مأساة إنسانية لا مثيل لها، بين المآسي الإنسانية ذات المنشأ السياسي، تلك التي يعيشها نحو المليون ونصف المليون إنسان فلسطيني في قطاع غزة، منذ سنتين، ومنذ عشرة أشهر على وجه الخصوص، فقطاع غزة هو التجربة التي لا مثيل لها لجهة الوحشية التي يمكن إدخالها في الوسائل والأساليب، توصُّلاً إلى أهداف سياسية صرف. على أنَّ تلك المأساة، وعلى عظمتها، تبدو ضئيلة وصغيرة إذا ما قورِنت بتوأمها، وهو المأساة التي حلَّت بكثير من المواقف العربية والدولية مِمَّا يعانيه أهل القطاع نتيجة استمرار واشتداد حصاره، وعزله عن العالم، وتَرْكِه فريسة لآلة الحرب الإسرائيلية التي تُمْعِن في نشر الموت والدمار فيه. هل تجويع مليون ونصف المليون إنسان فلسطيني هو الوسيلة التي يجب استعمالها توصُّلاً إلى هذا الهدف السياسي أو ذاك؟ وهل هذا اللون من سياسة "العقاب الجماعي" للمدنيين من أطفال ونساء وشيوخ غدا جزءاً لا يتجزأ من الجهود والمساعي المبذولة من أجل التوصُّل إلى حلٍّ نهائي للنزاع بين إسرائيل والفلسطينيين، وكأنَّ هذا الحل لا يمكن بلوغه أبداً إلاَّ بوسائل وأساليب في منتهى الوحشية؟ لقد كنَّا نتوقَّع قراراً عربياً جماعياً يَعْكِس رغبة العرب في أن يقوموا بأقل وأصغر شيء يمكنهم القيام به ضدَّ هذا النهج الإسرائيلي ـ الدولي، أي نهج "الحل عَبْر التجويع الجماعي"، فما الذي منع، ويمنع، العرب جميعاً من أن يقرِّروا أنَّهم لن يسمحوا أبداً، ومهما كان السبب، بتجويع أهل القطاع، وبجعل المرضى والجرحى هناك بلا دواء أو علاج؛ ومن أن يمارسوا هذا القرار، الذي هو إنساني وأخلاقي في المقام الأوَّل؟! الغذاء والدواء.. لنحو مليون ونصف المليون إنسان فلسطيني يجب ألاَّ يكونا، أو يظلاَّ، جزءاً من وسائل وأساليب الضغط السياسي، وأن يعودا إلى عالمهم الحقيقي، أي إلى عالمهم الإنساني الذي لا تُفْسِد السياسة ما يقوم عليه من قيم ومبادئ. إنَّ أقلَّ شيء كان يمكن أن تقوم به الدول العربية، في قمَّة دمشق، أو في اجتماع آخر تعقده الآن، هو إنشاء هيئة عربية (يمكن جعلها "عربية ـ دولية") للإغاثة الإنسانية، تقيم مقرَّاً لها في القطاع، وتتولَّى توزيع ما تُدْخِله إليه من مساعدات إنسانية، غذائية ودوائية في المقام الأوَّل. قد تفشل الدول العربية في إقناع إسرائيل بإنهاء حصار الغذاء والدواء الذي تضربه على أهل القطاع، أو في إقناع الولايات المتحدة بأن تُقْنِع إسرائيل بذلك. وقد تفشل في جهودها ومساعيها لحل أزمة معبر رفح بما يتَّفِق مع الاتِّفاق الخاص بفتحه وتشغيله. وقد تفشل حتى في إدخال تلك المساعدات الإنسانية عَبْر المعابر التي تسيطر عليها إسرائيل. ولكنَّها، أي الدول العربية، يجب ألاَّ تفشل في حشد وتجميع ما يكفي من الغذاء والدواء، ومن معونات إنسانية أُخرى، وفي نقلها إلى مصر، ثمَّ إلى الجانب المصري من معبر