في آخِر فصول التراجيديا الفلسطينية، والذي يَكْمُن ما بين سطور ما حَدَث ويَحْدُث عَبْر الحدود بين قطاع غزة ومصر، تَذَكَّرتُ، عملاً بقانون "تداعي المعاني"، قصة شاب ريفي يعيش في قرية نائية، فقرَّر، إذ ضاقت به سُبُل العيش، وأنهكه الجوع "الكافِر"، أن يَتْرُكَ قريته مع أرضه التي ما عادت تُطْعمه، وأن يذهب إلى المدينة، ليعمل في أحد مصانعها، فإذا جَمَع من المال ما يكفي لتحسين سُبُل عيشه الريفي، عاد إلى قريته، واستأنف حياته الريفية. هذا الشاب، المستمسك بـ "ثوابت" ثقافة ابن القرية، والذي لا يَجِدُ في حياة ابن المدينة ما يغريه بها، كان في نيَّته وحافزه ودافعه أن يغادر قريته إلى حين، وأن يظلَّ على ما هو عليه من ثقافة وطباع وسلوك؛ وقد ظلَّ مستمسكاً حتى بزيِّه القروي، هازئاً وساخراً من زِيِّ ابن المدينة (وطباعه وعاداته). ولكن، ما أن تأكَّد له، وثَبُت، تفوُّق المدينة على القرية، وفي نمط عيشها على وجه الخصوص، حتى شرع يتطبَّع بطباع أهلها، يحاكيهم ويقلِّدهم في كل شيء. وقد انتهت قصته إلى العيش إلى الأبد، مع زوجته وأولاده، في المدينة. إنَّ شيئاً من جدل العلاقة بين "الذات" و"الموضوع"، على ما ترينا إيَّاه هذه القصة، نراه، وينبغي لنا أن نراه، في ما حَدَث، ويَحْدُث، عَبْر الحدود بين قطاع غزة ومصر، أو في بعض من النتائج والعواقب الموضوعية التي يمكن أن يتمخَّض بها، وينتهي إليها، إذا عجز الفلسطينيون (وهذا ما نراه حتى الآن) عن "الإبحار" على هَدْيٍّ من قضيتهم وحقوقهم القومية (التي هي الآن كظلٍّ فَقَدَ جسمه) ومن مصالحهم غير الآنية، وفي الاتِّجاه الذي تُعيِّنه لهم "بوصلتهم الفلسطينية". إنَّ أحدا من الفلسطينيين الذين ظلوا بنقاء قضيتهم القومية لا يمكنه أن يقف ضد ما قيل، ويقال، في أمر "الدافع" الذي دفع مئات الآلاف من أهل قطاع غزة إلى "العبور" إلى أرض مصر، أو في أمر "الغاية"، فليس من قدسية لتلك الحدود بعد، وبسبب، ما صنعته إسرائيل من معاناة لنحو مليون ونصف المليون إنسان فلسطيني في هذا الشريط الساحلي الصغير والضيِّق والفقير، والمحاصَر، برَّاً وبحراً وجوَّاً، حصاراً مُحكماً طويلاً، والذي حوَّلت قوَّة الاحتلال الإسرائيلي بعضه إلى سجن جماعي كبير، وبعضه إلى مقبرة جماعية كبيرة. وها هو الرئيس المصري حسني مبارك يُفسِّر ما حدث على الحدود بين قطاع غزة ومصر على أنَّه الثمرة المرَّة لأعمال إسرائيل ضد القطاع وأهله. أمَّا في "الغاية" فنقول إنَّ أحداً من أولئك الفلسطينيين لا يمكنه أن يقف ضد إنهاء كل تبعية للاقتصاد الفلسطيني في قطاع غزة (وفي الضفة الغربية أيضاً) للاقتصاد الإسرائيلي، أو ضد التأسيس لعلاقة اقتصادية قوية بين القطاع ومصر، أو بينه وبين جواره العربي على رحبه واتِّساعه؛ وإنَّ أحداً منهم لا يمكنه أن يقف ضد بسط السيادة الفلسطينية الكاملة على الجانب الفلسطيني من معبر رفح، وأنْ يُمزَّق، بالتالي، إرباً إرباً، "اتفاق 2005"، الذي لا جدال في سوئه، على ألاَّ نضرب صفحاً عن حقيقة أنَّه سيء؛ لأنَّ الواقع الفلسطيني (والعربي) الذي أنتجه كان في منتهى السوء. لقد قرَّرت إسرائيل، في عهد شارون، الذي لم ينتهِ بعد، أن تُخْرِج كل مستوطنيها وجنودها من القطاع، الذي طالما تمنَّت أن يبتلعه البحر؛ وما كان للفلسطينيين، الذين رأوا في القرار الإسرائيلي شيئاً من معاني "التحرير"، أن يفرضوا عليها البقاء. ولكن، كان ينبغي لهم (مع أنَّ هذا الكلام