وهذه قمّة عربية أخرى تنقضي ويمضي القادة العرب في طريقهم ويتفرق العشاق وسط آمال عريضة رسمت من جديد لتشرح ما هو واضح وخيبات القواعد الشعبية العربية، أي الجماهير المحبطة من المحيط الى الخليج وهي ترى الجراح تزداد نزفاً والأزمات تشتد تعقيداً والآلام تتسع من دون أن يسمع أحد صرخات المحرومين والمظلومين والمنكوبين بحروبهم والمكتوين بنيران احتلالات متعددة الجنسية والمخلصين لقضايا أمتهم والأوفياء لمبادئ الوحدة والكرامة والحرية والتحرر والعدالة وسيادة القانون. منذ بدايات القمم والعرب يعلقون عليها الآمال الجسام خلال الفترات التي تسبق انعقادها ويضعون أيديهم على قلوبهم خلال أيام انعقادها خوفاً عليها من الفشل وضناً بالأمة المثخنة بجراح الماضي وسكاكين الغدر الداخلي والخارجي، ثم يندبون حظهم بعد انفراط عقدها ويكيلون التّهم والسباب لكل من أسهم في التسبب بخيبات أمل جديدة تضاف الى سابقاتها لتشكل جداراً غليظاً يفصل بين العربي والمستقبل الذي يرنو اليه والحلم الذي يراوده والاستقرار الذي ينشده. قرارات قرارات قرارات لا تكاد تصدر حتى يلحس الموقعون تواقيعهم عنها، وبيانات بيانات بيانات ما أن تعلن حتى يطلب منا بكل صراحة أن ننسى مضمونها وربما أن «ننقعها ونشرب ماءها» حسب الوصفات الشعبية السائدة هذه الأيام. شجب وتنديد ووعيد وتهديد للعدو الصهيوني الغاشم الذي «استوطى حيطان العرب» لأكثر من 60 عاماً واستخف بقدراتهم واستهزأ بقراراتهم ومواقفهم... ومناشدات وإدانات واتهامات لقوى أجنبية بالانحياز لإسرائيل نعرف ويعرفون انها صماء بكماء إزاء قضايانا... ووعود براقة للعرب بتحقيق المعجزات وحشد الطاقات وتأمين متطلبات الوحدة والتحرير وصد الأعداء ومجابهة المطامع، سرعان ما تذهب أدراج الرياح ولا يتحقق منها حتى الحد الأدنى والنذر اليسير من المطالب والضرورات والحاجات العربية الملحّة. هذه هي العادة السارية المفعول، وهذه هي المعضلة التي عانينا منها على امتداد العقود وسط اسطوانة نرددها باستمرار عن المرحلة الحرجة والظروف التاريخية الصعبة التي تمر بها الأمة، وعن الحاجة الى الوحدة والتضامن واتخاذ القرارات المصيرية. وهذه قمة أخرى تنصرم وسط أجواء مكفهرّة تعمّ العالم العربي من المحيط الى الخليج ومشاكل ما أنزل الله بها من سلطان بعضها من فعل أيدينا الآثمة وبعضها من فعل العدو الصهيوني وبعضها الآخر من فعل وتحريض المطامع الأجنبية. وها نحن ننتظر الأفعال لا الأقوال وآلية تنفيذ القرارات لا تكرار آلية طحنها في آلة النسيان أو ضمها الى سابقاتها المسجاة في أدراج الجامعة العربية لتدفن تحت ركام غبار التخاذل. فالأهم من القرارات هو التنفيذ، والتنفيذ لا يكتمل إلا بتوافر الإرادات الحرة والعزيمة الأكيدة والنيات الحسنة وخطة العمل وخريطة الطريق ووضع جدول زمني محدد تشرف على إتمامه لجنة حكماء تمثل القمة. قيل في السابق وتكرر بالأمس أن مجرد انعقاد القمة