رفح، الذي يُفْتَح، عندئذٍ، لتمكين أهل القطاع المتضوِّرين جوعاً من الحصول على تلك المساعدات. ليس مهمِّاً الآن أن يُفْتَح معبر رفح لتمكين أهل القطاع من زيارة الأراضي المصرية، أو من السفر من مصر إلى الخارج. المهم الآن، حيث الجوع الجماعي يوشك أن ينفجر، أن يُفْتَح معبر رفح لأسباب إنسانية صرف، ولتأكيد أنَّ العرب لن يقبلوا أبداً سياسة تجويع الفلسطينيين، أو جَعْل جوعهم الجماعي سياسة، أو وسيلة سياسية. وفتح هذا المعبر على هذا النحو يقي الفلسطينيين والمصريين شرور أعمال من قبيل اقتحام الحدود، ويؤسِّس لسوق واسعة مؤقَّتة على الجانب المصري من المعبر، فتَخِفُّ كثيراً المعاناة الإنسانية لأهل القطاع. وغني عن البيان أنَّ فتح معبر رفح على هذا النحو، ولهذا الغرض، لا يُعَدُّ خَرْقاً مصرياً للاتفاق الخاص بفتح وتشغيل المعبر، ولا لأيِّ اتفاق بين مصر وإسرائيل؛ كما أنَّ الضرورات الإنسانية تبيح بعض المحظورات السياسية والقانونية. أمَّا إذا أَزَّمت إسرائيل الأمور فيُمْكِن، عندئذٍ، تنفيذ الاتِّفاق الخاص بالمعبر بما يساعِد في إدارة هذا الحل للأزمة الإنسانية (الغذائية في المقام الأوَّل) التي يعانيها أهل القطاع، فإغاثتهم غذائياً ودوائياً..، هي مهمَّة الساعة؛ وهذه المهمَّة يمكن ويجب إنجازها قبل التوصُّل إلى حلٍّ نهائي لأزمة المعبر، يوافِق، أو لا يُوافِق، الاتِّفاق الخاص به. وإذا رفضت إسرائيل حتى هذا الحل الإنساني المؤقَّت فلا بأس، عندئذٍ، من أن يعود الوضع في هذا المعبر، وعلى جانبيه، إلى ما كان عليه قبل إنهاء الإسرائيليين لسيطرتهم العسكرية والأمنية المباشِرة عليه، فإسرائيل يجب أن تَظْهَر على أنَّها ما زالت "قوَّة احتلال" هناك، وأن تتحمَّل، بالتالي، مسؤولياتها كاملة حيال الخاضعين لاحتلالها، بموجب القانون الدولي. قد نختلف في كل شيء؛ ولكن ينبغي لنا جميعاً أن نتَّفِق على أمْرٍ واحد في منتهى الأهمية هو أنَّ سياسة العقاب الجماعي لنحو مليون ونصف المليون إنسان فلسطيني في قطاع غزة، والتي يُتَرْجَم بعضها بهذا التجويع الجماعي، وبمنع الدواء والعلاج عن المرضى والجرحى، وبتهيئة أسباب الكارثة الصحيَّة العامَّة، يجب أن تنتهي، وأن تتضافر جهود الفلسطينيين جميعاً، والعرب جميعاً، على إنهائها، مهما كانت العواقب، فليس ثمَّة ما هو أسوأ إنسانياً وأخلاقياً، وبالتالي، سياسياً، من تَقَبُّل هذه المعاناة الإنسانية بوصفها جزءاً من لعبة الصراع السياسي، فالسياسة التي تتسلَّح بجريمة كتلك التي ترتكبها إسرائيل في حق الأطفال والنساء والشيوخ.. وسائر المدنيين من أهل القطاع تكف عن كونها سياسة، وتصبح جريمة متلفِّعة بالسياسة!
اقرأ المزيد...
بقلم: ريما كتانة نزال
تاريخ النشر: 2018/7/23
بقلم: جهاد حرب
تاريخ النشر: 2018/5/12
بقلم: وكالة معا الاخبارية
تاريخ النشر: 2018/5/2
|