غير مفيد الآن) أن يرفضوا توقيع "اتفاق 2005"؛ وكان ينبغي لمصر أن تقبل شيئاً واحداً فحسب هو أن يبقى الجانب الفلسطيني من معبر رفح في أيدٍ إسرائيلية، فقبل قيام الدولة الفلسطينية لا يجوز أن يسمح الفلسطينيون والمصريون لإسرائيل بأن تتخلى عن مسؤولياتها (بوصفها قوة احتلال) في الجانب الفلسطيني من معبر رفح، فإذا أرادت تركه، فلتتركه؛ ولكن من غير أن يَتَّفِق معها الفلسطينيون والمصريون على "طريقة" إدارة وتشغيل "المعبر"، فـ "الدولة أوَّلاً". في عهد "الاحتلال الإسرائيلي الخالص"، أي الاحتلال الذي لم يخالطه شيء من وجود "السلطة الفلسطينية"، التي اختارت حركة "حماس" أن تغدو جزءاً منها قبل أن تقع كارثة حزيران الماضي، كانت، أو غدت، وحدة الشطرين (قطاع غزة والضفة الغربية) حقيقة واقعة، فلم يكن لدى إسرائيل من خيار غير أن تظل متحمِّلةً لمسؤولياتها بوصفها قوَّة احتلال ما ظلَّت مصرِّة على منع الفلسطينيين هناك من العيش في دولتهم القومية المستقلة. أمَّا الآن فإنَّ على كل من يَنْظُر إلى نفسه على أنَّه سلطة تمثِّل الفلسطينيين في الأراضي الفلسطينية المحتلة منذ 1967، أن يتحمَّل كل مسؤولية تتخلى عنها قوة الاحتلال الإسرائيلي بما يوافِق مصالحها هي في المقام الأول. إسرائيل، ولجهة موقفها من قطاع غزة، ليست في وضع لا تُحْسَد عليه، فهي أوَّلاً تريد لمعبر رفح أن يظل مغلقاً حتى تظل قادرة على المضي قُدُماً في عقابها الجماعي للفلسطينيين هناك، بالاقتصاد وبالحديد والنار معاً، فإذا انفجرت معاناتهم الإنسانية غضباً وثورةً، وإذا ما دفعهم الخوف من الموت (الفردي والجماعي) جوعاً ومرضاً.. إلى هدم الجدار الحدودي بين القطاع ومصر، واقتحام أسواق رفح (المصرية) والعريش طلباً للغذاء والدواء..، فإنَّ على مصر، بحسب ما تتوقَّع إسرائيل وتريد، أن تمنعهم ولو بالحديد والنار، أو ببناء "جدار أمني" مصري على طول الحدود مع قطاع غزة من نمط الذي تبتنيه إسرائيل في عمق أراضي الضفة الغربية. أمَّا إذا تجرَّأت مصر على أن تقف موقفاً يذهب بما تتوقعه وتريده إسرائيل، وأن تكسر حصار الغذاء والدواء والوقود والكهرباء.. المضروب على القطاع، فلن يبقى لدى الإسرائيليين، عندئذٍ، ما يردعهم عن قطع كل صلة اقتصادية لهم بالقطاع، وجَعْل مصر، بالتالي، هي المسؤولة وحدها عن حياة أبنائه الاقتصادية بكل أوجهها، وعن كل ما يمكن أن تصوِّره إسرائيل على أنَّه تعاظُمٌ في "المخاطر الأمنية" التي تتعرَّض لها انطلاقاً من قطاع غزة، الذي أصبحت مصر بوابته الوحيدة إلى العالم الخارجي. ولن تكترث إسرائيل، بعد ذلك، لقيام "دولة" في قطاع غزة، لها من مقوِّمات "الدولة" ما يقلُّ كثيراً عن "دولة شمال قبرص (التركية)"، فليس من أهمية تُذْكَر لإنهاء نفوذ إسرائيل في الجانب الفلسطيني من معبر رفح، والذي يَضْمنه لها "اتفاق 2005"، ما دامت ممسكة بهذا "الفاصِل الجغرافي الاستراتيجي" الذي يفصل بين "القطاع" و"الضفة"، مانِعاً اتِّحادهما في دولة (فلسطينية) واحدة. وإنَّه لمن الوهم الخالص أنْ يُظَن أنَّ تجربة المقاومة لـ "حزب الله" في جنوب لبنان يمكن استنساخها في قطاع غزة الجديد، أي المنفصل تماماً عن إسرائيل، والمتَّحِد بالعالم الخارجي عبر بوابته المصرية، فإنَّ أسلحة كتلك التي في حوزة "حزب الله" لن تَظْهَر أبداً في قطاع غزة؛ لأنَّ مصر (التي بينها وبين إسرائيل معاهدة سلام قوية) ليس لها من المصالح والأهداف ما يغريها