العربية في موعدها يمثل في حد ذاته نجاحاً وإنجازاً لأن البديل هو الضياع ودق المسمار الأخير في نعش مؤسسة القمة. فالاجتماع يصور للعالم، ولو من ناحية معنوية، أن لدى العرب مؤسساتهم ومرجعياتهم، أو كما يوحي البعض أن للعرب أسناناً وأظافر يجب أن يهابها الآخرون ويحسبوا لها ألف حساب. وهذا صحيح في المبدأ، وفي الشكل والمظهر، لأن عدم انعقاد القمة سيزيد سخرية العالم واستخفاف الأعداء بالعرب والزعم بأنهم لم يتفقوا على الاجتماع أو بسخرية أكبر أنهم لا يعرفون كيف يتفقون على أن لا يتفقوا. لكن الخلافات داخل المؤسسة واستمرار التجاذب والتنابه ستؤدي حتماً الى تكبيد العرب خسائر إضافية وتضيف الى خيبات أملهم خيبة جديدة. ولو تجاوزنا سير المناقشات وتفاصيل الخلافات وشكل الاجتماع، وحجم الحضور، ومضامين البيانات، وفعالية القرارات فإن علينا أن ننتظر ما سيحكم به التاريخ لتقيم الجماهير محاكمة ومحاسبة لذلك مع مرور الأيام بعد أن «يذوب الثلج ويظهر المرج». ولكن ماذا تريد الجماهير من كل هذه القمم وآخرها قمة دمشق؟ لا شك أن لحظة الانعقاد كانت تحمل الكثير من الغموض والشكوك والتساؤلات لأن المرحلة دقيقة وأوضاع العرب في مجملها لا تسر بل تحمل في طياتها كل دواعي القلق من المجهول الآتي والخوف من العواصف القادمة المتوقعة والتي لن ترحم أحداً بل ستطال رؤوسنا جميعاً بلا استثناء. من فلسطين التي ترزح تحت احتلال غاشم وتعاني صراع أخوة السلاح والدم والمصير وتفتيت الوطن الحلم الذي لم يبصر النور بعد، الى لبنان الذي يعيش على إرهاصات أحداث مدوية قد تنسف الصيغة والكيان والوحدة والحاضر والمستقبل بسبب الأوضاع المعروفة والأزمات المصطنعة وانسداد الأفق وغياب الحكمة وانحدار الحس الوطني وجفاف مشاعر حب الوطن والصراعات الإقليمية والعربية والدولية التي اختارت هذا البلد الصغير الجميل مسرحاً لمنازلة قاتلة آثمة واتخذت من قضية انتخاب رئيس أو تشكيل حكومة وتقاسم حصص ستاراً وذريعة وقميص عثمان تختبئ في ثناياه. وفي العراق الجريح نزف آخر لا حدود له واحتلال يخطط لإقامة قواعد دائمة في أراضيه فيما أهل البلد يتقاتلون ويغرقون في بحر دماء الفتن الطائفية والمذهبية والعرقية والدينية ويفسحون المجال للإرهابيين والمافيات والفاسدين واللصوص والمجرمين ليعيثوا فساداً في دار السلام وأرض الخلافة والتاريخ والحضارة. ولا ننسى الصومال وحروبه العبثية والسودان وحروبه المدمرة في الشرق والغرب والجنوب ودارفور، ولا الأزمة المفتعلة في الصحراء الغربية التي تدق اسفيناً دائماً في العلاقات بين المغرب والجزائر. ولا ننسى أيضاً التهديد الصهيوني الدائم للعرب حاضراً وحضارة ومستقبلاً ومصيراً والمطامع الأجنبية في ثرواته وأراضيه والمخططات المرسومة للتقسيم والتفتيت. ولا ننسى معها المطامع الإقليمية بعدما كاد العرب يفقدون مفاتيح القرار وأوراق القوة في عقر دارهم، وفي منطقتهم المسماة: الشرق الأوسط، لتتحول الى أيدي الآخرين: أي إيران وتركيا وإسرائيل ومعها الولايات المتحدة التي حلّت بين ظهرانينا في عملية تواطؤ مشينة ستكشف خباياها الأيام. ولكن هل تريد الجماهير العربية من القمة حل كل هذه العقد ومجابهة كل هذه الأخطار؟ من الطبيعي أن نتواضع ونرد بكل تعقل وحكمة وعقلانية وبراغماتية أن القضايا كثيرة والمطلوب واحد، هو استعادة الحد الأدنى من التضامن العربي والانطلاق منه نحو المطالب بالتدريج وعلى مراحل ولو طال زمن التنفيذ. فخيبات الأمل السابقة جعلتنا نقبل بالفتات، بكل أسف، ودفعتنا الى التمسك ولو بقشة تنقذنا من الغرق أو بشعرة معاوية تصل بين العرب وتعيد إلينا حلم حل الخلافات العربية والبدء بفك العقد التي تقض مضاجع الأمة عقدة عقدة. فالمواطن يعاني ويتألم والأوطان تنزف وتستنزف خيرات وثروات وبشراً وعقولاً وأدمغة مهاجرة، والأمية تفتك بالجسد العربي في عصر العلم وثورة التكنولوجيا، والبطالة تهد هذا الجسد المثخن بالجراح وتولد نقمة وحقداً وعنفاً وإرهاباً وتنذر بالشؤم والويلات وتدق نواقيس خطر في يوم قد لا يكون بعيداً، والغلاء يفتك بالملايين، والعلل الكثيرة تتكالب علينا من كل حدب وصوب. هذه هي الصورة البانورامية للواقع العربي المرير نضعها برسم القادة العرب وهم يودعون قمتهم الأخيرة ويعودون الى بلادهم حاملين هموم أمتهم وفي رقابهم أمانة تاريخية لن يفلتوا من حساب يوم آت في حال لم يتحركوا لوضع خريطة طريق لإنقاذ ما يمكن قبل فوات الأوان حيث لا ينفع الندم. أما الرئيس السوري بشار الأسد فمسؤوليته اليوم ستتضاعف لأنه سيحمل أمانة أكبر وهي رئاسة القمة العربية من الآن وحتى موعد القمة المقبلة وسيدخل في نطاق مسؤولياته الإسراع بتحقيق المصالحات العربية وكسر الجليد بين القيادات وبخاصة مع السعودية ومصر لإعادة الحياة الى محور الخير الذي كان يشكل ضمانة للاستقرار، والإسراع بالعمل على حل الأزمة اللبنانية وتجنيب اللبنانيين ويلات حرب طاحنة مدمرة ثم تحقيق المصالحة بين الفلسطينيين ووقف نزيف الدم قبل الانطلاق في عمل عربي مشترك يضع استراتيجية للقمة العربية المقبلة تحفظ للأمة كيانها واستقلالها وتعيد إليها أوراق الحل والربط والقرار بعيداً من المطامع الأجنبية والصهيونية والإقليمية. أما البديل من هذه الفرصة فهو الضياع التام والموت الزؤام والنهاية المرعبة للأمة ودفن مؤسسة القمة الى الأبد وكأنها من الرماد قامت وإلى الرماد تعود لا سمح الله. فقد قيل قبل عقد القمة ان مجرد انعقادها يشكل نجاحاً، والآن يجمع العرب بعد اختتامها ان المهم هو النتائج ومجريات الأمور بعد القمة حتى يتم التقييم ويكتمل الحساب ونوقف خيبات الأمل. إنها فرصة تاريخية والفرص التاريخية تأتي مرة واحدة... ولا تتكرر. دار الحياة
اقرأ المزيد...
بقلم: ريما كتانة نزال
تاريخ النشر: 2018/7/23
بقلم: جهاد حرب
تاريخ النشر: 2018/5/12
بقلم: وكالة معا الاخبارية
تاريخ النشر: 2018/5/2
|