocracy هو دهموكراسي، أي تكريس [حكم] الدهماء: "دهمو" Dihmo الأكدية هي عامة الشعب، الدهماء]. فإذا استعدنا أقدم القصص؛ ألم يُعدم سقراط ديمقراطياً؟ لقد كان قرار الأغلبية وفقاً للتقليد الديمقراطي هو الذي رأى في سقراط عدوّا للشعب. هل كان فعلاً قراراً للأغلبية؟ هل كانت فعلاً أغلبيةً بمعنى الكلمة: حرّة الإرادة، مستوفاةً لشروط القرار نقدياً وعقلانياً؟ أم أنها كانت أيضاً مسيطراً عليها إعلامياً، أو بالأحرى فلسفياً؟! - الثاني: المُمارَس. تاريخ توطين المفهوم، وسجلّ صنْع أنساقه، وتجارب فشله المستمرة، إننا بالتعريف العملي للديمقراطية (تشومسكي) أو العقلنة الذرائعية للنظم (هابرماس) نكون في قد انهممنا بعمق الإشكـاليات المحتدمة حول وصف "الديمقراطي"، التي قادت وتقود إلى فيضانات من الدم. لا أعتقد أن العالم شهد مثيلاً لهذه الملهاة المرعبة التي تحدث باسم الديمقرطية. 10 هذه المرجعيّة المزدوجة في تحميل المفهوم دلالاته الملتبسة تعمل في الحقيقة كناظم للتفكير في مآل الديمقراطية. إن تأكيدي الأساسي ما زال ذاهباً باتجاه الافتراض أن الديمقراطية قد تحوّلت إلى إدعاء ثقافي، أكثر مما هي واقع سياسي قابل للتحديد والوصف، وأنها من حيث المفهوم قد انضمت إلى حزمة الأدوات الموظّفة احتكارياً، بعد تفريغها على مستوى الممارسة من أي إلزامات للمؤسسة السياسية. وبقدر ما تجعل هذه المرجعيّة من اعتماد مبدأ شيئية المحكومين جرْماً، فإن انتشار ونفاذية مقولات العولمة وآليات اشتغالها القويّة وارتباطها بالنموذج الديمقراطي الليبرالي الافتراضي، يضاعف من صعوبات إعادة إظهار ونقد ودحض هذه المرجعية.. أي أن الجانب الاقتصادي المادي يطغى هنا على التفكير في الأسس النظرية التي تراجعت لتصبح جزءا من التاريخ. فتعميم الديمقراطية، وفقاً للوصف الأمريكي، ييسّر القبول بتنظيم المضاربة في مجالات التبادل ويشرّعها. وبعبارة أخرى فإن هذا التعميم ليس سوى مصادقة الدول والشعوب على التحول إلى أسواق مادية ورمزية للإنتاجية الأمريكية نفسها. وبالقدر الذي يتحقق فيه هذا الارتباط العضوي بين المركز والأطراف بالقدر الذي يتم فيه إهمال الاختيار الحر المبني على الخصوصية الاجتماعية والتاريخية لكل دولة أو شعب. ** هوامش 1. إن دساتير أخرى لا تتحرّج من الاستناد إلى الله، باعتبار حاجتها إلى الاحتكام إلى وجودٍ أعلى، فيضمن مشرّعوها مصادقة الشعب على تحوّله باسم الله إلى حشود من المحكومين، وتؤمّن قدراً كافياً من الطاعة يتناسب مع الإيمان بالله نفسه صاحب التشريع الأصلي!. 2. Newman, Saul. Spectres of Freedom in Stirner and Foucault: A Response to Caleb Smith's "Solitude and Freedom", Postmodern Culture 3. افلين بيزييه ــ كوشنيه، أيديولوجيا الانسان، بإشراف: فرانسوا شاتليه، ت: خليل أحمد خليل، المؤسسة الجامعية، 1981، ص 32. 4. توفلر، ألفن. تحول السلطة بين العنف والثروة والمعرفة، تعريب ومراجعة: فتحي شتوان ونبيل عثمان، الدار الجماهيرية، ط1، 1992.ص513. - مفتاح 3/12/2007 - اقرأ المزيد...
بقلم: ريما كتانة نزال
تاريخ النشر: 2018/7/23
بقلم: جهاد حرب
تاريخ النشر: 2018/5/12
بقلم: وكالة معا الاخبارية
تاريخ النشر: 2018/5/2
|