للسياسات الصائبة المبادرة الفاعلة، بالمعنيين الاستراتيجي والتكتيكي، هنالك عدا التحديد الدقيق لميزان القوى بالمعنى الشامل، متطلب قراءة حركة الواقع، لا بالغوص في تفاصيلها، بل في تحديد وجهتها العامة، ودون ذلك ترتبك السياسة، ويتشوش توظيف أدواتها التنظيمية والكفاحية، ويختل ميزان التعبئة المثمرة لطاقاتها الجماهيرية. تلك قاعدة منهجية رصينة لصياغة السياسة وتوجيه أدوات فعلها وتعبئة طاقاتها الجماهيرية، وبالتالي الحكمِ على نخبها السياسية القائدة. وهي قاعدة أراها أكثر مِن لازمة في هذه الأيام، لكل مَن يريد مقارعة السياسة الأميركية الإسرائيلية الراهنة تجاه المنطقة عموماً، وتجاه الصراع العربي الإسرائيلي خصوصاً، وتجاه القضية الفلسطينية على نحو أخص. أما لماذا؟؟؟ لأن هنالك الكثير مِن الالتباس في قراءة مجريات السياسة الأميركية الإسرائيلية الراهنة، ذلك بفعل وجود وجهين لتعاطيها مع قضايا المنطقة، وجه دعائي تضليلي، وآخر واقعي ملموس على الأرض، وذلك خلافاً لما كان عليه الحال في محطتين ماضيتين: المحطة الأولى: هي المحطة التي أعقبت العدوان الثلاثيني على العراق، وجرى افتتاحها بمؤتمر مدريد عام 1991، وانتهجت السياسة الأميركية الإسرائيلية خلالها لغة ديبلوماسية ناعمة، صبغت اتجاهها العام، بمعزل عن النتائج التي تمخضت عنها، وكانت عقيمة في محصلتها العامة. وقد ظل الحال على هذا النحو، حتى بلغنا واقعتي: مفاوضات كامب ديفيد 2000، وأحداث ايلول 2001 في واشنطن، وما تلاهما مِن العودة الى شن الحروب الواسعة، كلغة سائدة في السياسة الأميركية الإسرائيلية خلال: المحطة الثانية: وهي المحطة التي جرى افتتاحها بغزو افغانستان 2001، مروراً بالاجتياحات المتواصلة للضفة وغزة، وكان ابرزها الاجتياح الواسع الشامل للضفة 2002، تعريجاً على احتلال العراق 2003، وصولاً الى عدوان تموز 2006 الفاشل على لبنان. حتى فشل العدوان على لبنان، فضلاً عن ارتفاع وتيرة التحدي الإيراني، وعلاقة ذلك بمصاعب الاحتلال الأميركي في العراق وأفغانستان، كان ميسوراً قراءة الوجهة العامة للسياسة الأميركية الإسرائيلية، وتحديد لغتها السائدة لفرض رؤاها وتصوراتها على قضايا المنطقة وصراعاتها، فقد كانت ديبلوماسية ناعمة بوضوح خلال فترة المحطة الأولى، وكانت حربية عنيفة بوضوح خلال فترة المحطة الثانية. أما بعد فشل عدوان تموز 2006 على لبنان، وتشابك ذلك الفشل مع المصاعب والتحديات في العراق والمنطقة عموما، فإن غير قليل من الضبابية قد ساد لغة السياسة الأميركية الإسرائيلية، فهي ليست ديبلوماسية بوضوح، رغم "همروجة" "أنابوليس"، وهي ليست حربية بوضوح، رغم ما تعج به مِن تهديدات مبطنة أحياناً ومعلنة أحياناً أخرى. لقد أثارت تلك الضبابية الكثير مِن الالتباس حول تحديد الوجهة العامة للغة السياسة الأميركية الإسرائيلية، وفرضت على كل معني بمواجهتها والتعامل معها سؤال: تُرى، ما هي الوجهة العامة لراهن السياسة الأميركية الإسرائيلية؟!!! هل تنحو للمواجهة أم للتهدئة؟!!! وبصياغة أخرى، هل ستلجأ الى لغة الديبلوماسية الناعمة لفرض رؤاها وتصوراتها لحل قضايا الصراع، أي عبر العودة الى ما كان عليه الحال خلال فترة المحطة الأولى؟؟؟ أم تراها ستلجأ لفرض هذه الرؤى والتصورات عبر شنِّ واشعال المزيد مِن الحروب، أي عبر العودة الى ما كان عليه الحال خلال فترة المحطة الثانية؟؟؟ للإجابة على هذا السؤال، بحسبانه سؤال تجنب الارتباك في السياسة؛ وانطلاقاً مِن التمييز بين الوقائع وبين دعاية تغطيتها، حريُّ التذكير بالعديد من المؤشرات التي تشير الى أن السياسة الأميركية الإسرائيلية تنحو للمواجهة، وتضمر التحفز لشن الحروب، تلك المؤشرات التي يمكن اجمال أبرزها في: 1: ليس دون معنى عدم احراز تقدم يذكر في مفاوضات واتصالات ما بعد "أنابوليس"، بل وتوصل الجميع الى قناعة أن هذه الاتصالات والمفاوضات قد وصلت الى طريق مسدود، ينذر الدخول فيه بانفجارات عنيفة، أظن أن الإسرائيليين بدعم أميركي، لا بد انهم يعدون النفس