بجعل القطاع (أو بالسماح بجعله) قلعة لمقاومة من هذا النمط. وأحسبُ أنَّ إسرائيل يكفي أن تعلن عزمها على التوقُّف عن القيام بأي عمل عسكري ضد القطاع (الجديد) حتى تجد حركة "حماس" نفسها غير قادرة على إطلاق رصاصة واحدة على الأراضي الإسرائيلية من حيث تسيطر؛ لأنَّها تَعْلَم أنَّ مصر هي التي ستُحَمَّل المسؤولية عن ذلك. وعليه، ينتهي الحصار الإسرائيلي المضروب على القطاع؛ ولكن بما ينهي ما بقي من حق قومي للشعب الفلسطيني، فلا "حل"، ولا "مقاومة"، وإنَّما علاقة "إغاثة إنسانية" دائمة لأهل القطاع، الذي تحكمه "حماس"، عبر البوابة المصرية، وكأنَّ الغاية هي أن يُدْفَن في القطاع، وإلى أجل غير مسمى، "الخياران" معاً: خيار الحل عبر التفاوض السياسي، وخيار الحل عبر المقاومة المسلَّحة. وفي "الشطر الآخر"، أي في الضفة الغربية، لن يدوم الانتظار طويلاً، فالسير في "طريق أنابوليس" لن يفضي إلاَّ إلى ما تفضي إليه كل سياسة بُنِيَت على كثير من "الوهم"، أو اتِّخَذت من "العجز" منطلقاً لـ "الإيمان بالمعجزات". وإذا كان لي أن أتفاءل فإنَّ "الدولة الفلسطينية ذات الحدود المؤقتة" هي ما يمكن أن أتفاءل بتحقُّقه في بعضٍ من أراضي الضفة الغربية، وكأنَّ "فلسطين الصغرى (أي القطاع والضفة)" يجب أن تُصغَّر أكثر، وأن تقام فيها "دولتين" لجزء من شعب واحد. في "منطق المشكلة"، ليس من "مشكلة" تُوْلَد إلاَّ ويُوْلَدُ معها "حلها"، ولو كان في شكله "الجنيني". و"الحلُّ"، على ما أرى، يبدأ، أي يمكن ويجب أن يبدأ، بالفصل بين النزاع بين "حماس" و"فتح" وبين مشكلة "معبر رفح"، فهذه المشكلة تُحَلُّ باتفاق يسمح للرئاسة الفلسطينية وحدها ببسط سيطرتها على الجانب الفلسطيني من "المعبر"، ويلتزم بموجبه الطرفان الفلسطيني والمصري أن يمنعا تحوُّل "المعبر" إلى أداة في الحصار الاقتصادي للقطاع وأهله، فلو أُغْلِق فيجب ألاَّ يُغْلَق أبداً في وجه المواد الغذائية والطبية.. المُرْسَلة إلى القطاع من مصر، أو عبرها، فلا عودة، من الآن وصاعداً، إلى منع الغذاء والدواء والوقود.. عن أهل القطاع. ومصلحة الفلسطينيين في إعادة فتح وتشغيل معبر رفح على هذا النحو يجب ألاَّ تنسيهم أنَّ لهم مصلحة، لا تقل، إنْ لم تزد، أهمية، في أن يتفقوا على انتهاج سياسة تعيد وَصْل ما انقطع من أوجه الحياة المشتركة بين القطاع والضفة، فإعادة فتح وتشغيل "الممر" بين "الشطرين" ليست بالهدف الذي يمكن استصغاره أو تجاهله. بعد إعادة فتح وتشغيل "المعبر" على ذلك النحو، لتستمر "حماس" في سيطرتها على قطاع غزة، على أن تنتهج، في الوقت نفسه، سياسة قوامها تجنيب القطاع وأهله مخاطر آلة الحرب الإسرائيلية مع انتظار (لن يدوم طويلاً) ما سيتمخَّض عنه التفاوض السياسي بين الرئاسة الفلسطينية والحكومة الإسرائيلية من نتائج، فإذا تمخَّض عن "اتفاق"، يُدْعى الشعب الفلسطيني إلى الإدلاء برأيه فيه، فتُجْرى، من ثمَّ، انتخابات تشريعية ورئاسية جديدة، تُنْهى، انطلاقاً من نتائجها، الأزمة في العلاقة بين "فتح" و"حماس". أقول هذا وأنا أعلم أنَّ كثيراً من العقل والمنطق والمصلحة العامة يمكن أن يُهْزَم في المواجهة مع الأوهام، ومع المصالح الشخصية والفئوية التي في نزاعٍ مع المصالح العامة للشعب الفلسطيني.
اقرأ المزيد...
بقلم: ريما كتانة نزال
تاريخ النشر: 2018/7/23
بقلم: جهاد حرب
تاريخ النشر: 2018/5/12
بقلم: وكالة معا الاخبارية
تاريخ النشر: 2018/5/2
|