لها، ويحرصون على أن يبقى زمام المبادرة فيها بأيديهم. والعمليات العسكرية في الضفة والقطاع دليل قاطع، بل ويشي باحتمالية تصاعدها وتطورها الى ما هو أوسع، سيما في غزة، خاصة بعد ما جرى في الأسبوع المنصرم من عملية عسكرية برية تكتيكية فاقت في فظاعة جرائمها كل تصور، ولم يجرِ الإعلان عن إنهائها، بل ما زالت مستمرة، وجرى الاعلان عن تواصلها كسياسة رسمية معتمدة، رغم اعادة انتشار اللواء البري الذي نفذها، بما يشير الى احتمالية تجددها، ربما بذات الوتيرة التكتيكية، أو تصعيدها الى ما هو أوسع. 2: ليس دون دلالة وضع العصي الأميركية الإسرائيلية في دواليب محاولات جامعة الدول العربية وضع حد للأزمة اللبنانية الداخلية، بكل ما ينطوي عليه ذلك من احتمالات للانفجار، تجري تغذيته بالعديد من الوقائع، كان آخرها الإقدام على اغتيال عماد مغنية القائد العسكري لحزب الله، مع كل ما ينطوي عليه ذلك من تداعيات محتملة، أعتقد أن الإسرائيليين بدعم أميركي، لا بد انهم أعدوا النفس لها، وحرصوا على أن يكون زمام المبادرة فيها بأيديهم، ولعل في قدوم المدمرة الأميركية "كول"، وما يمكن أن يتبعها مِن قطع عسكرية أميركية، مؤشراً ذا معنى على هذا الصعيد. 3: لم يكن من دون معنى اقدام الإسرائيليين على ضرب هدف في العمق السوري قبل شهور، قيل في حينه إنه منشأة نووية قيد الإعداد، مع ما ينطوي عليه ذلك من احتمال، (ولو نظرياً)، أن تكون هذه العملية بمثابة عود ثقاب لإشعال حرب، أعتقد أيضاً أن الإسرائيليين بدعم أميركي، لا بد انهم أعدوا النفس لها، وحرصوا على أن يكون زمام المبادرة فيها بأيديهم. 4: ليس مِن دون معنى استمرار الضغط الأميركي الإسرائيلي باتجاه تصعيد وتيرة العقوبات الدولية المفروضة على ايران، وآخرها ما صدر عن مجلس الأمن مؤخراً، وعدم تسهيل الطريق أمام فرص التوصل الى حلٍ ديبلوماسي لأزمة ملفها النووي، الذي ينذر بنشوب حرب اقليمية لا تبقي ولا تذر من جهة، ويبقى حتى حسمه، (سلماً أو حرباً)، بمثابة عامل تفجير كامن ومتشابك مع باقي ملفات المنطقة وصراعاتها، مع كل ما ينطوي عليه ذلك من احتمالات للحرب، أعتقد أن الأميركيين والإسرائيليين، لا بد انهم يعدون النفس لها، ويحرصون على أن يبقى زمام المبادرة فيها بأيديهم. على ما تقدم، فإنه لا مبالغة في القول: إن راهن السياسة الأميركية الإسرائيلية ينحو للمواجهة ولغتها الحربية العنيفة، وذلك برغم دعايتها ذات اللغة الديبلوماسية الناعمة الرامية للتغطية وذر الرماد في العيون من جهة، وكسب المزيد من الوقت لاستكمال الإعداد والاستعداد السياسي والعملي من جهة ثانية. التقدير السابق للوجهة العامة للسياسة الأميركية الإسرائيلية لا يهدف الى اثارة الرعب، بل يصبو الى ضرورة فهم الأمور كما هي، مع كل ما يفرضه ذلك من سياسات عامة وتكتيكات قريبة ومتوسطة، الأمر الذي لا يستجيب له خطاب سياسي شعبوي لا يرى من وجهة السياسة الأميركية الإسرائيلية الذاهبة للمواجهة، غير ما تفعله من عمليات تكتيكية هنا أو هناك، هي عملياً ليست سوى أشجار في غابة (حرب)، قد تطل على المنطقة، وتبدأ في مكان ما، وتشتعل في زمان ما، تحددهما جملة من العوامل، يقع في مقدمتها: استكمال الاستعدادات، والتبصر في السيناريوهات، والعمل على كسب أكبر قدر من التحالفات وتحييد أكبر قدر من الأعداء القائمين والمحتملين. بهذه الأسئلة الكبيرة والمفتاحية يجب أن ينشغل العقل القيادي الفلسطيني، على اختلاف مشاربه، ورغم تشرذمه، ذلك ببساطة، لأن القضية الفلسطينية ومشروعها الوطني، تبقى في عين العواصف المحتملة للسياسة الأميركية الإسرائيلية، التي لا يشكل ما جرى في غزة على مدار الاسبوع المنصرم، والمرشح للتصعيد، وإن، (على الأغلب)، دون الاجتياح الواسع الشامل، غير نقطة في بحرها. وعليه، فإنه مِن المبكر فعلاً الحديث عن النصر والهزيمة.
اقرأ المزيد...
بقلم: ريما كتانة نزال
تاريخ النشر: 2018/7/23
بقلم: جهاد حرب
تاريخ النشر: 2018/5/12
بقلم: وكالة معا الاخبارية
تاريخ النشر: 2018/5/2
|